البحث

عبارات مقترحة:

المحسن

كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

المتعالي

كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...

نظرة الإسلام إلى المال

العربية

المؤلف محمد الغزالي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - المعاملات
عناصر الخطبة
  1. مكانة المال في الإسلام .
  2. حرية التملك وضوابطه .
  3. نظرية الاستخلاف .
  4. التكافل في الإسلام .
  5. غنى التراث الإسلامي بالفكر الاقتصادي .
  6. محاولات علمنة الاقتصاد .

اقتباس

وللإسلام موقف من المال نحب أن نشرحه، فإن بعض المثقفين الجدد يظنون أن الدين تحدث في العقائد أو في العبادات، وأن حدوده شرقاً وغرباً تنتهي بالعقائد والعبادات، أما حديثه عن المال والاقتصاد فحديث مستغرب منه، ومستكثر عليه؛ وما درى أولئك المثقفون الجدد من ضحايا الغزو الثقافي الاستعماري العالمي أنه ما من مصلحة للعباد تقربهم لربهم إلا ودين الله أكدها، ولا مضرة تصرف الناس عن ربهم إلا أبعدها وندَّد بها وبارتكابها ..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فإن المال لا يُطلب لذاته في هذه الدنيا، وإنما يطلب عادة لما يضمنه من مصالح، ولما يحققه من منافع، إنه وسيلة، والوسيلة تُحمد أو تعاب بمقدار ما يترتب عليها من نتائجَ حسَنةٍ أو سيئةٍ.

المال كالسلاح، والسلاح في يد المجرم يقتل به الآخرين، ولكنه في يد الجندي قد يدفع به عن وطنه، أو يحرس به الأمن في بلده، فليس السلاح محموداً أو معيباً لذاته، والمال كذلك، وقد قال الله تعالى في المال وما يسوق لأصحابه في الدنيا والآخرة من خير أو شر، قال تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) [الليل:4-11].

والمال كما يكون زينة الحياة يُيَسِّر مباهجها، ويقرب شهواتها، فقد يكون كذلك سياج الدين، وضمان بقائه، ومدد تسليحه وحمايته، وقد قال الله في وصف المال والبنين: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف:46]، وقال كذلك في قيمة المال والبنين لإحراز النصر، ورفْع الشأن: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) [الإسراء:6]. فتنتصر الأمم بالمال والبنين، وتنهزم كذلك بالمال والبنين، يوم يكون مالها أداة ترف، ويوم يكون مصدر استعلاء وطغيان، ويوم يكون أبناؤها طلَّابَ ملذَّة، وأحلاس لهو ولعب.

وللإسلام موقف من المال نحب أن نشرحه، فإن بعض المثقفين الجدد يظنون أن الدين تحدث في العقائد أو في العبادات، وأن حدوده شرقاً وغرباً تنتهي بالعقائد والعبادات، أما حديثه عن المال والاقتصاد فحديث مستغرب منه، ومستكثر عليه؛ وما درى أولئك المثقفون الجدد من ضحايا الغزو الثقافي الاستعماري العالمي أنه ما من مصلحة للعباد تقربهم لربهم إلا ودين الله أكدها، ولا مضرة تصرف الناس عن ربهم إلا أبعدها وندَّد بها وبارتكابها.

والإسلام ينظر إلى المال من نواح عديدة، والناحية التي نتحدث عنها اليوم نريد أن نتدبرها بأناة؛ لأنها تفرق بينه وبين بعض المذاهب الاقتصادية السائدة في الدنيا.

الإسلام يضمن أو يبيح ويقر حرية التملك، ويعتبر حق التملك حقاً له قداسته ومكانته، ويعتبر أن الجوار على هذا الحق أو توهينه في المجتمع ليس من شأن المسلمين، ولا هو من مسالك الأتقياء؛ إذ لكل إنسان الحق المطلق في أن يكتسب بكَدِّ يمينه وعرَق جبينه ما يقيم به معايشه، وما يصون به مروءته، وما يربي به ولده، وما يحفظ به عرضه؛ لكل إنسان الحق كاملاً في هذا، والله عز وجل يرفض أي عدوان على حق التملك، أو اجتياح لحقوق الناس المالية دون سبب مشروع، فيقول جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...) [النساء:29]، ويقول جل شأنه: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:188]، ويقول جل شأنه: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً) [النساء:5]، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" رواه مسلم.

وكما أن العدوان على الدم والعرض منكر لا يُقبل، فكذلك العدوان على المال، وفي خطبة الوداع بيَّن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما ينبغي لحقوق الناس المالية من قداسة، فقال بعد أن تساءل: أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟... قال: "فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا".

وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقف على ممر الناس إلى طريق الجهاد ويقول :"أيها الناس! من كان يعلم أنه إذا مات في هذا الوجه وعليه دَيْن لا يدع له قضاء فليرجع؛ فإنه لن يصيب أجراً بجهاده". أي يقول للمدين: قبل أن تجاهد سدِّد الدَّيْن الذي عليك، فربما خرجت فمت، دون أن تدع تركة تكفي سداد دينك، فتلقى الله وأنت مدين.

وهكذا كان المسلمون يحترمون حق التملك، لكن الإسلام الذي احترم حق التملك أثقله بالقيود، وقبل أن نقول ما هي القيود التي أثقل الإسلام بها حق التملك أريد أن أشرح شرحاً عقلياً السبب في أن الإسلام احترم الملكية الخاصة، ورفَض ما تبنته بعض النظريات القديمة والحديثة من شيوع المال ورفْض الملكية الخاصة.

الواقع أن الإسلام احترم الملكية الخاصة لأنه يحترم حرية الإنسان، ولما كان حق التملك جزءاً من الحرية الإنسانية فإن الإسلام لم يصادره، والله -سبحانه وتعالى- لم يخلق الإنسان ليكون عبد أحد، وإنما خلقه ليكون عبد ربه وحده -جل شأنه-، ومن حق الإنسان أن يكون حراً، ومن تمام حريته أن يمتلك، هذا سبب؛ وسبب آخر هو أن تثمير الأموال وزيادة الإنتاج إنما يكونان مع الملكية الخاصة، فإن صاحب المال الذي يعلم أن يده عليه وحقه فيه يسهر على حمايته، ويفتن في إبعاد الآفات عنه، ولكنه يوم يعلم أن هذا المال ليس له، وأن زيادته لن تعود عليه؛ فإن لا يبالي زاد أم نقص، وإن بالَى فإن دوافعه إلى حفظه ستكون أضعف من دوافعه النفسية عندما يكون المال ملكاً له.

وقد ثبت عن طريق التجربة أن المال الخاص أنمي وأقدر على المضي في سلم الترقي والزيادة من أي مال عام. هذه هي الأسباب، وهناك أسباب أخرى جعلت الإسلام يحترم الملكية الخاصة.

ومع احترام الإسلام للملكية الخاصة فإنه أثقل من هذه الملكية بالقيود، ولعل أول هذه القيود وأجدرها بأن يُنبَّه إليه أن الإسلام لا يحترم الملك الخاص إلا إذا كان من وجه صحيح، ومن طريق مباح؛ أما أن يكون التملك من ربا، أو من احتكار، أو من غصب، أو من قمار، أو من احتيال، أو من أي باب من أبواب السحت، فإن الإسلام يرفض هذا التملك رفضاً باتاً، بل يرى أن المرء إذا كسب ثوباً من حرام فصلَّى فيه لم تقبل صلاته، وإذا نمى جسمه من سحت فإلي جهنم، هكذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به" رواه أحمد.

وفي الأرض الزراعية بالذات يقول: "من ظلم قِيد شبر من الأرض طُوِّقه من سبع أرضين". رواه البخاري.

أول ما يقيد الإسلام الملكية به أن يقول لك: أبصِر جيداً القرش الذي تكسبه: أمِن حرام هو أم من حلال؟ فإن كان من حرام فلا حق لك فيه، وما يجوز أن تستبقيه، بل يجب أن تتركه فوراً، فإذا كسبت من حلال، فللإسلام هنا توجيهات؛ أولها ألَّا تظن نفسك المالك الأصيل لهذا المال، بل اشعر أن المالك الأصيل له هو ربك الذي خولك وملكَك ومنحَك وأعطاك، وأنت لست إلا صاحب يد عارضة عليه، ومن فضْل الله عليك أن جعل يدك في هذا المال تعطي نفسك، وتعطي غيرك، والمالك الأول هو رب العالمين. هذا المعنى هو الذي أكده القرآن في قوله جل شأنه: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد:7].

سئل أعرابي كان في قطيع غنم يملكها، سئل: لمن هذا القطيع؟ كان جواب الرجل: هو لله عندي!. وهذا جواب سديد، فلا تظن نفسك بالتملك قد أصبحت مالك الملك، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الشورى:49]. فاعتبر نفسك مستخلَفاً، وهذه النظرية –نظرية الاستخلاف– تجعلك تدقِّق فيما تنفقه على نفسك أو على غيرك، أي ليست حريتك مطلقة، فأنت مراقَب في تصرفك، مراقب من صاحب المال الذي وظفك فيه، المال مال الله، هذه ملاحظة.

الملاحظة الثانية هي أن الإسلام يطلب من أبنائه أن يكونوا أصحاب هِمم، فكسب المال عندهم يخضع لتصرف الهمة الكبيرة، قد يكون المال قريباً منك، ولكن لا ينبغي أن تأخذه من أيسر سبيل وتقعد. عندما عُرض على عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أن يمتلك وأن يعيش على فضل أخيه كان جوابه: لا، دُلُّوني على السوق.

وبهذا الخلق استطاع المهاجرون أن يزاحموا الاقتصاد اليهودي في المدينة المنورة، وأن يجعلوا المال إسلامياً، وهذا شيء له خطورته في كسب النصر للدين نفسه، فإن الاقتصاد يوم تعبث به أيدي من لا ملَّة لهم ولا شرف؛ فإنهم يسخِّرونه في ضرب الملة السمحة.

ومن هنا اعتبرتْ يد المعطي هي اليد العليا، الله هو الأعلى، ويد المعطي يد عليا، والآخذ يده دنيا، ولِأَنْ تكون أسداً تأكل الثعالب من فضَلاته، أشرفُ من أن تكون ثعلباً تأكل من فضلات الناس؛ ولذلك كان الإسلام شديد الحض على أن ينطلق المؤمنون في المشارق والمغارب يكسبون رزقهم، ويطلبون فضل الله في فجاجه المبعثرة هنا وهناك، أو المخبوءة تحت طباق الثري، وهذا سر قوله -جل شأنه- :(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ...) [الأعراف:10].

(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:10-14].

والمدهِشُ أنَّ البحرَ المسخَّر للناس يستخرجون منه اللحم الطريَّ، أعجَزُ أهلِ الأرض في استخراجِ سَمَكِهِ هم المسلمون! إن أمتنا -في الحقيقة- معطوبةٌ في صميمها؛ لأنها فقدت الكثير من حسِّها الدقيقِ بالدِّين والدُّنيا معاً.

إن احترام الإسلام حق التملك يُيَسِّر للناس أسباب التملك، كما سمعتم: (... هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61]. ومع ذلك يجيء من ينتسب إلى العلم الديني -وهو جهول يجب طرده من ميدان العلم والدين معاً- يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه بُعث بخراب الدنيا لا بعمارتها! وما أكثر الأكاذيب التي تشاع باسم الإسلام! التي جعلت المسلمين يعيشون في الدنيا على فضلات الأقوياء؛ وبذلك أصبحت أيديهم هي الدنيا. وفي الوقت نفسه أصبح دينهم في المرتبة الدنيا، لأنه ما ينتصر دينٌ بغير دنيا، كيف تنصره إذا كنت فارغ اليد؟ كيف تحميه إذا كنت فقيراً لا ثروة لك؟ كيف..كيف؟.

فإذا ملكت من حلال فإن الإسلام يوجب عليك أموراً، أول ما يوجبه الإسلام فريضة الزكاة، وهي فريضة ليست هينة، ولو أن المسلمين أخرجوا زكاة أرصدتهم وأموالهم، وتتبَّعوا بها ثغَرات المجتمع وعورات الناس؛ لأراحوا الأمة من بلاء كثير.

ولقد حدث أيام الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-، وكان أميراً عادلاً، وخليفة راشداً، حدث ببركة العدل، وبركة الإيمان والتراحم، أن الزكاة أخرجت في أفريقيا، أي في مصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، ومراكش؛ خرجت الزكاة فلم يوجد لها من يأخذها في هذه الأقطار الرحبة كلها؛ لأن الله أغنى الناس بعدل عمر. فماذا صنع عمر؟ أمر بأن يُشترى بالزكاة عبيد ويُحَرَّرون بمال الزكاة، واعتبر ذلك مصرفاً بنص الآية: (وَفِي الرِّقَابِ) [التوبة:60].

إن الخير الكثير يمكن أن يتحقق إذا وجدت فيه نية التراحم والعطاء، ووجد القصد الذي يستهدف وجه الله بما يعطي وبما ينفق، وقد قاتل الإسلام من أجل الزكاة، وكان قتاله فيها حاسماً، ولعله أول قتال ظهر في تاريخ البشرية نصرةً للفقراء، فقد الناس يتقاتلون لأمور كثيرة، ولكن أول جيش ظهر في تاريخ الإنسانية يحارب ليرغم الأغنياء على إخراج الحق المعلوم للفقراء والمساكين هو ما فعله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-.

قد تكون الزكاة حداً أدنى، فإن المجتمع ربما ظهرت له حاجات، وهنا على الناس أن ينفقوا، وهنا يجيء دور الصدقة، وهو ما أشار إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يعلم الناس في مجتمع المدينة المنورة كيف يتعاونون ويتراحمون: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربع فخامس أو سادس" رواه البخاري، وفي الحديث أيضاً: "من كان معه فضل ظهر فلْيَعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من زاد له" قال أبو سعيد: "فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحدٍ منا في الفضل" رواه مسلم.

وفي حديثٍ رواه أبو داود، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " تكون إبلٌ للشياطين، وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين فقد رأيتها، يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيراً منها، ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله".

إن النبي -عليه الصلاة والسلام- طبق على نفسه هذه القضية، فعندما كانوا يسيرون إلى "بدر" -والمسافة بين بدر والمدينة المنورة أكثر من مائة كيلو متر- كانوا يتعاقبون، كل ثلاثة على جمل، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يمشي وهم يركبون، فقالوا: يا رسول الله! اركب أنت ونمشي نحن، فرفض، وقال: "ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا أغنى منكما عن الأجر". لست بأغنى منكما عن ثواب الله! الخطوات في سبيل الله لها أجرها، وأنا فقير -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى هذا الأجر! هذه هي طبيعة الكبار، طبيعة النفس الكبيرة!.

وما قرره الإسلام في هذا جاءت به مكارم الأخلاق في بلاد العرب من قديم، فمما نحفظه من شعر حاتم:

إِذَا كُنْتَ رَبَّاً لِلْقَلُوصِ فَلا تَدَعْ

رَفِيقَكَ يَمشِي خَلْفَهَا غَيْرَ رَاكِبِ
أَنِخْهَا فَأرْدِفْهُ فَإنْ حَمَلَتْكُمُ فَذَاكَ، وَإِنْ كَان العِقَابُ فعَاقِبِ

القَلوص: الناقة. وإن كان العقاب فعاقب: أي: إن كانت تضعف عن حملكما معاً فتعاقبا عليها، أنت تسير وتعقبه وهو يركب ثم يعقبك، وهكذا.

ومما يعرف في تاريخنا العربي الأدنى -والعصر الحديث لا يعرف هذا- أن شاعراً اسمه عروة بن الورد يقول مخاطباً آخر، ويبدو أن الآخر كان بديناً قوياً، يقول:

وَإِنِّي امْرُؤٌ عَافِي إنائِي شِركَةٌ

وَأَنْتَ امْرُؤٌ عَافِي إِنائِكَ وَاحِـــدُ
أَتَهْزَأُ مِنِّي أَنْ سَمِنْتَ؟! وَأَنْ تَرَى بِوَجْهِي شُحُوبَ الحَقِّ، والحَقُّ جَاهِدُ
أُقَسِّمُ جِسْمِي فِي جُسُومٍ كَثِيرَةٍ وَأَحْسُو قَرَاحَ الماءِ، وَالماءُ بَارِدُ

ومعنى الأبيات الثلاثة: يقول الرجل لصاحبه أنت تهزأ بي لأن شحوب الحق أجهدني، والحق قد يجهد أصحابه، إذا كنت تهزأ بي فالسبب واضح؛ أني امرؤ طبَقِي شركة بيني وبين غيري، أما أنت فتنفرد بطبقك تأكله وحدك.

هذه المعاني أو هذه الآداب لو كانت في أوربا وأمريكا لكتبت بماء الذهب كما يقولون! قيل: هذا تراثنا من أنضر صور الاشتراكية، وهذه كلمة ضقت بها من كثرة ما لُوِّثت من تطبيقات رديئة، ومما اكتنفها من لصوصيات خبيثة.

إن عندنا في الإسلام نظماً اجتماعياً لا نظير لسموها وشرفها، يقول ابن حزم في كتابه "المحلي": "ولكل مسلم الحق في بيت يأوي إليه، ويصونه من الحر والبرد وعيون المارة". لو قال هذه الكلمة كلب من كلاب الشيوعية لطوفت الدنيا على أن هذا المبدأ يعطي الناس كراماتهم المادية والأدبية، ويجعل لكل إنسان بيتاً. لكنَّ قائل الكلمة فقيه مسلم مسكين! فقيه مسلم ليس له أهل، ليس له ورثة، ليس له رجال يحتضنون مواريثه! فقيه مسلم... هذا عيب الكلمة! وهكذا الدنيا! صح ما قيل: إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإن أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.

إن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد فريد، وليس شيئاً مجلوباً من شرق أو غرب؛ لأنه ناضح من وحي السماء، ومن كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد تحدث فقهاؤنا عن التسعير، والمعروف أن الإسلام يعتبر التجارة حرة، ويتدخل في التسعير للضرورة، ولكنه عندما يسعر، وهو دين فقه وتشريع، فلا أظن أحداً ممن درس الفقه الروماني، أو الفقه الفرنساوي، لا أظن أحداً قرأ أن هناك تسعيراً للخدمات الاجتماعية والأدبية، لكن في كتاب "الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية" لابن القيم، وجدت تسعير الخدمات، وهو ما يطبق الآن في البلاد الراقية.

ففي إنجلترا يُضرِب العمال؛ لأنهم يرون أن جهدهم ينبغي أن يباع لصاحب العمل بجنيه، وصاحب العمل يرى أنه ما يساوي غير نصف جنيه؛ فالتسعير للجهد، للمواهب، للنواحي العلمية والفنية، للشهادات والإجازات العلمية، هذا التسعير مَن تحدث فيه؟ وجدت أن فقهاء المسلمين تحدثوا فيه، ويمكن لأي هيئة قضائية محترمة أن تسعر الجهد المبذول، والمواد التي يستهلكها الناس في ضروراتهم.

إن الإسلام دين خصب، وفيه من النصوص في الكتاب والسنة ما يؤسس اقتصاداً له ملامحه المتميزة، وله آثاره المباركة، وعندما نرفض وصفاً يُستجلب من الخارج فنحن إنما نقدم بدله من تراثنا الأصيل ما يغني؛ لكن الآفة أن بعض الناس لا يعرف هذا التراث، ولذلك لا يعرف الأصالة لأمتنا، ولذلك هو بجهله حرب عليها؛ دقِّقوا النظر، فإن بعض الصحف تريد أن تطبق العلمانية، أي مبدأ العيش بلا دين، وهي تسعى إليه بالكلمة بالصورة، بالالتفاف والدوران؛ كي تُهيَّأ النفوس لهذا.

نحن نريد أن نلفت النظر إلى أصالتنا، وإلي أن لدينا من لبنات البناء ما يمكن أن نقيم به مجتمعاً صلباً، واقتصاداً ناجحاً، وليس من الضروري أن نتسول من شرق أو غرب.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ، وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25، 26].

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا -أيها الناس- أن الإصلاح ليس تجارة التافهين؛ إن للإصلاح قواعده، وإن له رجاله.

والمصلحون الأُصَلاء قبل أن يمحوا وضعاً رديئاً يعرفون كيف يجيئون بالدليل الصالح، هناك أناس تغلب عليهم نزعة التدمير، ونزعة العداوة للماضي. أنا لست من أنصار لبس الطربوش، لأني لم ألبسه، ولم آلفه، ولكن العقل المحترم الذي يريد محاربة الطربوش كان ينبغي عليه قبل أن يحاربه أن يقول: دعوا هذا... هذا خير منه.

لكنَّ الطبيعة المدمرة عند بعض الناس عرت رؤوس المصريين، وجعلتهم شعباً عاري الرأس في أرض الله، ليست له شارة قومية خاصة يُعرف بها فوق رأسه، والسبب أن الذي دمر كان يحسن التدمير فقط، ولا يحسن البناء، ويوجد ناس كثيرون من هذا النوع، وهذا سر قول القائل:

لا تَقُلْ عَنْ عَمَلٍ: ذا نَاقِصٌ *** جِئْ بِأوفَى ثُمَّ قُلْ: ذَا أَكْمَلُ

أَيُّهَا العَائِبُ أَفْعَالَ الوَرَى

أَرِنِي باللهِ مَاذَا تَفْعَلُ؟
إِنْ يَغِبْ عَنْ عَيْنِ سَارٍ قَمَرٌ فَحَرَامٌ أنْ يُلامَ المِشْعَلُ

لكنَّ هناك ناساً يحسنون النقد والتدمير، ولا يحسنون البناء والتعمير، وما أكثرهم في بلادنا! وعداوتهم تكون ضارية عندما يشتبكون بالإسلام وأهله! ألْفِتُ النظر إلى هؤلاء! إننا نريد أن نبني على ديننا، وأن ننطلق من قواعدنا، وأن نحترم الأصالة التي أفاءها الله علينا.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر" رواه مسلم والنسائي.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر:10].

عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].