التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أهل السنة والجماعة |
وخَدَمَ سلفُكمْ، ومن بعدهم القرآنَ في تفسيرِ مفرداتِه، وبيانِ معانيه، واستنباطِ أحكامِه، وإظهارِ بلاغتِه، وإعرابِ كلماتِه، وكشفِ إعجازِه، فخلَّفُوا لمن بعدهم إرثاً عظيماً طيباً مباركاً فيه، لم تعرفه أمةٌ مِنْ الأُمَمِ عَبْرَ غَبَراتِ التاريخ. اعتبروا خدمةَ القرآنِ من خيرِ الأعمالِ وأشرفها، وأعظمِ القرباتِ وأعلاها، فهو خَيْرٌ دَارٌّ، وحَسناتٌ جَاريةٌ لصاحبه، حياً وميتاً. وتاريخ الإسلام مليءٌ بصفحاتٍ مشرقةٍ من صورِ السخاءِ في خدمةِ القرآنِ، من الخلفاء والرؤساء، والأمراء والأثرياء، بما رصدوه من الأموال، والأوقاف...
الخطبة الأولى:
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
هَلْ حَدِيثٌ أَعْظَمُ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟! وَهَلْ مَجْلِسٌ أَرْوَعُ مِنْ مَجْلِسٍ تُصْغِي الْأَسْمَاعُ فِيهِ لِآيَاتِ الْقُرْآنِ؟! وَهَلْ خِدْمَةٌ أَشْرَفُ مِنْ خِدْمَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ؟!
أَلَمْ يَأْنِ لَنَا أَنْ نُرَقِّقَ قُلُوبَنَا بِالْقُرْآنِ، وَأَنْ نَشْحَنَهَا بِنَسِيمِ الْإِيمَانِ، وَأَنْ نُعَلِّقَهَا بِمَا فِيهِ صَلَاحُهَا وَعِزُّهَا، فَوَاللَّهِ مَا طَابَتِ الْحَيَاةُ إِلَّا مَعَهُ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِالِاسْتِمْسَاكِ بِهِ (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه: 123].
هُوَ أَصْدَقُ الْحَدِيثِ، وَأَشْرَفُ الذِّكْرِ، وَفَضْلُهُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَى خَلْقِهِ.
وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُبِينُ، وَالْحِصْنُ الْحَصِينُ، وَالْحِرْزُ الْمَكِينُ، مِنَ الْأَبَالِسَةِ وَالشَّيَاطِينِ. فِيهِ عَجَائِبُ لَا تَنْقَضِي، وَزُكَاءٌ لَا يَنْتَهِي، لَا يَمَلُّ مِنْهُ قَارِئُوهُ، وَلَا يَسْأَمُ مِنْهُ سَامِعُوهُ.
هَذَا الْكِتَابُ الْمُبِينُ جَاوَزَتْ فَضَائِلُهُ كُلَّ فَضْلٍ، وَحَازَ أَهْلُهُ أَعْلَى نُزُلٍ، فَخَيْرُ النَّاسِ فِي دُنْيَا النَّاسِ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ".
تِلَاوَتُهُ كُلُّهَا خَيْرٌ، وَلَا تَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ "الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ فَلَهُ أَجْرَانِ".
حَازَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ مَنْ قَرَأَ حُرُوفَهُ وَكَلِمَاتِهِ، فَكَيْفَ بِسُوَرِهِ وَأَجْزَائِهِ؟!"مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا".
هَذَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ: "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا. اقْرَؤُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ".
شَرَفٌ وَرِفْعَةٌ وَكَرَامَةٌ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْقُرْآنِ: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الْأَنْبِيَاءِ: 10]، وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ بِهَذَا الْقُرْآنِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ آخَرِينَ".
أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ اغْتِبَاطًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "يُقَالُ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا".
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَلَقَدْ عَرَفَ قِيمَةَ الْقُرْآنِ سَلَفُكُمْ، فَتَفَانَوْا فِي خِدْمَتِهِ، وَأَمْضَوُا الْأَعْمَارَ فِي تِلَاوَتِهِ، وَتَصَبَّرُوا عَلَى تَعْلِيمِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ.
خَدَمُوا كَلَامَ رَبِّهِمْ فَجَمَعُوهُ، وَفِي دُفٍّ وَاحِدٍ كَتَبُوهُ، ثُمَّ فِي الْآفَاقِ نَشَرُوهُ، وَبِتَجْوِيدِهِ وَأَدَائِهِ كَمَا سَمِعُوهُ نَقَلُوهُ.
خَدَمُوا كِتَابَ رَبِّهِمْ حُبًّا لَهُ وَتَعْظِيمًا، فَتَبَارَكَتْ جُهُودُهُمْ، وَأَثْمَرَ بَذْلُهُمْ.
قَامُوا بِذَلِكَ حِسْبَةً لِلَّهِ -تَعَالَى-، لَا يَرْجُونَ جَزَاءً وَلَا شَكُورًا، وَلَا مَدْحًا وَلَا ظُهُورًا، فَبَلَغَ الْقُرْآنُ بِهَذِهِ الْجُهُودِ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَدَخَلَ كُلَّ بَيْتِ مَدَرٍ وَوَبَرٍ.
خَدَمُوا كِتَابَ اللَّهِ فِي حِفْظِ حُرُوفِهِ، وَالْعَمَلِ بِحُدُودِهِ، وَإِظْهَارِ شَرَائِعِهِ حَيَّةً.
خَدَمُوا كِتَابَ اللَّهِ بِتَعَلُّمِهِ ثُمَّ تَعْلِيمِهِ، فَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ -رَغْمَ مَشَاغِلِهِ وَتَقَدُّمِ سِنِّهِ- يُخَصِّصُ كَثِيرًا مِنْ وَقْتِهِ فِي تَدْرِيسِ الْقُرْآنِ.
فَهَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَكَثَ يُقْرِئُ النَّاسَ الْقُرْآنَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَأَسَّسَ مَدَارِسَ التَّحْفِيظِ فِي الْكُوفَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْمَدَارِسِ انْتَشَرَ إِقْرَاءُ الْقُرْآنِ فِي الْعِرَاقِ، وَمَا وَرَاءَهَا عَلَى أَيْدِي طُلَّابِهِ الْحَفَظَةِ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَهَذَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -أَحَدُ قُرَّاءِ الصَّحَابَةِ- شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ، وَلِيَ أَبُو مُوسَى إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ فِي عَهْدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَأَسَّسَ فِيهَا حَلَقَاتِ تَحْفِيظِ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِنَفْسِهِ، قَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "بَعَثَنِي الْأَشْعَرِيُّ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: كَيْفَ تَرَكْتَ الْأَشْعَرِيَّ؟ قُلْتُ: تَرَكْتُهُ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْقُرْآنَ".
تَخَرَّجَ عَلَى يَدَيْ أَبِي مُوسَى الْمِئَاتُ مِنْ حَفَظَةِ الْقُرْآنِ، مَلَئُوا الْآفَاقَ تَعْلِيمًا وَتَبْلِيغًا.
وَاسْتَمَرَّ فِي خِدْمَةِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَهَذَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ -أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ- أَقْرَأَ النَّاسَ الْقُرْآنَ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ، إِلَى زَمَنِ الْحَجَّاجِ، قَرَأَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ، وَالْأَبْنَاءُ، وَالْأَحْفَادُ، وَتَخَرَّجَ عَلَيْهِ آلَافُ الْحُفَّاظِ، كَانَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ هَمَّهُ وَمَشْرُوعَهُ فِي الْحَيَاةِ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ، قَالَ تَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ: "كَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ يُحْمَلُ فِي الطِّينِ فِي الْيَوْمِ الْمَطِيرِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ"، وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ فِي الْمَسْجِدِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
وَخَدَمَ سَلَفُنَا -رَحِمَهُمُ اللَّهُ- كَلَامَ اللَّهِ بِإِكْرَامِ حَمَلَتِهِ، وَإِجْلَالِهِمْ وَتَقْدِيمِهِمْ، لَيْسَ فِي حَيَاتِهِمْ وَحَسْبُ، بَلْ وَحَتَّى بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، رَوَى جَابِرٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ"؛ فَإِنْ أُشِيرَ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ.
وَخَدَمَ السَّلَفُ أَيْضًا كِتَابَ اللَّهِ بِالثِّقَةِ فِي حَمَلَتِهِ، فَمَنْ كَانَ الْقُرْآنُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ فَهُوَ أَهْلٌ لِأَنْ يُؤْتَمَنَ، رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سَأَلَ عَامِلَهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ: "مَنْ خَلَّفْتَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ؟، قَالَ: ابْنُ أَبْزَى، قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْمَوَالِي، فَقَالَ عُمَرُ: كَالْمُتَعَجِّبِ أَوِ الْمُسْتَنْكِرِ: اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! فَقَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا إِنَّ نَبِيَّكَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ بِهَذَا الْقُرْآنِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ آخَرِينَ".
وَخَدَمَ السَّلَفُ كِتَابَ اللَّهِ بِتَوْقِيرِ وَتَقْرِيبِ أَهْلِهِ، فَهَا هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ، يُدْنِي مِنْ مَجْلِسِهِ الْقُرَّاءَ، وَيُقَرِّبُهُمْ، وَيَسْتَشِيرُهُمْ، كُهُولًا كَانُوا أَمْ شَبَابًا، وَكَانَ يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ فِي مَجْلِسِهِ رَغْمَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ؛ لِأَنَّهُ فَاقَ غَيْرَهُ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ.
وَخَدَمَ سَلَفُكُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمُ الْقُرْآنَ فِي تَفْسِيرِ مُفْرَدَاتِهِ، وَبَيَانِ مَعَانِيهِ، وَاسْتِنْبَاطِ أَحْكَامِهِ، وَإِظْهَارِ بَلَاغَتِهِ، وَإِعْرَابِ كَلِمَاتِهِ، وَكَشْفِ إِعْجَازِهِ، فَخَلَّفُوا لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِرْثًا عَظِيمًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، لَمْ تَعْرِفْهُ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ عَبْرَ غُبَّرَاتِ التَّارِيخِ.
اعْتَبَرُوا خِدْمَةَ الْقُرْآنِ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ وَأَشْرَفِهَا، وَأَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَأَعْلَاهَا، فَهُوَ خَيْرُ دَارٍ، وَحَسَنَاتٌ جَارِيَةٌ لِصَاحِبِهِ، حَيًّا وَمَيِّتًا.
وَتَارِيخُ الْإِسْلَامِ مَلِيءٌ بِصَفَحَاتٍ مُشْرِقَةٍ مِنْ صُوَرِ السَّخَاءِ فِي خِدْمَةِ الْقُرْآنِ، مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَثْرِيَاءِ، بِمَا رَصَدُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْقَافِ.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الْإِسْرَاءِ: 9].
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعْدُ: فَهَذَا الْكِتَابُ الْعَظِيمُ وَصَفَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ، وَبَرَكَتُهُ عَامَّةٌ، تَنَالُ كُلَّ مَنْ عَمِلَ فِي خِدْمَةِ الْقُرْآنِ بِقِرَاءَةٍ أَوْ إِقْرَاءٍ، أَوْ سَعْيٍ فِي تَوْسِيعِ دِرَاسَتِهِ وَمَدَارِسِهِ، أَوْ دَعْمِ حَلَقَاتِهِ، وَتَشْجِيعِ أَهْلِهِ.
وَمِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ: مَا يَنْعَكِسُ أَثَرُهُ عَلَى حَمَلَتِهِ، وَلِذَا تَجِدُ أَهْلَ الْقُرْآنِ أَكْثَرَ النَّاسِ اطْمِئْنَانًا، وَأَوْضَحَهُمْ صَلَاحًا، وَأَحْسَنَهُمْ أَخْلَاقًا، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ غَالِبَةٌ.
وَمِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ: أَنَّهُ يُرَبِّي صَاحِبَهُ عَلَى التَّمَيُّزِ وَالذَّكَاءِ، وَتَوَقُّدِ الذَّاكِرَةِ.
وَفِي إِحْصَائِيَّاتٍ رَسْمِيَّةٍ مُعْلَنَةٍ، ذَكَرَتْ أَنَّ طُلَّابَ مَدَارِسِ تَحْفِيظِ الْقُرْآنِ هُمْ فِي الْمَرَاتِبِ الْأُولَى فِي تَرْتِيبِ الْقِيَاسِ، وَأَنَّ مَنْ تَخَرَّجَ مِنْهَا يَتَفَوَّقُ عَلَى غَيْرِهِ مَهَارَةً، وَسُلُوكًا، وَفَصَاحَةً، وَجُرْأَةً، وَجِدًّا، وَانْتَهَتْ عَدَدٌ مِنَ الدِّرَاسَاتِ قَامَ بِهَا عَدَدٌ مِنَ الْمُخْتَصِّينَ، أَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ يَزِيدُ مِنَ التَّفَوُّقِ الْعِلْمِيِّ.
وَمِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ: أَنَّهُ يَحِدُّ مِنَ الْجَرِيمَةِ، وَإِفْسَادِ الْبِلَادِ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْعِبَادِ، وَالنِّسَبُ الْعَالَمِيَّةُ تَقُولُ: إِنَّ 30% مِنَ الْمُجْرِمِينَ يَعُودُونَ لِلسِّجْنِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ.
وَفِي دِرَاسَةٍ أُجْرِيَتْ فِي سُجُونِ الرِّيَاضِ انْتَهَتْ أَنَّ الْجَرِيمَةَ تَقِلُّ مَعَ حِفْظِ الْقُرْآنِ؛ حَيْثُ أُجْرِيَتْ دِرَاسَةٌ فِي حِفْظِ جُزْءِ عَمَّ، وَتَبَارَكَ، وَأَثَرِهَا عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ لِلسِّجْنِ، وَخَلُصَتِ الدِّرَاسَةُ أَنَّ نِسْبَةَ مَنِ الْتَحَقُوا بِهَذَا الْبَرْنَامَجِ انْخَفَضَتْ إِلَى 11%، وَأَنَّهَا انْخَفَضَتْ 100% لِمَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ كَامِلًا.
يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، لَقَدْ وَصَفَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَلَامَ اللَّهِ -تَعَالَى- بِأَنَّهُ رِفْعَةٌ لِأَهْلِهِ، وَهَذِهِ الرِّفْعَةُ شَامِلَةٌ لِلرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكُلُّ مَنْ خَدَمَ كِتَابَ اللَّهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِدْمَةِ فَلَهُ حَظٌّ مِنْ هَذِهِ الرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ.
وَلَقَدْ أَدْرَكَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ أَنَّ قُوَّةَ الْمُسْلِمِينَ هِيَ فِي قُرْآنِهِمْ، فَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُهُمْ لِلذَّبِّ عَنْ دِينِهِمْ وَنُصْرَتِهِ، وَتَبْلِيغِهِ، وَالِاسْتِمْسَاكِ بِهِدَايَاتِ رَبِّهِمْ.
وَلِذَا نَاصَبَ هَذَا الْخَيْرَ أَعْدَاءٌ مُتَكَشِّفُونَ، وَأَبْنَاءٌ عَاقُّونَ مُتَسَتِّرُونَ، فَسَعَوْا إِلَى تَجْفِيفِ مَنَابِعِ هَذَا الْقُرْآنِ وَتَنْحِيَتِهِ، وَإِغْلَاقِ مَدَارِسِهِ، وَتَشْوِيهِ أَهْلِهِ، أَوِ التَّشْكِيكِ فِي نَوَايَا مُعَلِّمِيهِمْ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَحَاضِنَ تُفْرِخُ الْإِرْهَابَ وَتَصْنَعُ التَّشَدُّدَ، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الْكَهْفِ: 5].
وَإِنَّ أَنْجَحَ وَخَيْرَ عَمَلٍ يَقُومُ بِهِ أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْغَيْرَةِ مَعَ هَذَا الْفُجُورِ، هُوَ نُصْرَةُ الْقُرْآنِ بِنَشْرِهِ وَتَوْسِيعِ تَعْلِيمِهِ، وَتَوْقِيرِ أَهْلِهِ، وَرَبْطِ النَّاشِئَةِ بِالْقُرْآنِ، فَهُوَ الَّذِي سَيَحْمِيهِمْ مِنْ مَزَالِقِ الْغُلُوِّ، وَدَرَكَاتِ الضَّيَاعِ بَيْنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ.
إِنَّ بِلَادَنَا يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ هِيَ مَأْرِزُ الْإِيمَانِ، وَفِيهَا قِبْلَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهَا نَزَلَ الرُّوحُ الْأَمِينُ بِخَيْرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَعْظَمِهَا؛ لِذَا قَامَتْ هَذِهِ الْبِلَادُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَانَ لِلْقُرْآنِ مَزِيدُ عِنَايَةٍ بَيْنَ أَهْلِهَا، حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ، وَوُزَرَاءَ وَمَسْئُولِينَ، وَأَهْلِ جَاهٍ وَمُوسِرِينَ.
وَإِنَّ قَرَارَ وِزَارَةِ التَّعْلِيمِ فِي تَوْسِيعِ فُصُولِ الْقُرْآنِ قَدْ أَبْهَجَ كُلَّ مُحِبٍّ لِلْقُرْآنِ، فَهُوَ قَرَارٌ مُسَدَّدٌ، يُذْكَرُ فَيُشْكَرُ، وَيُدْعَى لِأَهْلِهِ، وَيُشَدُّ عَلَى أَيْدِيهِمْ، نُصْرَةً وَحُبًّا فِي الْقُرْآنِ.
حَفِظَ اللَّهُ لِبِلَادِنَا أَمْنَهَا وَإِيمَانَهَا، وَكَفَاهَا عَدَاءَ كَيْدِ الْمُتَرَبِّصِينَ، وَشَرَّ نَفَثَاتِ الْمُنَافِقِينَ.
صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَحَبِيبِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.