الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - الصلاة |
كَان الصحابة رضي الله عنهم يَرَونَ التَّارِكَ لِصَلاةِ الجَمَاعَةِ مُنَافِقًا مَعلُومَ النِّفَاقِ وَلا يَشُكُّونَ في أَمرِهِ؛ فَكَيفَ لَو رَأَوا زَمَانًا لا يُكتَفَى فِيهِ بِتَركِ الجَمَاعَةِ؟! بَل يُضَافُ إِلى ذَلِكَ المُنكَرِ مُنكَرَ التَّزهِيدِ فِيهَا وَالتَّقلِيلِ مِن شَأنِهَا، بِحُجَجٍ شَيطَانِيَّةٍ وَاهِيَةٍ، وَأَعذَارٍ إِبلِيسِيَّةٍ بَاطِلَةٍ، قَذَفَ بهَا إِمَامُ الضَّلالِ الأَكبَرُ في قُلُوبِ أُغَيلِمَةِ الصَّحَافَةِ وَأَقزَامِ الإِعلامِ؛ فَمَا زَالُوا يُسَوِّدُونَ بها صَفَحَاتِ جَرَائِدِهِم، وَيُرَدِّدُونَهَا عَلَى الأَسمَاعِ في قَنَوَاتِهِم ..
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ مِن عَلامَاتِ الشَّقَاءِ أَن يَترُكَ المَرءُ سُنَّةَ نَبِيِّهِ بَعدَ أَن كَانَ عَلَيهَا مُحَافِظًا، وَأَن يَنبُذَهَا وَرَاءَ ظَهرِهِ بَعدَ أَن كَانَ بها مُتَمَسِّكًا؛ فَكَيفَ إِذَا تَرَكَتْهَا مَجمُوعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ النَّاسِ وَتَوانى في تَطبِيقِهَا فِئَامٌ مِنَ المُسلِمِينَ؟! إِنَّ ذَلِكَ لَخُسرَانٌ مُبِينٌ وَخِذلانٌ كَبِيرٌ.
أَمَّا إِذَا وَصَلَ الأَمرُ إِلى أَن يَشتَغِلَ بَعضُ المَفتُونِينَ بِالتَّزهِيدِ فِيهَا وَتَكَلُّفِ الأَعذَارِ لِتَارِكِيهَا، ضَارِبِينَ بِالمُحكَمِ من الأَدِلَّةِ عُرضَ الحَائِطِ، مُشتَغِلِينَ بِالمُتَشَابِهَاتِ وَالمُوهِمَاتِ؛ فَتِلكَ فِتنَةٌ مَا بَعدَهَا إِلاَّ الضَّلالُ وَالعَذَابُ (فَلْيَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) (وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا) [النور:63]
أَمَّا وَقَد وُجِدَ كُلُّ هَذَا في زَمَانِنَا وَرَأَينَاهُ رَأيَ العَينِ وَعَايَشنَاهُ؛ فَقَد آنَ لِلأُمَّةِ أَن تُهَيِّئَ النُّفُوسَ بِأَقوَى مَا تَملِكُ مِن عَزِيمَةٍ لِلتَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ وَالتَّشَبُّثِ بهَا وَالعَضِّ عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ أَكبَرَ مِن ذِي قَبلٍ، وَأَن تُحَذِّرَ مِن دُعَاةِ البَاطِلِ وَأَئِمَّةِ الضَّلالَةِ وَالمُتَعَالمِينَ وَالمُنَافِقِينَ؛ الَّذِينَ يَطمِسُونَ رُسُومَ المِلَّةِ وَيَهدِمُونَ أَركَانَ الدِّينِ؛ فَلَعَلَّهَا بِذَلِكَ أَن تَنَالَ الأُجُورَ المُضَاعَفَةَ الَّتي وُعِدَ بهَا المُتَمَسِّكُونَ؛ قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِنَّ مِن وَرَائِكُم أَيَّامَ الصَّبرِ، لِلمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَومَئِذٍ بما أَنتُم عَلَيهِ أَجرُ خَمسِينَ مِنكُم" قَالُوا: يَا نَبيَّ اللهِ، منا أَوْ مِنهُم؟ قَالَ: "بَل مِنكُم" صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
لَقَد أَتَى -صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بِالحَلالِ وَالحَرَامِ وَبَيَّنَهُمَا أَوَضَحَ البَيَانِ، وَأَخبَرَ عَنِ المُتَشَابِهَاتِ وَحَذَّرَ مِمَّن يَأتُونَ بها؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا مُشتَبِهَاتٌ لا يَعلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ" رَوَاهُ الشَّيخَانِ، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "سَيَكُونُ في آخِرِ أُمَّتي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُم بما لم تَسمَعُوا أَنتُم وَلا آبَاؤُكُم فَإِيَّاكُم وَإِيَّاهُم" رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَعَن زِيَادِ بنِ حُدَيرٍ قَالَ: "قَالَ لي عُمَرُ: هَل تَعرِفُ مَا يَهدِمُ الإِسلامَ؟ قَالَ: قُلتُ: لا. قَالَ: يَهدِمُهُ زَلَّةُ العَالِمِ، وَجِدَالُ المُنَافِقِ بِالكِتَابِ، وَحُكمُ الأَئِمَّةِ المُضِلِّينَ". رَوَاهُ الدَّرِامِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
وَإِنَّ مِن سُنَنِ الهُدَىَ الَّتي شَرَعَهَا اللهُ لِنَبِيِّهِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- واتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَيهَا مُنذُ الصَّدرِ الأَوَّلِ وَالتَزَمَتْهَا، وَحَفِظَتهَا القُرُونُ المُفَضَّلَةُ وَلم يُفَرِّطْ فِيهَا المُسلِمُونَ عَلَى مَرِّ عُصُورِهِم، وَالَّتي كَانَت -وَمَا زَالَت- مِن صِفَاتِ المُتَّقِينَ وَسِمَاتِ الرِّجَالِ - عِمَارَةَ بُيُوتِ اللهِ بِصَلاةِ الجَمَاعَةِ (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَومًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ * لِيَجزِيَهُمُ اللهُ أَحسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِن فَضلِهِ وَاللهُ يَرزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ) [النور 36: 37]
رَوَىَ مُسلِمٌ في صَحِيحِهِ عَن ابنِ مَسعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "مَن سَرَّهُ أَن يَلقَى اللهَ غَدًا مُسلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيثُ يُنَادَى بهِنَّ؛ فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُم -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- سُنَنَ الهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِن سُنَنِ الهُدَى، وَلَو أَنَّكُم صَلَّيتُم في بُيُوتِكُم كَمَا يُصَلِّي هَذَا المُتَخَلِّفُ في بَيتِهِ لَتَرَكتُم سُنَّةَ نَبِيِّكُم، وَلَو تَرَكتُم سُنَّةَ نَبِيِّكُم لَضَلَلتُم، وَلَقَد رَأَيتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَد كَانَ الرَّجُلُ يُؤتى بِهِ يُهَادَى بَينَ الرَّجُلَينِ حَتَّىَ يُقَامَ في الصَّفِّ".
هَكَذَا كَانَ أَصحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ عَنهُم- وَهَكَذَا كَانَ حِرصُهُم عَلَى صَلاةِ الجَمَاعَةِ، وَهَكَذَا كَانَ فَهمُهُم لِمَنزِلَتِهَا وَفِقهُهُم لأَهَمِّيَّتِهَا، وَهَكَذَا كَانُوا لا يَجِدُونَ لِتَارِكِهَا وَالمُتَخَلِّفِ عَنهَا وَصفًا أَليَقَ بِهِ مِنَ النِّفَاقِ، أُولَئِكَ هُم أَصحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- خَيرُ القُرُونِ وَأَفضَلُ الرِّجَالِ، حَفَظَةُ العِلمِ وَأَوعِيَةُ الفِقهِ، وَعُلَمَاءُ الحَقِّ وَأَئِمَّةُ الهُدَى. أَوعَى النَّاسِ قُلُوبًا وَأَزكَاهُم نُفُوسًا، وَأَصوَبُهُم رَأيًا وَأَعمَقُهُم فَهمًا، صَحِبُوا المُبَلِّغَ عَن رَبِّهِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- وَلازَمُوهُ، وَتَلَقَّوا عَنهُ الوَحيَ وَحَفِظُوهُ، وَأَخَذُوا عَنهُ الهَديَ وَطَبَّقُوهُ.
كَانُوا يَرَونَ التَّارِكَ لِصَلاةِ الجَمَاعَةِ مُنَافِقًا مَعلُومَ النِّفَاقِ وَلا يَشُكُّونَ في أَمرِهِ؛ فَكَيفَ لَو رَأَوا زَمَانًا لا يُكتَفَى فِيهِ بِتَركِ الجَمَاعَةِ؟! بَل يُضَافُ إِلى ذَلِكَ المُنكَرِ مُنكَرَ التَّزهِيدِ فِيهَا وَالتَّقلِيلِ مِن شَأنِهَا، بِحُجَجٍ شَيطَانِيَّةٍ وَاهِيَةٍ، وَأَعذَارٍ إِبلِيسِيَّةٍ بَاطِلَةٍ، قَذَفَ بهَا إِمَامُ الضَّلالِ الأَكبَرُ في قُلُوبِ أُغَيلِمَةِ الصَّحَافَةِ وَأَقزَامِ الإِعلامِ؛ فَمَا زَالُوا يُسَوِّدُونَ بها صَفَحَاتِ جَرَائِدِهِم، وَيُرَدِّدُونَهَا عَلَى الأَسمَاعِ في قَنَوَاتِهِم، حَتَّى صَدَّقَ بها مَن صَدَّقَ مِنَ المُتَعَالمِينَ، وَتَشَرَّبَهَا مَن تَشَرَّبَهَا مِنَ المُنتَكِسِينَ، فَرَاحُوا يَغدُونَ بها وَيَرُوحُونَ، وَيَنشُرُونَ بَينَ النَّاسِ أَقوَالاً ضَعِيفَةً، وَيَبُثُّونَ في الأُمَّةِ آرَاءً شَاذَّةً؛ فَنَعُوذُ بِاللهِ مِمَّن ضَلَّ سَعيُهُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ هَذَا القُرآنَ الَّذِي قَرَأَهُ الصَّحَابَةُ وَتَأَثَّرُوا بِهِ وَعَمِلُوا بِهِ مَا زَالَ هُوَ القُرآنَ نَفسَهُ، وَإِنَّ تِلكَ السُّنَةَ الَّتي نَقَلُوهَا وَرَوَى لَنَا مَن بَعدَهُم فِقهَهُم لَهَا مَا زَالَت هِيَ السُّنَّةَ ذَاتَهَا، وَإِنَّهُ لا عِلمَ أَبرَكَ وَلا عَمَلَ أَزكَى مِن عُلُومِ الصَّحَابَةِ وَأَعمَالِهِم، وَلَكِنَّ فِطَرَ أَهلِ الشَّهَوَاتِ هِيَ الَّتي انتَكَسَت، وَبَصَائِرَهُم هِيَ الَّتي عَمِيَت.
لَقَد قَلَّتِ التَّقوَى في قُلُوبِهِم، وَغَابَ وَازِعُ الدِّينِ مِن صُدُورِهِم، وَصَارَ أَمرُ الدِّينِ وَهَمُّ الإِسلامِ هُوَ آخِرَ اهتَمَامَاتِهِم، وَأَصبَحَتِ الدُّنيَا هِيَ هَمَّهُم وَشَاغِلَهُم وَمُقِيمَهُم وَمُقعِدَهُم، حَتَّىَ غَدَا الحَرَامُ لَدَى بَعضِهِم حَلالاً، وَأَضحَى المَمنُوعُ عِندَ فِئَامٍ مِنهُم جَائِزًا، وَصَارَ مَا كَانَ بِالأَمسِ خَطِيئَةً وَمُنكَرًا يُرَىَ اليَومَ حَسَنَةً وَمَعرُوفًا، وَتُرِكَتِ المُحكَمَاتُ وَاشتُغِلَ بِالمُتَشَابِهَاتِ.
وَصَدَقَ اللهُ حَيثُ قَالَ: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ في العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذْ هَدَيتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ) [آل عمران 7: 8]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَد أَمَرَ اللهُ بِصَلاةِ الجَمَاعَةِ حَتى في حَالِ القِتَالِ؛ فَكَيفَ بِاجتِمَاعِ النَّاسِ في أَسوَاقِهِم لِلبَيعِ وَالشِّرَاءِ؟! بَل كَيفَ بِجُلُوسِهُم في مَجَالِسِ الهَذَرِ وَالهُرَاءِ؟! قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنهُم مَعَكَ وَلْيَأخُذُوا أَسلِحَتَهُم فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُم وَلْتَأتِ طَائِفَةٌ أُخرَىَ لم يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأخُذُوا حِذرَهُم وَأَسلِحَتَهُم) [النساء:102] الآيَةَ، وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَاركَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة: 43]
وَرَوَى مُسلِمٌ عَن أَبي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "أَتىَ النَّبيَّ -صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ أَعمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَيسَ لي قَائِدٌ يَقُودُني إِلى المَسجِدِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلىَّ دَعَاهُ فَقَالَ: "هَل تَسمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ" قَالَ: نَعَم. قَالَ: "فَأَجِبْ".
وَصَحَّ عَن ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- مَوقُوفًا وَمَرفُوعًا قَالَ: "مَن سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَم يَأتِ فَلا صَلاةَ لَهُ إِلاَّ مِن عُذرٍ" وَعَن أَبي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَقَد هَمَمْتُ أَن آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلى رِجَالٍ لا يَشهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيهِم بُيُوتَهُم" الحَدِيثَ، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ وَالَلَّفظُ لِلبُخَارِيِّ.
وَعَنهُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "أَثقَلُ الصَّلاةِ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلاةُ العِشَاءِ وَصَلاةُ الفَجرِ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوهُمَا وَلَو حَبوًا" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
هَذَا غَيضٌ مِن فَيضٍ مِمَّا وَرَدَ مِنَ الأَدِلَّةِ المُوجِبَةِ لِلَذَّهَابِ إِلى المَسجِدِ بَعدَ الأَذَانِ لأَدَاءِ الصَّلاةِ في الجَمَاعَةِ.
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَلْنَحذَرْ مِمَّا تَنشُرُهُ بَعضُ الصُّحُفِ وَالجَرَائِدِ لِبَعضِ الكُتَّابِ وَالمَفتُونِينَ مِمَّن يُهَوِّنُونَ مِن صَلاةِ الجَمَاعَةِ في المَسَاجِدِ، مُدَّعِينَ أَنَّ بَعضَ العُلَمَاءِ قَالَ: "إِنَّهَا سُنَّةٌ"؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ قَالَ مَن قَالَ بِسُنِّيَّةِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ فَإِنَّ الحُجَّةَ فِيمَا قَالَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالوَاجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالخَيرُ كُلُّ الخَيرِ في الوُقُوفِ عِندَ حُدُوِدِ اللهِ، وَالشَّرُّ كُلُّ الشَّرِّ في مُخَالَفَةِ أَمرِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَد قَالَ -سُبحَانَهُ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمرِ مِنكُم فَإِنْ تَنَازَعتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً) [النساء:59]
أَمَّا أَن يُترَكَ المُسلِمُ مَا أَوجَبَهُ اللهُ عَلَيهِ لا عَن عِلمٍ بَلَغَهُ وَلا عَن فَهمٍ أُوتِيَهُ، وَلا عَن فَتوَى عَالِمٍ مَوثُوقٍ بِهِ، وَلَكِنْ لِهَوًى في نَفسِهِ تُؤَيِّدُهُ كِتَابَةُ فَاسِقٍ في جَرِيدَةٍ أَو مَقُولَةُ مُنَافِقٍ في قَنَاةٍ مَشبُوهَةٍ؛ فَإِنَّ هَذَا مِن أَشَدِّ الفِتنَةِ وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ.
وَإِنَّهُ لِيُخشَى عَلَى مَن رَكِبَ رَأسَهُ وَتَمَادَى في غَيِّهِ -بَعدَ إِيرَادِ الأَدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ عَلَيهِ- أَن يَدخُلَ في عُمُومِ قَولِ اللهِ -تَعَالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَىَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا) [الأحزاب:36] وَقَولِهِ -تَعَالى-: (فَلْيَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (يَومَ يُكشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدعَونَ إِلى السُّجُودِ فَلا يَستَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبصَارُهُم تَرهَقُهُم ذِلَّةٌ وَقَد كَانُوا يُدعَونَ إِلى السُّجُودِ وَهُم سَالمُونَ * فَذَرْني وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيثِ سَنَستَدرِجُهُم مِن حَيثُ لا يَعلَمُونَ * وَأُملِيَ لَهُم إِنَّ كَيدِي مَتِينٌ) [القلم 42: 45]
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ صَلاةَ الجَمَاعَةِ فَضلاً عَن كَونِهَا شَعِيرَةً عَظِيمَةً مِن شَعَائِرِ الإِسلامِ، فَإِنَّ فِيهَا دَلالَةً عَلَى الإِيمَانِ وَتَبرِئَةً لِلنَّفسِ مِنَ النِّفَاقِ؛ قَالَ -تَعَالى-: (إِنَّمَا يَعمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَن آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) [التوبة: 18]
صَلاةُ الجَمَاعَةِ قُوَّةٌ لِلمُسلِمِينَ وَحِصنٌ لَهُم مِن عَدُوِّهِم المُتَرَبِّصِ الشَّيطَانِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِن ثَلاثَةٍ في قَريَةٍ وَلا بَدوٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاةُ إِلاَّ قَدِ استَحوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ، فَعَلَيكُمُ بِالجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأكُلُ الذِّئبُ مِنَ الغَنَمِ القَاصِيَةَ" رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ.
صَلاةُ الجَمَاعَةِ تَعَارُفٌ وَتَآلُفٌ وَتَعَاوُنٌ بَينَ المُسلِمِينَ عَلَى التَّقوَى، وَلَولا أَنَّ اللهَ يُرِيدُ لِلمُسلِمِينَ الصَّلاةَ في جَمَاعَةٍ لَمَا شَرَعَ بِنَاءَ المَسَاجِدِ وَتَنظِيفَهَا لاجتِمَاعِ المُصَلِّينَ فِيهَا، فَكَيفَ وَقَد شَرَعَ ذَلِكَ وَعظَّمَ لمن يَفعَلُهُ الأَجرَ.
فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَاثبُتُوا عَلَى مَا أَنتُم عَلَيهِ مِنَ الحَقِّ الوَاضِحِ، وَحَافِظُوا عَلَى الصَّلاةِ في بُيُوتِ اللهِ، وَلا يَفتِنَنَّكُم شَيَاطِينُ الإِنسِ مِمَّن اتَّخَذَهُمُ الشَّيطَانُ مَطِيَّةً لَهُ لِجَمعِ الأَقوَالِ الضَّعِيفَةِ وَالآرَاءِ الشَّاذَّةِ وَبَثِّهَا في النَّاسِ لإِغوَائِهِم عَنِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ، فَإِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ وَوَعَدَ الشَّيطَانُ غُرُورٌ وَبَاطِلٌ، فَلا تَغُرَّنَّكُم زَخَارِفُ الأَقوَالِ عَمَّا أَنتُم بِهِ مُوقِنُونَ.
وَإِنَّهُ لَن يَنفَعَ ضَعِيفًا أَن يَتَّبِعَ مُتَكَبِّرًا عَلَى الحَقِّ وَيُسَلِّمَ لَهُ عَقلَهُ وَيُلقِيَ بِالدَّلِيلِ وَرَاءَ ظَهرِهِ، وَقَد قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَبَرَزُوا لهِت جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ استَكبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُم تَبَعًا فَهَل أَنتُم مُغنُونَ عَنَّا مِن عَذَابِ اللهِ مِن شَيءٍ قَالُوا لَو هَدَانَا اللهُ لَهَدَينَاكُم سَوَاءٌ عَلَينَا أَجَزِعنَا أَم صَبَرنَا مَا لَنَا مِن مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتُكُم فَأَخلَفتُكُم وَمَا كَانَ ليَ عَلَيكُم مِن سُلطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبتُم لي فَلا تَلُومُوني وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَا أَنَا بِمُصرِخِكُم وَمَا أَنتُم بِمُصرِخِيَّ إِنِّي كَفَرتُ بما أَشرَكتُمُونِ مِن قَبلُ إِنَّ الظَّالمِينَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم 21: 22]
وَلا يَهُولَنَّكُم أَنَّ يَكثُرُ المُتَخَلِّفُونَ عَنِ الصَّلاةِ أَو مُضَيِّعُوهَا فَتَتَأثَرُوا بِهِم أَو تَنسَاقُوا وَرَاءَ مَن فُتِنَ بِتَسوِيغِ الأَمرِ لَهُم؛ فَإِنَّمَا كُلُّ ذَلِكَ ابتِلاءٌ وَفِتنَةٌ، وَالمَوعِدُ الآخِرَةُ، قَالَ -تَعَالى-: (فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوفَ يَلقَونَ غَيًّا) [مريم:59]