المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | أيمن بن شعبان السكري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
لقد كان اعتداؤهم أمرًا عظيمًا، لقد اعتدوا على أمر واحد من شريعة الله، وشريعة الله تشمل الأمر والنهي والحدود والفرائض، ودين الله واحد من لدن آدم -عليه السلام- حتى آخر الأنبياء والرسل محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الشرائع شتى، فقد روى أحمد في مسنده عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأنبياءُ إخوةٌ لِعَلَّاتٍ، دينهم واحدٌ، وأمهاتهم شتى". رواه أحمد.
الخطبة الأولى:
تحدثنا في اللقاء السابق عن أصحاب السبت، الذين ذكرهم الله تعالى في أكثَرَ من موضعٍ في القرآن، ليعتبرَ الناسُ بما حل بهم من عقوبة، وليتعظَ المتقون.
وقلنا: إن أصحاب السبت هم طائفة من بني إسرائيل، كانوا يسكنون في قرية تقع على ساحل البحر، وكان عملهم الذي يتكسبون منه هو صيد الحيتان، فكانوا يخرجون للصيد كل يوم إلا يوم السبت؛ لأن شريعتهم في التوراة تُحرم عليهم العمل في يوم السبت، فكانوا يلتزمون بشريعتهم تلك كشأن سائر المؤمنين من اليهود. وقد ابتلاهم الله تعالى بأن الحيتان تأتيهم يوم السبت حتى يرونها طافية على الماء قريبة من الساحل، وفي غير يوم السبت لا تأتيهم، فلم يصبروا على هذا الابتلاء، وإنما خالفوا شريعة الله بحيل خبيثة، فمنهم من خرج يوم السبت واصطاد حوتًا، ولكنه لم يخرجه من البحر، وإنما حزمه بحبل مربوط بوتد على الشاطئ، حتى إذا جاء يوم الأحد سحب الحبل وأخرج الحوت. ومنهم من حفر حفرة على الشاطئ متصلة بقناة إلى البحر، وجلس يرقب الحيتان في يوم السبت، فإذا دخل حوت إلى هذه الحفرة وضع حاجزًا على فوهة القناة، حتى لا يستطيع الحوتُ الرجوعَ إلى البحر مرة أخرى، فإذا جاء يوم الأحد أخرجه من الماء. وكانوا يفعلون ذلك سرًا في بادئ الأمر حتى كثر صيدهم للحيتان وباعوها في الأسواق، فانتشر ذلك الأمر بينهم، حتى جاهروا بالصيد بعد ذلك بمثل هذه الحيل.
وبرغم قيام بعض الصالحين من اليهود من أهل هذه القرية بوعظ المعتدين في السبت وتذكريهم بأمر الله، إلا أن هؤلاء المعتدين نسوا ما ذكروا به، وظلوا على اعتدائهم، فأخذهم الله بعذاب بئيس، لم ينج منه إلا الذين ينهون عن السوء، وهم الواعظون الناهون عن المنكر.
وبرغم حلول العذاب البئيس بهم لم ينته المعتدون، ولم يتوبوا إلى الله، بل عتوا واستكبروا عما نهوا عنه، وعندئذ قال الله لهم: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، فمسخهم قردة، ولعنهم، وجعل هذه العقوبة نكالًا أي: ردعًا وزجرًا لمن عاصرها وقت وقوعها، فرآها بعينه أو سمع بها، وأيضًا لمن أتى بعدها وعلم بها، وجعل الله هذه العقوبة أيضًا موعظة للمتقين.
هذه هي قصة أصحاب السبت التي أمر الله تعالى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يسأل أهل الكتاب عنها سؤال تذكير ووعظ، لأنهم يعلمونها، فقال تعالى في سورة الأعراف: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
هذه هي قصة أصحاب السبت التي خاطب اللهُ تعالى أهل الكتاب مباشرة بشأنها، فقال تعالى في سورة البقرة: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).
هذه هي قصة أصحاب السبت التي اقترنت بدعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالقرآن، وذلك في سورة النساء، في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا).
لقد تضمنت هذه القصةُ عظاتٍ وعبرًا، ينبغي أن نقف عندها لنتدبرها ونتفكر فيها، امتثالًا لقول الله تعالى: (فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
ووقفتنا اليوم بعنوان: "أصحاب السبت والاعتداء على الشريعة".
فقد وصف القرآنُ أصحاب السبت بأنهم معتدون، فقال تعالى في سورة البقرة: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ)، وقال سبحانه في سورة الأعراف: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ).
فماذا كان اعتداؤهم؟! هل ضرب بعضهم بعضًا؟! هل سفك بعضُهم دم بعض؟! هل أكلوا أموالهم بينهم بالباطل؟! هل قطعوا أرحامهم؟!
لقد كان اعتداؤهم أمرًا عظيمًا، لقد اعتدوا على أمر واحد من شريعة الله، وشريعة الله تشمل الأمر والنهي والحدود والفرائض، ودين الله واحد من لدن آدم -عليه السلام- حتى آخر الأنبياء والرسل محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الشرائع شتى، فقد روى أحمد في مسنده عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأنبياءُ إخوةٌ لِعَلَّاتٍ، دينهم واحدٌ، وأمهاتهم شتى". رواه أحمد.
والإخوة لعلات هم الإخوة من أب واحد وأمهاتٍ شتى، والإخوة الأشقاء هم الإخوة من أب واحد وأم واحدة، والإخوة الأَخْياف هم الإخوة من أم واحدة وآباءٍ شتى. ومعنى أن الأنبياء إخوة لعلات: أن أصلَ دينهم واحدٌ، فهم متفقون جميعًا في دعوتهم، أن اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرُه، وهم متفقون جميعًا في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فهذا هو الأصل الذي يجمعهم، والذي ينتسبون إليه، كما ينتسب الإخوة لعلات إلى أب واحد، ولكن شرائعهم شتى، قد تختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة، وهذا هو معنى "وأمهاتهم شتى".
وشريعة الله في التوراة تُحرم على بني إسرائيل العمل في يوم السبت، بدليل قوله تعالى في سورة النساء: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا). ومعنى (وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) أي: لا تتجاوزوا حدود الله في يوم السبت بالعمل الدنيوي، فكان مطلوبًا منهم أن يلتزموا الراحة في هذا اليوم.
وحتى كلمة "السبت" لها اشتقاق لغوي من سَبَتَ يَسْبتُ، أي: انقطع عن العمل وسكن واستراح، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا)، أي: جعل الله النوم سكنًا لكم وقطعًا لأعمالكم وراحة لأبدانكم؛ ولهذا قال: (وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ). وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب اليوم مكتوب في سفر الخروج الإصحاح 20: "اذكر يوم السبت لتقدسه. ستةَ أيام تعملُ، وتصنعُ جميعَ عملك. وأما اليومُ السابعُ ففيه سبتٌ للرب إلهك، لا تصنعُ عملًا ما، أنت وابنُك وابنتُك وعبدُك وأمتُك وبهيمتُك ونزيلُك الذي داخل أبوابك. لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع، لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه".
ولكن كلمة "واستراح في اليوم السابع" قد توهم البعض بأن الله قد أصابه التعبُ والإعياءُ من خلق السماوات والأرض، ولهذا فقد قطع القرآن هذا الوهم، فقال تعالى في سورة ق: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)، واللغوب هو التعب والإعياء.
بل مكتوب أيضًا في التوراة التي بأيدي أهل الكتاب اليوم في سفر الخروج الإصحاح 31: "ستةَ أيامٍ يُصنع عملٌ، وأما اليوم السابع ففيه سبتُ عُطْلَةٍ مُقدسٌ للرب. كلُّ من صنع عملًا في يوم السبت يُقتل قتلًا".
بل مكتوب في التوراة التي بأيدي أهل الكتاب اليوم في سفر العدد الإصحاح 15: "ولما كان بنو إسرائيل في البَرِّيَّة، وجدوا رجلًا يَحْتَطِبُ حطبًا في يوم السبت. فقدمه الذين وجدوه يحتطب حطبًا إلى موسى وهارونَ وكل الجماعة. فوضعوه في المَحْرَس لأنه لم يُعلَنْ ماذا يُفعل به. فقال الرب لموسى قتلًا يُقتل الرجلُ، يرجمه بحجارة كل الجماعة خَارِجَ الَمحَلَّةِ. فأخرجه كل الجماعة إلى خارج المحلة، ورجموه بحجارة، فمات كما أمر الربُ موسى".
ولا يزال اليهود في كافة أنحاء العالم وفي إسرائيل خاصة يقدسون السبت إلى يومنا هذا. هذه هي شريعة التوراة التي اعتدى عليها أصحاب السبت، فهل وقع فينا -نحن المسلمين- اعتداءٌ مشابهٌ لاعتداء أصحاب السبت؟!
لقد أمر الله المسلمين بترك العمل في وقت وجيز، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ويصعد الخطيب المنبر وهناك من يبيع ويشترى في السوق المجاور للمسجد، وهناك من يبيع ويشترى في المحلات المجاورة للمسجد. ألا يعلم هؤلاء أنه يحرم البيع بمجرد سماع النداء لصلاة الجمعة وهو الأذان الذي بعده تبدأ الخطبة؟!
وتحريم البيع خاص بمن تجب عليه صلاة الجمعة، أما من لم تجب عليه صلاة الجمعة كالمرأة مثلًا فلها أن تبيع وتشتري، ولكنها إن باعت لمن تجب عليه صلاة الجمعة تكون آثمة أيضًا، لأنها أعانت المشتري على معصية التخلف عن الجمعة، والله تعالى يقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)؛ ولهذا يجب علينا أن نُعَلِّم المرأة التي تتسوق وقت صلاة الجمعة أنها لا تشتري إلا من امرأة مثلها، أو صبي دون البلوغ لا تجب عليه صلاة الجمعة، فإن اشترت من بائع تجب عليه صلاة الجمعة تكون آثمة، لأنها أعانته على معصية، ألا وهي البيع في وقت يحرم فيه البيع، والله تعالى يقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
ولقد رأيتُ جزارًا مجاورًا لأحد المساجد يقطع اللحم وينزع العظم ويبيع أثناء الخطبة، ولما قلت له: إن عملك ومكسبك في هذا الوقت حرام، وذكرت له قصة أصحاب السبت، قال لي: أنا أذهب للصلاة عند سماع الإقامة، فقلت له: بل يجب عليك أن تترك العمل والبيع، وأن تمضي إلى المسجد، لتسمع الخطبة وتصلي، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ). فقد اتفق الفقهاء على أن المراد بقوله تعالى: (إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) هو الأذانُ الذي يكون قبل الخطبة، لا أذان الإقامة لصلاة الجمعة. ويستمر النهي عن البيع منذ صعود الخطيب على المنبر حتى انقضاء الصلاة.
وإذا كان القرآن قد نصّ على ترك البيع عند النداء لصلاة الجمعة، فقد قاس الفقهاءُ على البيع سائرَ العقود، كالإجارة والشركة والنكاح وغيرها من العقود، فتحرم جميع العقود قياسًا على البيع منذ النداء لصلاة الجمعة حتى انقضاء الصلاة، بل نص المالكية على فسخ جميع هذه العقود حتى عقد النكاح، بل نص الشافعية على حرمة الاشتغال بالصنائع أيضًا في هذا الوقت، كالاشتغال بالزراعة أو النجارة أو الخياطة وغير ذلك من الصنائع، بل نص الحنفية على وجوب ترك كل شيء يؤدى إلى الاشتغال عن السعي إلى الجمعة أو يخل به؛ ولهذا نجد من الفقهاء من قال: يحرم على الرجل أن يجامع زوجته في هذا الوقت.
إذًا الفقهاء متفقون على تحريم أو كراهة كل ما يشغلُ عن السعي إلى الجمعة بعد صعود الخطيب المنبر حتى انقضاء الصلاة، حتى وإن كان الذي يشغله هو قراءة القرآن، هذا ما لم يكن هناك عذرٌ شرعي لدى من تجب عليه صلاة الجمعة، كحال رجال الأمن والحراسة والمرور والمخابرات ونحوهم ممن يتصل عمله بأمن الأمة وحفظ مصالحها في هذا الوقت، فمثل هؤلاء يُعذر في ترك الجمعة، ويصليها ظهرًا، لعموم قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
فقارنوا -رحمكم الله- بين المعتدين في السبت، وبين المعتدين في صلاة الجمعة، تجدوا أن القاسمَ المشتركَ بينهما هو الاعتداءُ على شريعة الله بعدم الامتثال لأمر واحد من أوامره -جل وعلا-.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
ثم أما بعد:
فقد رأينا أن اعتداء أصحاب السبت على شريعة الله كان فيه نوع من التحايل على استحلال ما حرم الله، فقد كانوا يصيدون الحيتان في يوم السبت، ولا يخرجونها من الماء إلا في يوم الأحد، ولكنهم لم يصدروا قانونًا يبيح الصيد في يوم السبت.
أما نحن الآن فنتعدى على شريعة الله اعتداءً أعظم من اعتداء أصحاب السبت، يحرم الله -عز وجل- الزنا، ويشرع له عقوبة الرجم أو الجلد، حسب الإحصان، ولكن قانون العقوبات المصري يبيح الزنا إذا وقع عن تراضٍ بغير اغتصاب. فإذا كان الزاني متزوجًا وزنى خارج منزل الزوجية فلا عقوبة عليه، لأنه أتى بشيء مباحٍ قانونًا. أما إن زنى في منزل الزوجية فيعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر، بشرط أن تتقدم زوجته بشكوى ضده، فإن لم تتقدم الزوجة بهذه الشكوى فلا عقوبة عليه أيضًا. وإذا كانت الزانية متزوجة ولم يتقدم زوجها بالشكوى ضدها فلا عقوبة عليها، وإن تقدم بالشكوى يحكم عليها بالحبس، فإذا سحب شكواه ولو بعد البدء في تنفيذ حكم الحبس أوقف تنفيذُ الحكم، كما في المادة 273 من قانون العقوبات المصري وما بعدها من مواد.
ويحرم الله الخمر، ولكن القانون يبيح بيعها وشراءها وتعاطيها بإصدار التراخيص القانونية للمحال التي تبيعها أو تصنعها. ويحرم الله الربا، ولكن القانون يبيحه في المعاملات المدنية والتجارية وغيرها. والأمثلة كثيرة، يضيق هذا المقام بذكرها تفصيلًا. فماذا يقول علماء الإسلام في مثل هذه القوانين المخالفة لشريعة الله؟!
يقول فضيلة الشيخ المحدث أحمد شاكر في كتاب عمدة التفسير (2/172) يقول: "إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضحٌ وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام كائنًا من كان في العمل بها، أو الخضوع لها، أو إقرارها. فليحذر كلُّ امرئ لنفسه، وكلُّ امرئ حسيبُ نفسه".
ويقول فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه أضواء البيان (3/259) عند تفسيره لقوله تعالى في سورة الكهف: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)، يقول: "وبهذه النصوص السماوية التي ذكرناها يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شَرَعَها الشيطان على ألسنة أوليائه، مخالفة لما شرعه الله -جل وعلا- على ألسنة رسله -صلى الله عليهم وسلم-، أنه لا يَشُكُّ في كفرهم وشركهم، إلا من طمس اللهُ بصيرتَه وأعماه عن نور الوحي مثلهَم".
ويقول الأستاذ عبد القادر عودة في كتابه التشريع الجنائي الإسلامي (2/708) يقول: "ومن الأمثلة الظاهرة على الكفر بالامتناع في عصرنا الحاضر الامتناع عن الحكم بالشريعة الإسلامية، وتطبيق القوانين الوضعية بدلًا منها. ولا خلاف بين الفقهاء والعلماء في أن كلَّ تشريعٍ مخالفٍ للشريعة الإسلامية باطلٌ لا تجب له الطاعة، وأن كلَّ ما يخالفُ الشريعةَ محرمٌ على المسلمين، ولو أمرت به أو أباحته السلطةُ الحاكمة أيًا كانت".
ويقول فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر سابقًا في كتاب مؤامرة فصل الدين عن الدولة (ص21) يقول: "فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غيرَ مسلمين".
اعلموا -يا عباد الله- أن الأمر جد لا هزل فيه، ومحكم لا تشابه فيه؛ لأن إقامةَ الشريعة إقامةٌ للدين، وإضاعتَها إضاعةٌ للدين، فلا فرق بين قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، وبين قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)، ولا فرق بين قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ)، وبين قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، ولا فرق بين قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، وبين قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)، فكل ذلك قرآن، وكل ذلك دين واجب الاتباع، وكل منا مسؤول حسب موقعه وطاقته عن إحياء ما مات من شريعة الله. اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.
إن الدعوة إلى تطبيق شريعة الله والتحذيرَ من الاعتداء عليها أحدُ عناصر موعظة المتقين بقصة أصحاب السبت، وفي هذه القصة عظاتٌ وعبر أخرى، لعلنا نذكرها في لقاءاتٍ أخرى إن شاء الله، (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا).
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد.