البحث

عبارات مقترحة:

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

الرفيق

كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

الضغائن السود

العربية

المؤلف محمد الغزالي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الأديان والفرق
عناصر الخطبة
  1. نماذج من التربية النبوية للأبطال .
  2. الضغائن السود وأحقاد الأعداء و اليهود .
  3. شُعَب عداوتهم.
  4. طبيعة المعركة مع اليهود .
  5. نقض اليهود للعهود .
  6. انتصارنا بتمسكنا بالعقيدة .

اقتباس

هل هذه الرغبة الجامحة في تدمير المساجد، وإخراس الدعاة، وقفت عند هذا الحد؟ لا! إنهم لن يرضوا إلا إذا تركنا هذا الدين. لماذا؟ لأن الإسلام في الحقيقة عندما جاء بعد ظلام العالم جاءه وقد طال ليله، وبَعد ظلم حملت الشعوب مغارمه من المِلل والنِّحَل التي لم تفلح في تبديد الظلمة، ولم تنجح في علاج الظلمة؛ إن هذه الملل والنحل ضاقت عندما وجدت دينا جديداً يفلح حيث خابت، وينجح حيث فشلت ..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فنحن نعلم أن المعجزة الكبرى لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هي القرآن الكريم، يرى كثير من المؤرخين والمنصفين أن المعجزة التي تلي هذا الكتاب هي مجموعة الرجال الذين رباهم محمد -صلى الله عليه وسلم- فأحسن تربيتهم، وسكب من قلبه في أفئدتهم من مشاعر اليقين والإخلاص ما جعلهم نماذج حية للإيمان الراسخ، والفداء إلى آخر رمق.

إن هذا الجيل من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين حملوا مبادئه، ووفوا لها، وكانوا جسراً عبرت هدايات السماء عليه إلينا، إن هؤلاء الرجال طراز من الخلق يُعجب! وفي الحقيقة عندما أقرأ سير الكثيرين منهم أشعر بقصر وتضاؤل، وأحسُ أنني أمام قمم ذاهبة في الفضاء لا تُطاول.

كنت أقرأ حياة رجل عادي اسمه غير معروف في تاريخ الأصحاب الذين رزقوا حظوظاً كبيرة من الشهرة اسمه "أبو عقيل الأنيفي"، في حروب الردة ظهرت بطولات فارغة قمعت الباطل، وشرَّفت الحق، وحروب الردة طالت شهوراً، وبذل فيها حمَلة القرآن الحقيقيون بذلوا فيها أنفسهم، وأنا أقرأ في صفحة عادية منا للصفحات التي لا تلفت النظر وجدت أبا عقيل هذا يصاب في معركة اليمامة بجرح، مرق سهم قريبا من قلبه فكاد يُفصل ذراعه الأيسر عن منكبه، وبتعبير المؤرخين جر إلى خيمة كي يداوى فيها.

كانت المعركة –معركة اليمامة– تدور بطريقة مزعجة، حرب بين كرٍّ وفَرٍّ، بين إقبال وإدبار. كان أتباع الدجال "مسيلمة الكذاب" قد استبدت بهم عصبية الجاهلية، فهم يبذلون نفوسهم حتى لا ينهزموا، والمسلمون يريدون الإجهاز على هذه الخرافة، والانتهاء من هذا الدجال، لكن الحرب كانت مداً وجذراً، كراً وفراً.

كادت صفوف المسلمين تتصدع من هول القتال، فغضب الأنصار، وضاقت نفوسهم أن تدور الحرب على هذا النحو، قالوا: أخْلِصُونا، اجعلونا طليعة، لا نريد أن يختلط بنا أحد في الصفوف المتقدمة. وصاح صائحهم: يا لَلْأنصار! أخلصونا! فأخذوا يتجمعون حول الصيحة، وكان أبو عقيل جريحاً في الخيمة، فنظر إليه عبد الله بن عمر وهو يتحرك، فقال له: إلى أين؟ أنت رجل جريح تكاد ذراعك أن تسقط! قال إلا تسمعهم ينادون علي! فقال له: إنما ينادي يا للأنصار. قال وأنا من الأنصار. والله! لو كنت لا أستطيع أن ألبي النداء إلا حَبْوَاً لزحفتُ!.

وخرج بسيفه تحمله ذراعه اليمني لأن الأخرى تكاد تسقط، وخرج يقول هو الآخر: يا للأنصار! كرَّة كيوم حنين! وكان يوم حنين قد بدأ بداية سيئة؛ لأن المسلمين غرتهم كثرتهم، ثم لما انكشف الطلقاء والمرتزِقة ومن يكثرون السواد ولا يصلحون في الجد، نادى النبي -صلى الله عليه وسلم- ندائين لم يفصل بينهما: التفت عن يمينه فقال: "يا معشر الأنصار!" فقالوا: لبيك يا رسول الله! أبْشِرْ، نحن معك. ثم التفت عن يساره فقال: "يا معشر الأنصار!" فقالوا: لبيك يا رسول الله! أبْشِرْ نحن معك. فاجتَمَعُوا عليه، وانتصر بهم وحدهم.

أبو عقيل -رضي الله عنه- يذكر الواقعة ويقول: كرة كيوم حنين! وكَرَّ الأنصار في زحف قرروا أن يفنوا فيه أو يبلغ مداه، وبلغ مداه، وقتل مسيلمة، واقتحمت صفوف الشرك، وانتصر الإيمان. ومر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- في الميدان فإذا أبو عقيل على الأرض، فنظر إليه فوجد به أربعة عشر جرحاً، كلها نفذت إلى مقتل! فقال: أبا عقيل! فقال له: لبيك. وسأله أبو عقيل وهو على الأرض: لمن النتيجة؟ فقال: للإسلام، وقُتِل عدوُّ الله. يقول ابن عمر: وكان الرجل يكلمني بلسان ملتاث، أعوجَّ لسانه لأنه يموت، فأشار أبو عقيل بإصبعه: وقال: الحمد لله. ومات!.

عندما قرأت سيرة الرجل قلت: سبحان الله! لقد كان جريحا يستطيع أن يقول: سقط عني التكليف لأني مريض. ولكنه تحامل على نفسه، وأبى إلا أن يقاتل، وعندما بدأ يودع هذه الدنيا لم يكن تفكيره في أهلٍ أو مال، إنما كان تفكيره الذي شغله وسأل عنه هو: لمن النتيجة؟! فلما علم أن النتيجة للإسلام حمد الله، ومات مستريحا!.

مَن ربَّى هؤلاء؟ محمد -صلى الله عليه وسلم- والقرآن. ومحمد -صلى الله عليه وسلم- لم ينته ما دام كتابه موجوداً، وما دامت سنته موجودة، وما دامت النماذج التي تركها من بعده موجودة. الـمُهِمُّ: أن نُحسن نحن الاتصال به، والتأسِّي به، والاقتداء به، والأخذ عنه؛ وهذا ما أريد أن أدور حوله الآن في كلمة اليوم.

نريد أن نعرف شيئاً عن طبيعة الدين الذي ربَّى أولئك العمالقة، لابد أن نعلم أولا أن ما عندنا هو الحق، وأن ما عند غيرنا إفكٌ وهَوىً وشَهَواتٌ وأساطير، هذا المعنى أكده القرآن الكريم كثيراً؛ حتى تعلم أيها المؤمن أن ثروتك لا غش فيها، وأن مبادئك لا دخَل فيها، يقول الله لنبيه: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة:120]. أهواءهم! وفي السورة نفسها يقول له (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:145]، ويقول (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الروم:29]، ويأمره في سورة الأنعام فيقول له (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ....) [الأنعام:56-57].

هؤلاء أتباع الهوى، غيرنا يتَّبِعُ الهوى، أما نحن فالدِّينُ والعلم عندنا اسمان لشيء واحد! (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) [البقرة:145]، العلم عنوان أو اسم للوحي، فهو مقارن أو مرادف لكلمة الدين، الدين والعلم عندنا سواء؛ وذلك لأن الحق معنا بقول الله لنبيه في وصف هذا القرآن: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء:105].

لكن، هل الحق يمشي في هذه الدنيا بقدرته النظرية، أو بأدلته العقلية، أو ببراهينه الدامغة، أو بالصور السليمة التي يقدمها؟ لا! لم؟ لأن أهل الباطل لهم مواقف يجب أن تشرح؛ شرَح القرآن الكريم مواقف المُبطلين أعداء الحق فبيَّن أولا أنهم يكرهون أي خير يصيبنا، ويريدون من أعماقهم أن تحيط بنا الشرور والآلام. تأمل في قوله تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة:105]. تأمل في قوله تعالى: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ...) [آل عمران:69]، وتأمل قوله تعالى: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة:2].

لكن، هل وَدَادَتُهُم أن نكفر انتهت إلى التمني القلبي ووقفت؟ لا، إن هذا التمني تحول إلى سلوك عملي، كيف؟ أخذ شُعباً مختلفة، فهم مثلا يريدون أن تدمر المساجد فلا يذكر اسم الله فيها! لِمَ؟ لم تكره المساجد؟ ولم يكره أن ينبعث من فوق مآذنها تكبير الله وتوحيده؟ لكن هؤلاء وصفهم القرآن فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا...) [البقرة:114].

شعبة أخرى إلى جانب كره المساجد وما ينبعث منها، شعبة أخرى هي كره الدعوة إلى الله، مقت الدعاة إلى الله، النظر إليهم بضيق، ومحاولة التنكيل بهم، وإخراس أصواتهم: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا...) [الحج:72]. يكادون يبطشون بهم!.

هل هذه الرغبة الجامحة في تدمير المساجد، وإخراس الدعاة، وقفت عند هذا الحد؟ لا! إنهم لن يرضوا إلا إذا تركنا هذا الدين. لماذا؟ لأن الإسلام في الحقيقة عندما جاء بعد ظلام العالم جاءه وقد طال ليله، وبَعد ظلم حملت الشعوب مغارمه من المِلل والنِّحَل التي لم تفلح في تبديد الظلمة، ولم تنجح في علاج الظلمة؛ إن هذه الملل والنحل ضاقت عندما وجدت دينا جديداً يفلح حيث خابت، وينجح حيث فشلت، وكما يكره أدعياء الطب الطبيب الصحيح الناجح، وكما يكره التجار الفاشلون التاجر النقي الذي لا يغش، كما يقع هذا في الدنيا، وجدنا أتباع الملل الشاردة يضيقون بالإسلام ويكرهونه، ويعلمون أنه ما بقى يعرض نفسه ومبادئه ويمكِّن الناس من أن يطَّلعوا على حقائقه فلا مجال لهم ولا بقاء لهم! ولذلك كان القرآن واضحاً عندما قال لصاحب الرسالة: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...) [البقرة:120].

هل يكتفون بعدم الرضا؟ لا. (...وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا...) [البقرة:217]. إننا ما نشتري الشر، ولا نحب أن نملأ الدنيا بالقتال والحروب، ما أظن أن تابعاً لدين من الأديان يكرر كلمة السلام بلسانه كما تتكرر على ألسنة المسلمين! خمس صلوات يومياً يسلِّم المسلم فيها يومياً يمينا ويساراً يذكر كلمة السلام ويحيي الناس بها في الفرض والنافلة، في البيت والشارع في كل مكان.

لكن ماذا نصنع عندما نجد ناساً كثيرين -وللأسف- في طليعتهم أهل الكتاب يحقدون علينا؟ نحن نسمى أهل الكتاب في هذا العصر أهل كتاب وإن كانت صلتهم بكتبهم اضطربت، ولكنهم ما داموا يعتمدون عليها، وينظرون إليها، وينتسبون إلى ما فيها، فهم أهل كتاب.

سألت نفسي، قلت: اليهود يريدون محو ديننا بقول "بيجن" الإرهابي الإسرائيلي الذي يتزعم المعارضة الآن في إسرائيل، وقد يكون حاكماً قريباً، وهو -وإن كان زعيم المعارضة- ما يختلف عن المرأة الحاكمة في قليل ولا في كثير، فإنهم أُشْرِبوا التعصب لليهودية والكره للإسلام. يقول بيجين: إن الطريق أمامنا صعب؛ لأننا نريد محو الحضارة العربية، وإحلال الحضارة العبرية مكانها.

الأمر أمر استئصال، الأمر أمر أن ديناً يراد الإجهاز عليه وعلى أمته وإحلال دين آخر مكانه، هذه هي المعركة. أسأل نفسي وأقول: والذين من وراء إسرائيل، ما الذي يجعلهم يؤمِّنون إسرائيل؟ ويدافعون عنها؟ ويتعصبون لها؟ ويرسلون الأسلحة إليها؟ المنافع؟ لا، إن العرب في أرضهم الواسعة، وإن المسلمين في أرضهم الأوسع، أسواق استهلاكية لا آخر لها للسلع الأوربية والأمريكية! هل أسأنا نحن للأمريكيين؟ لا، إنهم قوم ظهروا في التاريخ من قرن أو قرنيين على الأكثر، ونحن قبل ذلك قد شققنا طريقنا في هذه الدنيا، ولعلهم ظهروا يوم بدأنا نضعف، فما الذي يجعل الأمريكيين يقولون: نتحمل شتاء بارداً، نتحمل المشي على أقدامنا؟!.

الواقع الذي لا يذكره الكثيرون أن الأمر ليس عشقاً لليهود بقدر ما هو كره لله ولمحمد -صلى الله عليه وسلم-، كره للقرآن والسنة، كره للعرب وللمسلمين، كره لهذا الدين توارثوه، ورضعوه من لبان الأمهات.

هذه الحقائق يجب أن تعرف، لقد بدأوا يشعرون بأن تأييدهم لليهود سيجر عليهم متاعب، ومع ذلك فإن كرههم للإسلام جعلهم يمضون في سياسة الغدر والظلم والافتيات وإضاعة الحقيقة. ما الذي يسبب هذا كله؟ نظرت في كتابنا، في تاريخنا، فوجدت أننا ما أسلفنا يداً شريرة ولا آثمة ولا معنتة لأحد!.

هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وكان اليهود يسكنونها، فعقد لهم المعاهدة، ولكنهم في ظل معاهدة كفلت حرية العقل والضمير، وضمنت إقامة الشعائر الدينية لكل ذي نحلة، في ظل هذه المعاهدة حقدوا على الإسلام! يقول مفسرو القرآن: إن رجلا أراد إرغام ابنه على الإسلام، وكان الولد نصرانياً، وكان الأب مسلماً، وجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: أيدخل بعضي النار وأنا قادر على منعه؟ ولكن الرسول -عليه الصلاة والسلام- تلا الآية: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256].

هذا مجتمعنا، شيء آخر، حدثت قصة طريفة في هذا المجتمع، هذه القصة أن سرقة وقعت، وكان جيران هذا البيت المسروق بعضهم مسلم وبعضهم يهودي، وأسرعت التهمة إلى اليهودي؛ ولكن الوحي نزل يقول: لا، اليهودي بريء، والذي سرق منافق يتظاهر بالإسلام، ودفاع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المسلم كان خطأ وقع فيه، ونزلت الآيات تقول: (إنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [النساء:105-107].

أيُّ مَثَالَةٍ في الدنيا تنصف الذين لا يدينون دين الدولة كما فعل الإسلام؟ يحكي التاريخ أن درعاً فُقدت لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فنزل يوماً في السوق فوجدها عند يهودي، فأمسك باليهودي وقال: درعي، أنا أعرفها. واحتكم إلى القاضي، وكأن علياً كان يظن أنه ما دام رئيس الدولة، وما دام هو عليَّا بنَ أبي طالب المعروف بالشجاعة والإيمان، فإن كلمته ستُصدق، ولكن القاضي "شريك" قال له: يا أمير المؤمنين، ألك بيِّنة؟ فسكت عليٌّ، لا دليل عنده! قال: اليمين. خصمُكَ اليهودي يحلف، وليس لك إلا هذا. "البيِّنةُ على مَن ادَّعى، واليمينُ عَلَى المُدَّعَى عليه".

يقول المؤرخون: إن اليهودي دفع الدرع إلى علي وقال له: هي درعك أخذتها منك عند منصرفك من "صفين"، وما هذه إلا أحكام أنبياء! الرجل راعه أن تطبق العدالة عليه وهو خصم لأمير المؤمنين رئيس الدولة! هذا هو ما نصنعه مع غيرنا، لكن اليهود، مع العدل الذي عاشوا في ظله، مع الحرية التي كفلت لهم إقامة الشعائر، مع كل هذا، ظل قلبهم أسود.

وأقرأ سورة البقرة، وهي السورة التي نزلت أول ما نزل الوحي في المدينة، فأرى أن اليهود بذلوا جهوداً غريبة في إحراج النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي تجريح دينه وأمته، وفي مناقشة المسلمين مناقشات لا معنى لها، ولا ضرورة لها، فإن اليهود لم تمض عليهم سنة وقد وقَّعوا معاهدتهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك فإن إحراجهم بلغ مداه، أخذوا ينددون به؛ لأنه يتَّبع قبلتهم ولا يدين دينهم، وأخذ القرآن الكريم يقول لليهود: اخجلوا! (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة:40]، ولكن لا وفاء، ما يعرفون الوفاء.

وجاءت غزوة بدر وانتصر المسلمون فيها، وكان انتصار المسلمين بعد سنة ونصف من إمضائهم المعاهدة مع اليهود، المعاهدة لا تزال جديدة، فماذا كان مسلك اليهود؟ سلكوا مسلكاً غريباً، أخذوا يحقرون النصر الإسلامي داخل المدينة، ويقولون للمسلمين: لا تغتروا أن لقيتم ناساً لا يعرفون القتال فانتصرتم عليهم، أما لو التقيتم بنا لعلمتم أننا نحن الناس! لكن هذا الاستفزاز لم يؤثر في النبي -صلى الله عليه وسلم- أو المسلمين.

وسلك اليهود مسلكاً آخر، أخذ شعراؤهم يرسلون القصائد رثاء في قتلى قريش، وتأبيناً لصرعى الشرك والوثنية؛ انضم اليهود إلى عبادة الأصنام في صراعهم مع عبادة الله الواحد! لم هذا؟ هذه طبيعتهم.

إنني أريد من هذا السياق شيئاً، أريد أن نعلم حقيقة لا ريب فيها: يستحيل أن يوفي اليهود بعهد! يستحيل أن يحترموا كلمة! لن ينتهي القتال معهم في شهور أو في سنين قلائل، إن الحرب حرب طويلة المدى، وهي تحتاج إلى ما لابد من شرحه: قلنا -وما زلنا نقول-: إن اليهود جاؤوا فلسطين وهم يرون أنفسهم أولاد الأنبياء، نوع من الجنون الديني، أو الدروشة الدينية؛ نوع من التعصب للدين، بدأ بُكاءً عند جدار "المبكي"، والبكاء هنا شيء خطير. يقول علماء التاريخ: إن الأمم لا تثور إذا ظُلِمَتْ، إنما تثور الأمم إذا شعرت بالظلم.

أما إذا مات شعورها فلا قيمة لها، وكما يقول المتنبي:

مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيْهِ مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلَامُ

إنما يتحرك من يشعر بالظلم، نحن فقدنا "الأندلس"، هل شعرنا بفقد الأندلس؟ لا، أما هؤلاء فقد أشعروا أنفسهم بأن هناك أرضاً فقدوها وأخذوا يبكون عليها البكاء بالدموع، الذي تحوَّلَ إلى قطَراتِ دمٍ، تحول إلى احتلالٍ للأرض.

هذا ما تصنعه الأمم، هؤلاء جاءوا بعقيدة دينية؛ ولذلك يستحيل أن يقضى عليهم، وأن تجتث جذورهم، إلا بالعقيدة الدينية التي يريدون محوها، وأنا أعتبر خائناً ساقطاً من عين الله كل إنسان ملَك سلطة أو ملك قلما وجعل العقيدة الدينية ذات مكانة ثانوية في التوجيه الأدبي أو المادي.

كأن الله -جل شأنه- أراد أن يقول لنا: سمعتم الكذَبة الذين قالوا لكم: إن الهزيمة السابقة كانت للتأخير في التكنولوجيا. لا، كان معنا أسلحة أكثر مما معنا الآن، إنما انتصرنا لأن "الله أكبر" كانت في المعركة الأولى جريمة! أما الآن فإن الأنباء عندما كانت تجيء -وأنا كنت في المغرب- كان التكبير يغطِّي على هدير المدافع! كانت كلمة "الله أكبر" تأخذ مداها في النفوس وفي الصفوف، استدار المفتاح الديني في القلب العربي فانفتح.

"أبو عقيل الأنيفي" والدٌ لجنودٍ مجهولين، لرجال تربَّوا في المساجد لضُبَّاطٍ وقُوَّادٍ ليست لهم أسماء لامعة، ولكنهم وصلوا قلوبهم بكلمة الله، وبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكانت الأمة –برغم الكتابات الملحدة التي ملأ طنينها الآذان– كانت سليمة الجوهر، الطبيعة المؤمنة رفضت كل مراودات الإلحاد، كل إغراءات الشَّرْط، كل أكاذيب الإباحية والفجور، كل محاولات الصرف عن عقائد الإسلام وشرائعه وشعائره، فكان الشعار الديني هو الذي قاد النصر، وكأن الله الذي يُضحك ويبكي، وهو الذي يقول عن نفسه: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) [النجم:43-44]، كأن الذي أضحك وأبكى يريد أن يقول للمسلمين: أنا أستطيع أن أنصركم، وأن تُدك كل عُدد الضلال التي تأنق في إعدادها، وتأني في تجهيزها؛ أنا أُضحِك وأسوق النصر إذا أردت، وأنا أُبكي وأسوق الهزيمة إذا أردت.

أريد أن يعلم الناس أن اليهود يستحيل -ما بقوا في هذه الأرض- أن تكون لهم كلمة مأمونة، أو عهد محترم، أو ذمة مرعية؛ هؤلاء يستحيل -ما بقوا أحياء- أن يتركوا فلسطين، لا بد من سحق هذه العصابة المعتمدة على دينها بأجيال تُرَبَّى، يغذيها القرآن الكريم، يغذيها مربى الأبطال محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- صانع الرجال، يغذيها بسنته.

لابد من عقيدة دينية تغذي هذا القتال، ونعرف أنه ليس قتال أيام قلائل، لا، ما فسد في خمسين سنة أو أقل أو أكثر لا يصلح في خمسين ساعة أو في خمسين يوماً أو خمسين شهراً! لا، الزمن جزء من العلاج، وأمتنا محتاجة إلى علاج طويل، لكن الذي أطلبه الآن هو: أعداء الإسلام مَكَرةٌ مَهَرَةٌ، وقد كسب المتدينون المرحلة الأولى، لكني أخشى عليهم أن تسرق منهم هذه المرحلة، أخشى عليهم كُتَّاباً مردوا على الضلال والمجون، أخشى عليهم حكاماً عاشوا بعيدين عن الله وعن الصلاة، من باب الاعتراف بالواقع، وإن كنت في المغرب قد سرني أن يكون رئيس الدولة هنا مجمِّعا لا مفرقا، اجتمع العرب لأنهم شعروا بأن مصر تقاتل حقاً، وأن أهلها مؤمنون حقاً، وأن الوقوف إلى جوارهم دِين، وأن البعد عنهم خيانة؛ أما قبل ذلك فقد تركونا لأنهم لم يجدونا أهلا لأن يساعدونا، كان حكامنا فجَرةً كَذَبَةً.

إننا لا نريد أن يستولي الضلال على حصيلة ما صنعه الحق في هذه المعركة، بنينا بقاعدة الإيمان "الله أكبر"، ليست صيحة تقال وينتهي الأمر، "الله أكبر " صيحة تفتتح بها الصلاة، فمن لم يُصَلِّ فإن صيحاته في الطريق لا تصلح، ينبغي أن يتعلم قول هذه الكلمة في صلاة تبدأ من مفتتح اليوم، يصلى الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء (إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء:103].

الرجل الذي يجلس في ديوانه أو على مكتبه ويشعر بأن الناس عبيد له أو لأبيه هذا لص، ومرتبه الذي يأخذه سحت؛ الرجل الذي يجلس في ديوان أو مكتب يجب أن يعلم أنه خادم للأمة، وأن سيده وسيد أبيه من قبله –أبو بكر رضي الله عنه- يقول للناس: "إني وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني".

"الله أكبر" كلمة تفتح بها المدرسة لتكون التربية دينية، لن نسمح بإلحاد أبداً، لن نسمح إطلاقا لمن يشككون في الله أو في عظمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، "الله أكبر" كلمة تستقر في المحاكم لتكون أذاناً بأن شريعة الله عنوان العدل والفضل: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام:114-115].

إننا نريد أن يعلم الناس أن اليهود لا عهد لهم، إنهم شنوا حربا دينية هدفها سحق رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- على أساس أن إسرائيل الكبرى سوف تكون قضاء على قلب الإسلام، وقلب الإسلام في مصر! وفلسطين ما هي إلا جناح من مصر صغير، كانت مكملة له عبر التاريخ كله. الآن يجيء رجل أمريكي ليقول: متى كانت سيناء مصرية؟.

إن هؤلاء الأمريكيين لديهم عقدة، هم لا يعرفون كلمة "وطن" بمعناها الحقيقي؛ لأنهم جميعاً طرأوا على أرض لم تكن لهم، هذا ألماني، هذا إنكليزي، هذا فرنساوي، هذا استرالي، هذا عربي، تركوا بلادهم وذهبوا إلى أرض لا تاريخ لهم فيها، يأكلون فيها ويرتزقون!.

فكلمة "الوطن" عندهم كلمة مبهمة؛ لأن إحساسهم بها ضعيف، هم قوم ليس لهم وطن، وأريد أن نعلم قصة الحقد الديني، إن "وايزمان" اليهود يقول: إن "لويد جورج، ولورد بلفور" عندما ساعدونا لم يكونوا يساعدوننا عن رشوة يقدمونها، أو عمل يفعلونه بعيداً عن ضمائرهم، لا، إنهم كانوا يتقربون بهذا العمل إلى ربهم، ويرون أن إعطاء فلسطين لنا تصديق لتعاليم العهد القديم التي يؤمنون بها. هذا ما يقوله "وايزمان" اليهودي، وقوله يعتبر علماً وتاريخاً، ونقوله نحن فيعتبر تعصباً. يجب أن نعلم ما هنالك، بهذه الجملة من الحقائق يمكننا أن نواجه معركتنا القادمة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].

وأشهد أن لا إله إلا الله، ألملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: أيها الإخوة: نحن -كما قلت لكم- لا نريد أن نخون ديننا، ولا كتاب ربنا، ولا سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وسيقول بعض الناس إن دولة كذا ساعدتنا، ودولة كذا أيدتنا، ودولة كذا وقفت إلى صفنا؛ لِيَكُنْ. لكن، ما علاقة هذا بأن نترك ديننا، ونكفر بربنا، ونرتد عن إسلامنا؟.

إن ما بين الروس والأمريكيين من خلاف اجتماعي وسياسي لا شك فيه، وكلاهما يحيا على نمط اجتماعي لا صلة له بتاتا بالنمط الآخر، كلاهما له فلسفته العقائدية والأخلاقية التي لا صلة لها بالآخر، ومع ذلك فإن الروس ما وجدوا حرجاً في أن يتعاونوا مع خصمهم لمصلحة، وإذا كنا نحن سنتعاون مع غيرنا لمصلحة، فللمصلحة فقط، ولا نقبل من أحد أن يقول لنا: اكفروا، لأن من ساعدكم كافر! لا، الله يعلم كيف استوردنا الأسلحة، والله يعلم الكثير مما ينبغي أن يقال، ولكن الذي يقال ويؤكَّد أن اعترافنا بجميلِ مَن أسدى إلينا الجميل لا يعني أن نخون ربنا، وهو ولي نعمتنا الأول، وهو الذي بيَّض وجوهنا في المراحل الأولى من المعركة، وثبَّتَنَا فيما بقى من مراحل.

إن المعركة طويلة، ولا أحب من المسلمين أن يتصوروها سريعة، لا، المعركة أطول مما يظنون، ولكننا عندما نصابر الأيام، وعندما نرجع إلى ديننا بقوة وحماسة، فالمستقبل لنا بيقين.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا أخرتنا التي فيها معادنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر"

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].