البحث

عبارات مقترحة:

الحسيب

 (الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

فلسطين.. الدرة المغتصبة

العربية

المؤلف محمد الغزالي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. تأريخ القدس منذ عهد العرب البائدة إلى الآن .
  2. خصائص الجنس العربي .
  3. بالدين يكون انتصار العرب .

اقتباس

احتقار مكشوف للعرب، سخرية واضحة من رجالاتهم إن كان لهم رجالات! ثم ننظر فنجد هذا الحقد الديني الذي بدأ يسخِّر الذكاء البشري الآن والتقدم العلمي لمصلحته، ... حتى عُبَّاد البقر في الهند استطاعوا أن يفجروا الذرة لحسابها، بينما المسلمون يعيشون في باكستان ما بين سلف وخلف ..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فحديثنا في هذه الجمعة عن "فلسطين والقدس"، وهو حديث ذو شجون؛ لأننا سنعود القهقري إلى تاريخ طويل مضى وغارت جذوره في الأرض، لكن ما هناك بد من البحث في هذا التاريخ، خصوصاً أن بني إسرائيل جاؤوا إلى الأرض المقدسة في القرن وهم يستصحبون ذكريات مضت، وينبشون التاريخ عن رفات توارت طويلاً في الثرى.

ما هناك بد من أن نذكر هذا التاريخ؛ لأننا -نحن العرب- كثيرو النسيان، ويجب؛ لكي نحسن العمل في حاضرنا؛ ولكي نحسن العمل لمستقبلنا، أن نعرف ماضينا جيداً. وماضي الأمة العربية الغائر في التاريخ جدير بالدراسة والاعتبار؛ لأن هذه الأمة كشفت تجارب الماضي والحاضر –على سواء– على أنها ما تحيا إلا بدين.

إذا كان السمك يحتاج إلى الماء ليحيا، وإذا كان البشر يحتاجون إلى الهواء ليحيوا، فإن الجنس العربي يوم يفقد دينه يفقد أسباب حياته، ويستحيل أن يبقى له على ظهر الأرض وسم ولا رسم، ولابد أن نعرف طبيعة جنسنا، وعندما نذكر هذه الطبيعة فيجب أن ننبش في التاريخ الماضي.

إن بني إسرائيل جاؤوا ليقولوا: نحن أصحاب فلسطين. لقد كانوا أصحاب فلسطين يوماً، ولكن قبل أن يكونوا أصحابها كانت هذه الأرض ملكاً للعرب، وكان العرب ينتشرون في جنوب الجزيرة، ووسطها، وشمالها، وفوق الشمال، ولكنهم -كما قلت- اختُبروا اختباراً مراً كي يكون لهم دين يحيون به، فلما تمردوا على هذا الدين عصف بهم، وحُصدت خضراؤهم، وحلَّت بهم من عقوبات السماء ما سوَّد وجوههم، وأنزلهم حضيضاً لا يخرجون فوقه أبداً.

ما يسمى بـ "أورشليم" هو في الحقيقة "أورسليم"، اللغة العبرية تنطق السين شيناً، يقولون "موشى" وهو "موسى"، "أورسليم" بلد سليم، أو محلة سليم، كان هناك مكان للعرب! إن للعرب وجودا في فلسطين، كيف؟ كانوا هم الجبابرة الذين يسكنون هذه الأرض، وهؤلاء الجبابرة امتداد لإخوانهم في جنوبي جزيرة العرب، في جنوب الجزيرة كانت توجد ديار الأحقاف، وفيها عاد، (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) [الفجر:8]. وفيها سبأ وجنانها النضرة التي أغرقت لما كفرت.

وندفع الجنوب إلى الشمال فنجد "ثمود" و"مدائن صالح"، والخراب الذي حل بهذه القبائل لما كفرت بنبي الله صالح بعد أن كفر إخوانهم في الجنوب بنبي الله هود، ثم نصعد فنجد مدين التي كفرت بشعيب، ونصعد فنجد قوى المؤتفكة –في الأردن– التي كفرت بنبي الله لوط، ونصعد فنجد فلسطين والجبابرة الذين سكنوها من الكنعانيين العرب، ونصعد فنجد الفينيقيين –وهم جيل سامي– امتداد للجنس العربي.

هؤلاء العرب الأقدمون دمر الله عليهم، وبعد أن ذكر الأنبياء العرب الذين حاولوا أن يرتفعوا بمستوى الجزيرة، وأن يصلوها بالسماء، وأن يجعلوا حضارتها تشرب الروحانية بدل القسوة، والتواضع بدل الكبر، والعدالة بدل المظالم، والإنصاف الاقتصادي بدل الغش والاحتكار؛ لما أبى العرب هذا دُمر كل ما بنوا. قال -جل شأنه- في سورة هود: (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ) [هود:100].

كان العرب الكنعانيون في فلسطين، وكانوا جبابرة، وكما قلت الجنس العربي جنس في غرائزه قوة، وفي طباعه صلابه، وفي مواهبه امتداد، إذا سخر للخير ارتفع بمواكب الحق إلى الأوج، وإذا سخر للشر ركبته شهواته، ومضي به إبليس يمنة ويسرة، فأسف وفعل المناكر!.

هذا هو الجنس العربي، وكما قال ابن خلدون –وهو من أدق الرجال وصفاً للجنس العربي– إنهم جنس لا يصح إلا بنبوة، ولا يقوم إلا بدين، ولا ترقى مواهبه إلا بشرائع السماء، فإذا ترك العرب النبوة والدين وشرائع السماء تحولوا إلى قطعان تعبد الشهوة، وتطلب المال؛ لتبعثره ذات اليمين وذات الشمال؛ تنفيساً عن شهواتها!.

العرب من غير دين شعوب يأكل بعضها بعضاً، ومن أجل ناقة ظلت حرب البسوس أربعين سنة، ومن أجل خيل مضت في السباق –داحس والغبراء– انطلقت الحروب عشرات السنين. إنه جنس يدمر يومه وغده ما لم يربطه دين، وما لم تعصمه آيات الوحي، وما لم تلجم غرائزه بهدايات السماء !!

هؤلاء هم العرب. أين عاد؟ أين ثمود؟ أين مدين؟ أين قرى المؤتفكة؟ أين غيرهم؟ دمر عليهم.

ثم جاءت النبوة الخاتمة لكي تجعل من العرب جنساً آخر، ومضى تاريخهم، لكن قبل أن نتحدث عن تاريخ العرب بعد أن شرفهم الله بالإسلام نريد أن نتحدث عن تاريخ غيرهم، عن تاريخ اليهود، فإن هذا الشعب –وهو ابن عم العرب– شعب غليظ الرقبة، بادي القسوة، شديد العناد؛ وعندما نزلت بهم لعنات الفراعنة، وصرخوا بموسى -عليه السلام- يقولون له: (... أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا. قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129].

سيقع يوم تنكسر عنكم القيود، ويوم تملكون حريتكم. كلمة ناضحة بأن الرجل متشائم منهم، وبأنه يدري أنهم يوم يملكون القوة فسيكونون ألعن من الفراعنة! وملَك بنوا إسرائيل القوة بعد لأي، حاول موسى بمنطق الإيمان أن يزحف بهم على فلسطين يوم كان العرب الجبابرة يسكنونها فغلبهم الجبن، و(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ! وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) [المائدة:22]. إن يخرجوا منها تدخلها الكلاب! أي كرامة لكم يوم تدخلون فلسطين وليس فيها أحد من العرب؟ ولذلك فإن موسى (قَال رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة:25، 26].

تاهوا في سيناء أربعين عاماً حتى هلكت الأجيال الجبانة الخوَّارة، ونبت جيل آخر قاده نبي الله "يوشع"، ودخل فلسطين، وقهر الجبابرة، وأقاموا دولة لهم؛ وما مضت إلا فترة محدودة حتى أخذت قشرة التدين تتقلص، وحتى أخذت الطبيعة الرديئة تبرز، وغرائز السوء تطفح، وإذا باليهود يفسدون في الأرض، ويسفكون الدم، ويملؤون أقطار دولتهم مظالم. فماذا يفعل الله بهم؟ سلط عليهم "بختنصر" فهزم دولتهم، وهدم هيكلهم، وساق عشرات الألوف من الشباب اليهودي أسرى أمامه إلى "بابل"، وفي السجن البابلي أذيقوا أشد العذاب.

ثم عفا الله عنهم، ويسر لهم حاكماً ردهم مرة أخرى إلى بلادهم، فهل عادوا ليرعووا، ويعدلوا، ويصلحوا؟ لا! سرعان ما عادت إليهم طباع السوء، فما هي إلا جولة وأخرى حتى انقض عليهم الرومان، وأمر القائد الروماني "تيتوس" بتدمير الهيكل، فدمر الهيكل مرة أخرى، وبدا أن الشعب الإسرائيلي بعد عدة مئات من السنين لا يصلح للحكم، وأن أداة الحكم في يده تجعله مفتاح شر، وتجعل أصابعه الطائشة تطلق قذائف من الدمار والفساد على أهل الأرض فما ينجو أحد من بلائهم.

حاولوا قتل عيسى -عليه السلام- وفشلوا، وحاولوا قتل محمد -صلى الله عليه وسلم- وفشلوا، وإن كانوا قد نجحوا في قتل أنبياء آخرين: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً، كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) [المائدة:70].

إلَّا أن الله عز وجل كان قد هيأ للإنسانية مستقبلاً آخر، ونقلت قيادة الوحي من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، ونقلت لغة الوحي من العبرية إلى العربية، ونقلت عاصمة الوحي من بيت المقدس إلى مكة والمدينة، وتولى تربية العالم جنس آخر رباهم محمد -صلى الله عليه وسلم- تربية جديدة، وسكب النبي الخالد -صلى الله عليه وسلم- من سموه، ومن سناء روحه، وارتقاء ضميره ورسوخ تقواه؛ سكب في أولئك العرب ما حولهم خلقاً آخر؛ فإذا هم يخرجون على الدنيا وكأنهم ملائكة! تحول الجبروت الجاهلي إلى سناء واهتداء وافتداء في سبيل الله.

إن عمل النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- وهو المعجزة التي لم يعرف العالم لها نظيراً من بدء الخلق إلى الآن! كيف أمكن ترويض هذا الجنس وحشد قواه ليتحول إلى زلازل تدمر الإمبراطوريات التي شمخت جدرانها على الطغيان قروناً ما استطاع أحد أن يهدها حتى جاء المسلمون فغيروا الدنيا؟! كانت هناك إرهاصات روحية، أو بدايات معنوية في ليلة الإسراء والمعراج عندما انتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس في صلاة روحية بالنبيين الأسبقين، ثم تحقق المعنى الروحي فيما حدث بعد ذلك؛ فإن بيت المقدس الذي دمره البابليون مرة، ثم أعيد بناؤه، ودمره الرومانيون مرة أخرى عاد إليه العرب في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- بعد الإرهاصات الروحية التي كانت ليلة الإسراء والمعراج، وذهب عمر -رضي الله تعالى عنه- بالعرب، ونظر الناس فاستغربوا!.

كان القائد المحلي "أبو عبيدة الجراح" -رضي الله تعالى عنه- يرى أن يدخل عمر -رضي الله تعالى عنه- بيت المقدس في موكب الفاتحين، وفي أبهة المنتصرين؛ وذلك أنه يرى أن أولئك بقايا الاستعمار الروماني، وأن المناظر الهائلة قد تترك في نفوسهم انطباعات معينة، لكنه فوجئ بما أذهله، فإن الخليفة الراشد عمر -رضي الله تعالى عنه- جاء على ناقته من المدينة، وأبى أن يكون في موكب.

ويحكي التاريخ (انظر البداية والنهاية لابن كثير) أن بِركة اعترضت ناقة عمر -رضي الله تعالى عنه- فنزل الخليفة، وحمل نعليه إلى عنقه، ومضى بناقته يخوضان البركة؛ فقال أبو عبيدة -رضي الله تعالى عنه-: ما يسرني أن أهل المدينة يستشرفونك على هذا النحو. فقال له عمر: ويحك يا أبا عبيدة! لو غيرك قالها جعلته نكالاً لأمة محمد. لقد كنا أذَلَّ الناس حتى أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله!.

عمر لا يدخل بيت المقدس عارضَ أزياء! عمر لا يدخل بيت المقدس في موكب فاتحين! عمر لا يدخل بيت المقدس وهو يحمل شارات العمالقة..لا..لا ثياب مارشال، ولا ثياب جنرال! دخل عمر بيت المقدس تابعاً من أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-، دخل رجل دين وبر وتقوى، دخل متواضعاً لربه ليتسلم بيت المقدس، ورأى الناس من الفاتح الذي تسلم بيت المقدس العجَب! كان اليهود ممنوعين أن يدخلوا القدس، وطلب النصارى من عمر -رضي الله تعالى عنه- ألا يسمح لليهود بدخول فلسطين أو القدس، هذه واحدة.

وكان الرومانيون الذين يسلمون القدس يرون أن أندادهم من النصارى –المصريين والشوام– ليسوا أهلاً لأن يكونوا عباداً معهم في كنيسة، وعندما دخل المسلمون مصر كان البطريك مسجوناً بكل احتقار، وكان أخوه قد أُحرق ورميت جثته في البحر الأبيض! لكن الفاتح الجديد نقل إلى العالم بدعة التسامح الديني! نحن المسلمين الذين أخرجنا للناس بدعة التسامح الديني، التي جعلت عمر -رضي الله تعالى عنه- وقد قال له بطريرك بيت المقدس عندما أدركته الصلاة: "صلِّ حيث أنت" قال: "لا؛ لو صليت هنا لوثب المسلمون على المكان وقالوا: هنا صلى عمر؛ وأخذوا الكنيسة منكم". وذهب فصلى بعيداً.

لو كان فاتحاً ممن يحتقرون وجهات النظر الأخرى، ويدمرون على غيرهم، لَصلى في المكان واغتصبه؛ لكنه لم يفعل شيئاً من هذا! والغريب أن أخس مشاعر الجحود تتدارس الآن بين يهود العالم ونصاراه تريد اتهام المسلمين بالتعصب، وهم الذين علموا هؤلاء وأجدادهم ما هو التسامح، ولو أراد المسلمون ألا يبقى غيرهم في الشرق الأوسط ما بقى أحد، ولكنهم أبقوهم لله صدقة للإسلام، لأن الإسلام لا يعرف الإكراه، ولا يعرف الغصب والجبروت.

لم يجيء الخليفة ليملي شروطه، بل جاء الخليفة ليتسلم العاصمة القديمة للوحي، ويجعلها من الناحية العملية حرماً ثالثاً للحرمين الشريفين، ومضى العرب في طريقهم يحملون أمانات الوحي، ويبلغون رسالات الله، ولكن الطبيعة العربية بدأت تغالب تعاليم الإسلام.

دعْنا من ميدان العلم؛ فإن ميدان العلم بقى نظيفاً، وجلس الحسن البصري -رحمه الله- يعلمهم في ميدان العلم كانت تعاليم الإسلام سائدة. أما في ميدان الحكم فإن تقاليد بعض الأسر العربية المدعية للنبل وللرياسة وللجاه غلبت، وغلبت معها طبائع جنس، وطبائع جاهلية قديمة؛ فإذا العرب يتبعون دينهم، وأبناءهم، وتاريخهم، ورسالتهم؛ وإذا هم ينشغلون بالشهوات والملذات، والاختلاف على المناصب والرياسات، وكانت النتيجة أن هجم الصليبيون في مطلع القرن الخامس الهجري، هجموا على بيت المقدس ودخلوه.

والذي ينبغي أن يعرف -ولا أدري لماذا لا يدرس بإلحاح- أن الصليبين في أول حملاتهم على الإسلام ما كانوا أهلاً لانتصار، ولا كان الانتصار ميسراً لهم، لقد أكلوا الجيف من الجوع، وأدركهم الإعياء وهم يلهثون بعد مراحل طويلة قطعوا فيها من "فينا" و"برلين" إلى "القسطنطينية" إلى "الأناضول" إلى "الشام" إلى "بيت المقدس"، قطعوا مراحل استهلكوا فيها، فلو أن أي جيش اشتبك معهم لهزمهم، ولكن التاريخ قال: سكتت دمشق..سكتت القاهرة..سكتت بغداد..سكتت مكة.. سكتت المدينة..سكتت العرب.. وتركوا هؤلاء ينفردون ببيت المقدس ليذبحوا فيه سبعين ألف مسلم! وليؤسسوا فيه إمارة لاتينية ظلت هذه الإمارة اللاتينية تسعين سنة يعين "باروناتها" من "باريس"، ويبارك هذا التعيين "بابا الفاتيكان"!.

ثم جاء رجل مسلم ليس بعربي وهو "صلاح الدين الأيوبي" وشعر بأسلوب الهزيمة. أيُّ دارس للتاريخ العربي يعلم أن العرب ينتصرون حين يؤوبون إلى ربهم، ويثوبون إلى دينهم، ويتمسكون بشرائعهم، ويعتزون بنسبهم السماوي، لا يحتاج الأمر إلى عبقرية. إن الحزام الذي يشد العرب بقوة ويمنع تفككهم هو الدين، فإذا انقطع هذا الحزام تفرقت العصي ولم يبق أحد إلى جانب أحد. فبدأ صلاح الدين يعمل "لا جديد تحت الشمس" إذا كان الإمام أبو حامد الغزالي -رحمه الله- قد ألف كتابه "إحياء علوم الدين"، كأن علوم الدين ماتت! فإن صلاح الدين الأيوبي فعلاً بدأ بعملية إحياء عملية! قال المؤرخون: جنَّد العلماءَ بعد ما محا مذهب الشيعة الذي كان يدرس في الأزهر، جند العلماء لتدريس العقائد بين الجماهير، ولجمع العوام على مقاعد الأخلاق، ومكارم الشيم، وهل تنتصر أمه دون عقيدة؟! وهل يقوم مجتمع بدون أخلاق؟! إن الرجل بدأ البناء من الداخل.

وفعلاً جمع الناس على الإسلام، ثم خرج بهم ليناوش عدوه، وكانت مناوشة رهيبة، إننا نقرأ في التاريخ أن بيت المقدس أعيد بسهولة أو أعيد في سطرين نقرؤهما على عجل، لكن الواقع أن المسلمين ضحوا كثيراً، وأن القائد الإسلامي صلاح الدين كان على فرسه وهو يقود المسلمين، لكن قلبه كان يدق خشوعاً لله عز وجل، واستمداداً منه، وخوفاً من غضبه، ورجاءً في عفوه.

وكلما رأى الصليبيين يهجمون ويتقدمون وتنداح دوائر المسلمين أمامهم يصرخ "كذب الشيطان"، ويعود المسلمون مرة أخرى إلى الهجوم، فلما طويت أعلامهم، وانكشفت خيمة ملكهم، هوى صلاح الدين من على ظهر فرسه إلى الأرض ساجداً لله! رجل ما كان مستكبراً، ولا كذاباً، ولا مدعياً؛ إنما كان كأنه وهو يقود المسلمين في القتال إمام في محرابه، تدمع عينه، وتخشع جوارحه، وينتظر من رب الأرض والسماء أن يعينه؛ لذلك جاءت المعونة، وجاء النصر، وعاد بيت المقدس إلى المسلمين.

لقد هجم الأوربيون هجمتهم.كيف هجموا؟ كيف تسللوا؟ يقول التاريخ: ما تسللوا إلا في الفراغات الموجودة بين الشعوب الإسلامية، ظلم الترك العرب، وخان العرب الترك، وانقسمت الشعوب الإسلامية انقسامات مرة؛ في هذا الفراغ تسلل الإنكليز والفرنسيون، وعادوا مرة أخرى إلى بيت المقدس، عادوا ليقول الجنرال الفرنسي "جيرو" وهو يقف إلى جوار قبر صلاح الدين: يا صلاح الدين! ها نحن قد عدنا! ويقول الجنرال "للنبي": الآن انتهت الحروب الصليبية!.

ما انتهت الحروب الصليبية، وإنما هي الأيام مد وجزر، عاد هؤلاء ليسلموا الأرض مرة أخرى إلى اليهود، واليهود شعب ما كذبت السماء عندما وصفته الوصف الجدير به: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ؟ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ، أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) [المائدة:59، 60].

إن الغدر اليهودي طبيعة جنس، وخصائص دم، وميراث أجيال، وحقيقة لا يمكن إنكارها، ولا التغاضي عنها؛ واليهود يعلمون بأنفسهم هذا، وهم يؤكدون أنهم إذا كانوا قد ضربوا "مفاعلاً ذرياً للعراق" فهم مستعدون أن يضربوا أي بلد عربي له قاعدة يخشونها، أو له قوة يرهبونها، هذه طبيعتهم. ولست ألومهم! لكني ألوم الصف المختل، ألوم العين النائمة وسط العيون الخائنة، ألوم العرب الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.

بم ينتصر العرب؟ ارجع مرة أخرى إلى تاريخنا، إن آباءنا في عاد وثمود –العرب العاربة– هل مكَّن الله لهم؟ دفَنَهم في أنقاض مخازيهم ومآسيهم وإلي حيث ألقت... ما تعمل الإنسانية بأجناس تعيش للكبر والرفاهية والشذوذ وسوء الخلق؟ وماذا تكسب الحضارة الإنسانية من عرب إذا ملكوا المال استغلوه في خراب الذمم، وشراء الشهوات، واقتناص الملذات، وتحقير المآثر، ودفن آيات الوحي؟ ما يفعل الله بهم؟ لابد أن يدفنهم في أنقاضهم!.

إن العرب بطريقتهم التي يعيشون بها الآن لن يضربهم اليهود وحدهم، بل تضربهم كلاب الأرض كلها! العرب، بالطريقة التي يعيشون بها لا يستحقون نصراً، لكي يستحق العرب النصر يجب أن يسألوا أنفسهم، أو لكي يدخلوا بيت المقدس مرة أخرى يجب أن يسألوا أنفسهم: هل سنكون بأخلاق الجبابرة الذين سكنوا بيت المقدس قديماً فبعث الله إليهم "يوشع بن نون" فدمر عليهم، واستوقف الشمس فلم تغرب حتى ألحق بهم الهزيمة؟ إذا كان العرب بأخلاق الجبابرة الأقدمين فليأخذوا مصير الجبابرة الأقدمين.

أظن العرب يدخلون بيت المقدس مرة أخرى يوم يدرسون أخلاق عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-، لم يكن الرجل كلما قلنا عارض أزياء، ولم يكن داخلاً في موكب الخيلاء؛ بل كان الرجل يخوض بناقته بركة، ويرى أن يعرض الإسلام مبادئ تواضع.

متى يدخل العرب فلسطين وبيت المقدس؟ يوم يرون رجلاً كصلاح الدين. قالوا: جمع الغبار من معاركه وأوصى أن يكون وسادة له في قبره،؛ حتى إذا حوسب قال للملائكة: هذا الغبار كان في سبيل الله! أين أخلاق صلاح الدين؟ أين أخلاق عمر؟.

إن العرب لكي ينتصروا مرة أخرى ويعودوا إلى فلسطين يجب أن يعودوا بدينهم، وليعلم الجيل الحالي والجيل الذي يليه أن راية الإسلام وحدها هي التي تجمع الشمل، وأن خرافة البعث العربي، وخرافة القومية العربية، وخرافة القوميات الضيقة، وخرافة الانطلاق وراء كل سراب خادع، وأمل كاذب، مع التفريط في دين الله، كل هذا لا ينتهي بأصحابه إلا إلى الضياع والدمار.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25، 26].

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: عبادَ الله! مرة أخرى أريد أن أكذب إشاعة سرت بين الناس، هذه الإشاعة هي أن العصر الحاضر عصر العلمانية واطِّراح الأديان ظِهرياً، وعصر الانطلاق وراء المقررات الإنسانية المجردة، إلى غير هذا الكلام.

هذا كلام مكذوب، هذا العصر هو العصر الذهبي للأديان كلها ما عدا الإسلام، اليهودي التائه الذي كان يبحث عن حارة له في روما أو باريس أو القاهرة أصبح يملك دولة! ما كان هذا له من أربعين قرناً! "بيجين" البولندي الأفَّاق الذي جاء من "بولندا" ماذا يملك؟! جاء إلى أرضنا ليطرد العمد من قراهم وليقول: هذه أرضي أنا ويخرج منها أي مسلم أو أي عربي!.

باسم اليهودية يملأ فمه فخراً. أولئك الذين يريدون ألَّا نفخر بالإسلام ويتركون هذا الإنسان يفخر باليهودية! ألا تُحشى أفواهم بالنِّعال؟ والله ما يستحقون إلا هذا! تسكتون عندما يفخر الناس بيهوديتهم، فإذا تحدثنا عن الإسلام تنمَّرتم وقلتم رجعية أو تعصب! كيف هذا؟!.

لقد كان الأوربيون يحتقرون الكنيسة ويحملونها أوزار التخلف ألف سنة؛ لأن العصور الوسطى كانت عصور الموت الأدبي في أوربا، وعندما بدأ عصر الإحياء من مواريثنا -نحن المسلمين- سمي عصر الإحياء لأن الجيف بدأت تتحرك، بدأ الأموات ينشطون من مواريثنا، وحمل المفكرون الكنيسة وخرافاتها وسقامها العقلي حملوها وزر ظلمة أوربا في ألف سنة أو يزيد!.

الآن استطاعت أن تجند دول العالم الصليبي وغير الصليبي لكي تخدم أغراضها. وما أغراضها؟ إنها تنسي الإلحاد والدعارة في كل شبر في الغرب، وتذكر شيئاً واحداً هو أن دين محمد -صلى الله عليه وسلم- يجب أن يزول! هذا ما تذكره، وهذا ما تعمل له سياسات الغرب التي تظاهر إسرائيل ضدنا الآن.

احتقار مكشوف للعرب، سخرية واضحة من رجالاتهم إن كانت لهم رجالات، ثم ننظر فنجد هذا الحقد الديني الذي بدأ يسخِّر الذكاء البشري الآن والتقدم العلمي لمصلحته، حتى الوثنية، حتى عباد البقر في الهند استطاعوا أن يفجروا الذرة لحسابها، بينما المسلمون يعيشون في باكستان ما بين سلف وخلف، قبوريين وصوفيين، مذهبيين وتقدميين، سنة وشيعة... إلى آخر هذا الهراء الذي جعل حكاماً هناك يبيتون سكارى ويدخلون المعارك وهم مخمورون، ثم تضربهم امرأة هندية (انديرا غاندي رئيسة وزراء الهند حينذاك) ضربة تقسم باكستان قسمين كما ضربت العرب امرأة يهودية (جولدامائير: رئيسة وزراء إسرائيل حينذاك) فسودت وجوهنا سنة 1967 والعمالقة الذين لهم عضلات من "شراميط" -كما يقول الرافعي- بدا عوراهم، وانكشف عارهم، وظهروا على حقيقتهم.

امرأة هندية تهزم المسلمين هناك، وامرأة يهودية تهزم المسلمين هنا، والسبب واضح وهو أن الأمة الإسلامية فرطت في دينها وثرائها، لا بد من أن نعود إلى ديننا، وهي عودة ليست بنت يوم أو يومين، أو شهر أو شهرين؛ إن ما فسد على مدى قرنين من الزمن لا يصلحه حماس خطبة، أو حماس عام كامل، الأمر يحتاج إلى دراسة رجال، وأعمال لجان، وتدبير مخلصين، العمل يحتاج إلى الكثير، الأمة الإسلامية الآن نظرت إلى كثير من قادتها ثم قدرت كفاياتهم بإنصاف فوجدت أكثرهم لو كان يعمل في شركة ما كان أكثر من "قمسيونجي"! لو كان يعمل في مدرسة ما كان أكثر من كاتب قيودات! لكنهم بسحر ساحر أصبحوا رجال دولة! أصبحوا شيئاً خطيراً. وعندما يصطدم هؤلاء بالرجال الكبار يتلاشون، اصطدموا بالنساء فتلاشوا!.

إن الأمة الإسلامية تحتاج إلى علاج طويل وفيه مرارة، لكن ما بد من هذا كله، لا أريد صيحات هستيرية، ولا أريد أعمالاً عشوائية، إنما يحتاج الأمر إلى القادة والمربين والعقلاء.

على أية حال، إنني بعد ما جئت من سياحة في العالم العربي أشعر بشيء من الرضا واليقظة النفسية عندما أرى أن مؤتمراً ينعقد في هذا المسجد لينظر الأوضاع التي يواجهها المسلمون الآن، والعدوان الوضيع الذي شنه أعداء الله علينا، ولابد أن المؤتمر سيخوض في قضايا ما يمكن أن يتجاهلها المسلمون. إن أعداءنا لا يخجلون من شيء؛ بل لقد قال قائلهم: "ما نبالي باستياء العالم!" فإذا بلغوا هذا الحد من الصفاقة، فهل سيبقى المسلمون سكوتاً؟ لا، وإلا فإن قبورهم سوف تحفر لهم لا غداً... بل اليوم!.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر" رواه مسلم .

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر:10].

عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].