البحث

عبارات مقترحة:

القابض

كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...

الحي

كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

معاصي القلوب

العربية

المؤلف محمد الغزالي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. أسباب أمراض القلوب .
  2. ألوان منها .
  3. نتائجها .
  4. كيفية معالجتها .

اقتباس

وأحب أن أقول -وقانا الله وإياكم أمراض القلوب-: إن أمراض القلوب تقع كثيراً بين العلماء، وتقع كثيراً بين العُبَّاد، وقد ألف ابن الجوزي كتابا أسماه "تلبيس إبليس" ذكر فيه كثيراً من أمراض القلوب التي تقع بين العُباد، والتي تقع بين العلماء..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فمن حق الله علينا أن نفعل ما يأمر به، وأن نترك ما ينهى عنه، وأن نشكر نعمته إذا أصابتنا سراء، وأن نسلم لحكمته ونصبر على قضائه إذا أصابتنا ضراء. من حق الله علينا أن يرانا حيث يحب، وأن لا يرانا حيث يكره. من حق الله علينا ونحن نعيش فوق أرضه، ونتنفس في جوه، ونستظل بسمائه، ونستمد محيانا دقيقة بعد أخرى من إمداده، من حق الله علينا أن نصلي له، وأن نكون عبيداً لذاته تبارك اسمه، هذا حقه علينا.

المعصية شذوذ في الكون؛ لأن الكون في مادته التي نسج منها وصنع منها العرش والفرش وما بينهما كله يسبح بحمد لله، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء:44]. فالذي يعصى ربه هو شذوذ في الكون، والشذوذ من حقه أن يمحى، وأن تسود القاعدة؛ ولذلك يقول جل شانه: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [سبأ:9]، وقد خلق الله هذه الدنيا واختبرنا بأن أحيانا في هذه الأرض إلى حين.

الحكمة من الإيجاد هي، كما وضح في سور كثيرة: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:1-2] أي: أيكم أورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله. لهذا خلقنا، وما يخلد أحد في هذه الدنيا. رووا ان ملكا وناسكا كانا يسيران قريبا من مقبرة، فقال الناسك للملك: هل تدري ما تقول المقبرة؟ قال: لا. قال: إنها تقول:

أيُّها الرَّكْبُ المُخِبُّونَا

عَلَى الأَرْضِ المُجِدُّونَا
كَمَا أَنْتُمْ كَذَا كُنَّا كَمَا نَحْنُ تَكُونُونَا

فأدرك الملك أن المقابر لا تقول، ولكن الرجل ينصحه، وكان الملك وثنيا، فعرَّفه الناسك دين التوحيد، وخبَّره كيف يعبد ربه، وكيف يخرج من رواية الحياة وقد نجح في امتحانها.

نحن إلى حين على ظهر هذه الأرض؛ فيجب أن نؤدي رسالة الأحياء التي خلقوا من اجلها، وهي طاعة الله. ولكننا تزل أقدامنا، ونقع في الورطات، ونصيب من الذنوب مالا ينبغي أن نصيبه؛ فما السبب؟ السبب في ذلك أمور نحب أن نتدارسها حتى نعرف مواطئ أقدامنا، ونسير حيث نسير فلا ننزلق، ولا نقترف ما يغضب علينا رب الأرباب.

المعروف أن الإنسان يذهل وينسى طبيعة الخلق. لما قُتل أخو أبي خراش الهذلي في بلدة اسمها "قوسي" قال:

فواللهِ مَا أنسَى قَتِيلاً رُزِئْتُهُ

بِجَانِبِ "قوسي" ما مَشَيْتُ عَلى الأرْضِ

حلف الرجلُ أن لا ينسى، لكنه استدرك وقال: إنه لا يمكن البر بهذه اليمين، لابد من النسيان، فقال:

بَلَى إنَّهَا تَعْفُو الكُلُومُ وإنَّمَا

نُوَكَّلُ بِالأَدْنَى وإنْ جَلَّ ما يَمْضِى

نحن نذكر القريب، أما ما بُعدت به الأيام فنحن ننساه، هذه طبيعة البشر؛ ولذلك يحتاج الإنسان باستمرار إلى مذكر، والبيئة التي تكثر فيها المذكرات بالله، الباعثات على أداء حق، بيئة سليمة صالحة، أما البيئة التي تكثر فيها المنسيات والملهبات فهي بيئة فاسدة طالحة. لابد من مذكِّر؛ ولذلك جاء في القرآن الكريم: (فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55].

هناك مع النسيان ضعف العزيمة، أو انهيار الإرادة، والسبب قد يكون شديداً، وقد يكون خفيفاً، وفق الملابسات التي تعترض الإنسان؛ وقد قرأت في كتب ألفها أطباء مسلمون صادقون أنه أحياناً تفرز بعض الغدد إفرازاتٍ غزيرةً في الدم؛ فتكون سبباً في ثورات غضبي، أو ثوران جنسي؛ فتُعمى الإنسان عن هدفه، وتدفعه إلى أن يقترف ما يندم عليه بعد صحوته، وما يضيق به بعد يقظته، وتدفعه، فهي أحوال قد تحطم الإرادة، وهذه الأحوال تختلف بين الناس، فالغريزة الجنسية في الشاب قوية وفي الشيخ ضعيفة، وهنا يساق الحديث الشريف: "لا ينظر الله -عز وجل- يوم القيامة إلى الشيخ الزاني، ولا العجوز الزانية"؛ لأن عامل الغريزة في دمه أضعف من عامل الغريزة في دم الشاب، وكذلك تقاس طباع كثيرة، ونزوات شتى، ومسالك تعترض الناس.

ومن هنا فإن الإسلام لما تحدث عن المعصية الأولى في الأرض، وهي التي اقترفها أبونا آدم، بيَّن أن هذه المعصية وقعت من آدم عقب تلاقي الأمرين: ضعفت ذاكرته فنسى واشتد هواه، وضعفت إرادته فعجز. قال تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [طه:115]، أبناؤه انتقل إليهم نفس الوضع، انتقلت إليهم الأحوال التي كانت لأبيهم.

وقصة الإنسانية الصحيحة ليست قصة بشر معصوم، فإن القول بعصمة بشر -حاشا الأنبياء– مستحيل، كلنا خطاءون، قال -صلى الله عليه وسلم-: (كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون). قصة الخليفة كما قال آدم وحواء بعدما ارتكبا ما ارتكبا: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23].

هنا ينبه الإسلام إلى أمور نحب أن نستوعبها، أولها أن المعصية من مسلم يقظ لا تكون ملازمة له؛ بل تكون سحابة صيف عن قليل تنقشع، وهو معنى قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف:201]. قد يحاول الشيطان أن يعمي عليه الطريق، وأن ينفث في وجهه الدخان، وأن يجعله لا يرى؛ لكن سرعان ما تخرج –بفضل الله، من روحه ومن قلبه ومن صلته بربه– ريح تبدد هذا الضباب، وشعاع يكشف الطريق: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف:201].

هذا البصر لا ينبغي أن يطول أمده، ولا أن ينتظر الإنسان كثيراً حتى يبلغه، بل يحب على عجل أن يعرف أنه أخطأ، وأن عليه – على عجل – أن يرضى ربه الذي أغضبه، وأن يصطلح معه بعدما أساء إليه، وهذا معنى قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام:54-55].

والناس تتفاوت في نزوعها على عجل مما ألم بها، أو مما أسفت إليه، بقدر قوة الإيمان، ويقظة القلب، وصحة الضمير، تتفاوت الناس في هذا؛ ولكن وصية النبي –صلى الله عليه وسلم-: "اتق الله حيثما كنت، وأتْبِع السيئة الحسنة تمحها".. كتبتَ غلَطاً امح بـ"الأستيكة" الغلط الذي كتبته ينمحي، وينسي الله الحفَظة ما فعلت، وينشئ لك صفحة جديدة لا خطأ فيها.

أما الأمر الثاني فهو أن الخطأ هو جنب الله، صحيح أنت الذي أصبت به، وأنت الذي وقعت في عواقبه الوخيمة، والله في الحديث القدسي يقول: "يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"؛ لكن الله يحب عبده، ومحبته لعبده تجعله يغار عليه، ويريده أن يكون وضيء الموضوع، نظيف الشكل؛ ولذلك يستعجله ليتوب؛ لمصلحة الإنسان ذاته. أمَّا أن الله له مصلحة في هذا فلا. إنه غني عن العباد؛ ولذلك فأول ما يجب من الاستغفار استغفار الله -جل جلاله- لأنك أخطأت في حقه، فيجب أن تستغفره، والاستغفار أمر سهل، ولكنه مرفوض عندما يكون من قلب غافل لاه؛ ولذلك قال بعض الصالحين: استغفارنا يحتاج إلى استغفار! لأنه يغلب أن يكون من قلب متبلد، أو من نفس محجوبة.

والله وحده هو الغفار، فما شاع في بعض الديانات من أن إنساناً يغفر، أو أن إنساناً يستقبل الاعتراف ويعفو، أو أن إنساناً سفك دمه من أجل العفو عن خطايا الخلق، هذا كله من الناحية الإسلامية خرافة: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت:12-13].

ولما كان العصيان قذارة، والتوبة اغتسالا من هذه القذارة، ومحواً لآثارها؛ فإن تعليمات الإسلام في هذا واضحة: اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله. لا ليكشف لنا وساخته! لعل هذا يكون أعون على التوبة، وأقرب أن يعود إلى ربه فإنه؛ إذا فضح نفسه بتبجح، وحدَّث الناس بما ارتكب، فإنه يسجل على نفسه المآسي؛ والناس لا تعين على توبة، الناس إذا عرفت إنسانا بمعصية ربما إذا أراد التوبة قالت له: لم تكن تفعل كذا! اجعل ما بينك وبين الله معاملة تستغفره فيها من خطئك؛ فإن الناس إذا دخلوا في هذه المعاملة كانوا ضدك أو كانوا عليك، ولن تجد جانباً أرّقَّ ولا أرحم من جانب الله -جل جلاله-، وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري: "يدنى المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه. تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف. يقول: ربّ أعرِف! مرَّتين. فيقول: سترتها في الدنيا، وأغفرها لك اليوم".

المعاصي قاذورات أو أمراض، فأما أنها قاذورات فقد جاء الحديث الشريف يبين أنها قذارة، وأما أنها أمراض فقد جاء في القرآن الكريم أنها أمراض! (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) [الأحزاب:32]. المرض هنا انحراف الغريزة الجنسية أو رغبة الإنسان في أن ينال أي امرأة تتكلم معه، فأمرت المرأة أن يكون كلامها صارما، ولهجتها جادة؛ حتى تقطع الطريق على أصحاب الغرائز المعوجة أن يفكروا فيها تفكيراً سيئاً. وقد سمى الإسلام ازدواج الشخصية أو النفاق سماه مرضاً، فقال في وصف المنافقين: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) [البقرة:10]، فالمعصية أمراض كما سماها القرآن، أو أقذار كما بينت السنة.

والأمراض تتفاوت، والأقذار تتفاوت، يقول الإمام الغزالي في الإحياء: "هناك وساخة تصيب الإنسان فقليل من الماء يزيلها، وهناك سيئات يلم بها المرء فالاستغفار العادي يذهب بها، وينقى القلب من آثارها؛ لكن هناك معاصي غليظة تحتاج إلى استغفار أعمق، وتوبة أحر، وعودة إلى الله أسرع وأصدق". ويتصور هذا في واحد وقع على ثوبه "زفت"، لو وقع تراب أو طين يزول بسهولة، لكن "الزفت" الذي وقع يحتاج إلى مطهرات أخرى، وإلى سوائل أخرى كثيرة؛ حتى يمكن إزالة ما تزفت من ثوبه، أو من بدنه، و"المزفت" باللغة العربية الصحيحة الإناء الذي كان العرب يزفتونه لينقعوا فيه التمر، ويصنعوا فيه الخمر، على كل حال هذا استطراد، المهم أن بعض الناس يرتكبون أموراً تحتاج إلى توبة غير عادية؛ لأن وساختهم غير عادية، وكما قلت -قبل ذلك-: التوبة لا تكون إلا إلى الله. لا دخل لبشر في هذا.

أذكر أنه جاءني في مكتبي -من نحو عشر سنين- في وزارة الأوقاف قسيس إنجيلي من ألمانيا، وتحدث معي في المسيحية. هو بداهة ليس مبشراً معي؛ لكنه حديث استطرادي، وأنا في شيء من المرح كنت أملأ قلمي بالحبر، وكادت الدواة أن تقع، فقلت له وأنا أضحك: ما رأيك لو أن هذه الدواة وقعت علي؟ فقال: طبعا الثوب سيتسخ. قلت له: لو أنك غسلت ثوبك ألف مرة، فهل ينظف ثوبي أنا؟ فقال الرجل في دهشة: لا! قلت له: أنا الذي أخطئ، أنا الذي أنظف نفسي. ما يصنع الآخرون شيئاً لي. فأدرك في الحال أني أعترض على نظام النصرانية في أن عيسي قتل من أجل خطايا الخلق! قلت له: عيسى قتل أو لم يقتل من أجل خطايا الخلق، أنا وسخت نفسي، أنا الذي أنظف نفسي. ما علاقة عيسى ومن هو أكبر من عيسى بي؟ ما العلاقة؟ من اتسخ نظف نفسه، من مرض سعى إلى علاج نفسه وشفى نفسه.

والأمراض أيضاً خطيرة، هناك أمراض يمكن أن تداوى بحبوب "إسبرين"، وهناك أمراض تحتاج إلى علاج مطول، وهناك أمراض ربما بلغت أن تكون سرطاناً قاتلاً؛ ولذلك قسم العلماء الأمراض إلى أمراض قلوب وأمراض أبدان أو معاصي أبدان، وقد تكلمنا في هذا؛ لكن الأمر يحتاج إلى إيضاح.

وقبل أن أدخل في شرح هذا أحب أن ألفت النظر إلى أخطاء يقع فيها المتدينون، وما أبريء نفسي، فأنا أول الخطائين؛ لكن، من تجربتي وأنا أحاول إصلاح نفسي أعرض التجربة وأعرض ما قاله العلماء في الموضوع، بمعني: إذا اتسخت يدك فهل ينقيها أن تغسل رجلك؟ طبعاً لا، اليد هي التي اتسخت فهي التي تنظف، ولو وقفت في مجرى ماء طول اليوم يغسل قدمك ما نظفت يدك؛ لأنك لم تنظف يدك، كذلك الأمراض التي تصيب الناس أو المعاصي التي تصيب الناس في أخلاقهم وأحوالهم.

هب أن رجلا مصابا بمرض البخل، ما الذي يجعله يشفى من هذه العلة؟ العطاء، لا شيء غير العطاء؛ والعطاء هنا يبدأ تكلفاً كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله"، "إنما العلم بالتعلُّم، والفقه بالتفقه".

والتربية هنا لابد فيها من معاناة وصلة بالواقع، يعني أن تعلم السباحة يستحيل أن يكون في البر، لابد من أن يكون في الماء؛ لأن السباحة على الأرض لن تعلم أحداً قط. رجل بخيل، تريد أن تنجو من رذيلة الشح عود نفسك العطاء، أخرِج الزكاة، أشْعِرْ قلبك العطف على المحتاجين والمساكين؛ الرجل الذي أعطى الفقراء قال لابنه: كسرنا نصف الحلقة. إنه يقصد بالحلقة ما ذكره القرآن في سورة الحاقة وهو يصف صاحب النار فيقول: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الحاقة:28-34]. سببان في التقييد بهذه السلسلة: (لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ). أعْطِ المسكين تكسر نصف السلسلة.

يجيء رجل يريد أن يخدع الله، يريد أن يحتال، لديه مال كثير، لكنه بخيل، يبخل بحقوق الفقراء، وينمي المال، ويصوم الاثنين والخميس. ما قيمة صيام الاثنين والخميس؟ هذا احتيال على الله! هذا كالذي يغسل قدمه ويده ملوثة! لا يغسل يده. غسل القدم هنا لا ينظف يده! صيام الاثنين والخميس هنا لا يجعله سخياً أو كريماً، دواؤك الذي يشفي به مرضك هو العطاء، فإذا كان جبانا وقال: أربي لأولادي وابتعد عن هذه المأزق، ثم اعتكف في المسجد طوال اليوم؛ فما قيمة الاعتكاف؟ لا قيمة له، لا خير فيه. دواؤك الذي يشفي مرضك هو قول الحق لا غير.

هنا نجد أن بعض الناس من المتدينين يحبون أو يريدون أن يخدعوا الله، وما يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون! يفر من مرضه لكي يطيع في ميدان آخر، هذا تصرف ما يجوز، أو ما يليق، أولا خير فيه.

ندع هذا الآن إلى ما يسمى بأمراض القلوب، أمراض القلوب أغلبها أو فصيلة كبيرة منها –فيما رأيتها– تعود إلى حب الذيوع، حب الفخر، حب العظمة، الرياء، الكبرياء، أمور كثيرة من هذا النوع ممكن أن تكون أمراضاً للقلب.

من أمراض القلب التي أثرت عن أهل الكتاب الأولين، القسوة، قسوة القلب، ولذلك إن قلت لواحد من الرهبان: هذا الذي يجيئك معترفاً بذنبه أقرب إلى الله منك؛ لأنه يشعر بالانكسار مع المعصية التي فعلها، أما أنت فمغتر بنفسك تظن أن مفاتيح الجنة بيدك تدخل فيها من تشاء وتخرج منها من تشاء! فمرضك كالسرطان الذي لا دواء له. هذا مرض قلب.

وأحب أن أقول -وقانا الله وإياكم أمراض القلوب-: إن أمراض القلوب تقع كثيراً بين العلماء، وتقع كثيراً بين العُبَّاد، وقد ألف ابن الجوزي كتابا أسماه "تلبيس إبليس" ذكر فيه كثيراً من أمراض القلوب التي تقع بين العباد، والتي تقع بين العلماء؛ ولعله اعتمد في هذا على أحاديث وردت، فمثلا: "ورد أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان" وأن الله تعالي قال: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك". هذا رجل متعبد، لكن قلبه قاس، وهذا رجل متعبد، لكنه مغتر بنفسه، وسيء الظن بصفات الله، وبأعذار العباد.

هذا مرض موجود، ولاحظت هذا المرض عند بعض الناس الذين يشتغلون بالجدل والقضايا التافهة. وجدت ولدا يقول: إن الشافعي أفسد مصر! قلت له: الإمام الشافعي أفسد مصر؟! أنا فزعت لما سمعت الكلمة. قلت: سبحان الله! وأخذ الولد يتحدث عن المذهبية والتقليد، قلت له: يا بني! إنك ترقى مرقي لا يعرفه أبوك ولا جدك، وتدخل في ميدان مالك به صلة.

الإمام الشافعي -أولا- تلميذه أحمد بن حنبل الذي قال يوم مات الشافعي: كان الشافعي كالشمس للدنيا، والعافية للبدن. فهل لهذين من عِوَض؟!. لكن لا يعرف الفضل من الناس إلا ذووه، لا يعرف فضل الشافعي إلا رجل مثله؛ أما أنت فإنك تقول: الشافعي أفسد مصر! الشافعي خالف أبا حنيفة في قضايا كثيرة، وما في هذا؟ لكن، من باب الإنصاف، يقول الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة!. وهو الذي خالفه! لا حرج في هذا؛ الأنبياء اختلفوا، والصحابة اختلفوا، واحترام بعضهم بعضا قائم؛ لأنهم تفاوتت وجهات نظرهم في مرضاة الله، والكل حسن النية.

لكن يجئ ولد يقرأ كتاباً- أنا لا آمنه، وأنا الحقير- أو يقرأ ثلاثة سطور من كتاب لي؛ فيجعل نفسه ديَّانا على العلماء، وحكَماً بين الأئمة، وموزِّعاً للطاعة والمعصية على كبار الشيوخ. ما هذا؟ هذا مريض بقلبه، عنده اغترار بنفسه، هذا الاغترار هو نفسه الاغترار الموجود عند فرعون الذي قال للسحرة لما آمنوا: (آمنتم له قبل أن آذن لكم!) [طه:71، الشعراء:49]. سبحان الله! يحتاج الناس لكي يؤمنوا بالله إذا عرفوا الدليل الصحيح إلى أن يطرقوا بابك، ويقفوا بساحتك، ويطلبوا الإذن منك أن يؤمنوا بالله! لماذا؟! من أنت؟! هذه أمراض قلوب تنتشر بين بعض الذين يشتغلون بالعلم الديني، سواء كانوا علماء أو عيالا.

ونشأ عن هذا أن وجد في البيئات الدينية تفرق مُر يخشى منه على مستقبل اليقظة الإسلامية المعاصرة، هناك يقظة إسلامية فعلا، وأنا وضعت يدي على هذه اليقظة بين المحيطات وأنا أجوب العالم الإسلامي، ولكن الذين يرصدون حركات الأمة الإسلامية لا حرج عليهم أبداً أن يكون لهم سماسرة وعملاء يروجون في البيئة الدينية من أسباب الفرقة ما يجعل الإنسان يعجب!.

أمس الأول كنت أعطي درساً في "الحوامدية". قال لي شاب: الجماعة اختلفوا. قلت: فيم اختلفتم؟ قال لي: في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من رآني فقد رآني حقا". قلت: سبحان الله! ولم تختلفون؟ لِم تختلف الجماعة الإسلامية هنا من أجل هذا الحديث؟ أنا أعرف أن ابن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر" شرح هذا الحديث على أن "من رآني في المنام فقد رآني حقا"، أي: رأي مثالا وأنكر أن تكون رؤية لشخصه، ولعل السبب في هذا أن ابن الجوزي وجد ناسا يقولون: رأينا النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام فقال لنا: كذا وكذا في أحكام الحلال والحرام، وأحكام الحلال والحرام لا تؤخذ من رؤيا أحد في منامه ولو ادعى أنه رأى الله ورسوله؛ لأن الله في كتابه فصَّل القول، والرسول -صلى الله عليه وسلم- في سنته وضح الأمر، فلا تنتظر منام أحد في هذا. المهم، قلت له: يا بني! لا تفسد الناس علينا، ما دخلكم في هذا الحديث؟.

ولكن السمسرة لمصلحة الاستعمار الأجنبي جعلت شابين في "الإسكندرية" واحداً يعلق صوراً لآثار الدمار الذي صنعته "روسيا" في "أفغانستان" فيجئ الآخر من ورائه ويمزق الصور ويقول: الصور حرام! من الكاسب في هذا؟ الشيوعية. من الكاسب في هذا؟ الإلحاد. فإذا كان الجدل، أو مرض القلوب، أو حب الظهور، أو الإعجاب بالنفس، أو الإعجاب بالرأي، يكون سبباً في هذا البلاء، فهذا تصرف شنيع؛ لأنه مرض قلب. قيل لأبي حنيفة: كلامك هذا الحق الذي لا شك فيه. قال: لا. لعله الباطل الذي لا شك فيه. رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب!. هذا كلام العلماء. لكن أن يجيء من يحاول تمزيق الصف وتفريق الكلمة بأمور من هذا النوع فهذا مرض.

تركتهم في "بني سويف" متفرقين من أجل قضية خلق القرآن! قلت: خلق القرآن قضية انتهت من اثني عشر قرناً! ما الذي يحييها الآن؟ والله ما يحييها إلا عملاء لبني إسرائيل أو للشيوعيين. كلام غريب يمزق الفكر الإسلامي، هذه أمراض قلوب كما قلت وليست معاصي جوارح، أمراض القلوب خطرة؛ لأنها متولدة من مرض إبليس الأول الذي قال لله: أنا خير منه. أنا المجادل الذي يريد أن ينصر رأيه. الإنسان السفيه الذي يريد أن يحقر الآخرين ويهبط بمكانتهم؛ لأنه يريد أن يرفع خسيسة، هذا إنسان مريض. نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العافية في الدين والدنيا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26]..

وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، واعلموا -أيها الأخوة- أن أعداء الإسلام خبثاء، ولهم يقظة غريبة في النيل منه، وكما استطاعوا أن يثيروا لغطاً في البيئات الدينية تمزق الكلمة فقد أثاروا لغطاً آخر في بيئات غير دينية؛ يريدون تمزيق الكلمة، قرأت لرجل من ثلاثة أيام، وهو أستاذ في كلية الطب، نشرت له "الأهرام" كلمة يقول: ابن تيمية صاحب كتاب "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" يقول: "إن القرآن نزل، وأنزل الله الحديد -أي السيف- ليخدم به الحق، فمن أبى هذا قومناه بهذا" هذا الكلام قاله ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية، لكن ماذا يقصد به ابن تيمية؟ يقصد ابن تيمية به وصف عمل الدولة الإسلامية، الدولة تنفذ قول الله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة:38]. فإذا رفض أحد حكم القرآن وأبى إلا أن يسرق وأن يسطو على كدح الآخرين ليعيش على البطالة والسطو؛ أخذناه وقطعت الدولة يده. هذا ما يعنيه ابن تيمية؛ لكن كاتب الأهرام عن خبث، عن غفلة، عن أي شيء، نقل هذا الكلام إلى مجال الدعوة وقال: الإسلام لا ينتصر بالسيف، والإسلام لا صلة له بالسيف في نشر الدعوة.

ما علاقة نشر الدعوة -يارجل- بوظيفة الدولة؟ ما الذي جعلك تحرف الكلم عن مواضعه وتنقل نصاً من هنا إلى هنا؟ في نشر الدعوة يقول الله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا. وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [الأنعام:104]، وفي نشر الدعوة يقول الله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29]، وفي نشر الدعوة يقول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [البقرة:272].

وللأسف، تقوم أجهزة تنشر هذا الفكر الذي يقوله الكاتب -وهو فكر عميل للاستعمار العالمي- ويقع الإسلام بين نارين: نار الأتباع الجهلة الذين يريدون تمزيقه بالخلافات الحقيرة، ونار الأعداء المكرة الذين يريدون جعله عقيدة لا شريعة. وهم بهذا لا يريدون إماتة الشريعة وحدها، إنما يريدون بعد أن تموت الشريعة أن تموت العقيدة بعدها.

لحساب من يقال هذا الكلام؟ إذا كان الإلحاد قد أقام دولة تحكم باسمه، وإذا كانت اليهودية قد أقامت دولة تجعل الولاء لها والحكم باسمها، فلحساب من يقال: الإسلام عقيدة لا شريعة، ودين لا دولة؟ لحساب هؤلاء بداهة.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].