الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أهل السنة والجماعة |
فإن الناس يشيع بينهم مفهوم خاطئ عن معنى الدين، وبعض الناس يتصور أنه كما تنقسم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف يمكن أن ينقسم الدين إلى يهودية ونصرانية وإسلام! هذا في الأديان التي تنتمي إلى السماء، أو تزعم أن لها نسبا سماويا، ذاك إلى جانب أديان أخرى -تسمى أديانا- كالبوذية والشنتوية في اليابان، والبرهمية في الهند، والكنفشيوسية في الصين، هذا إلى جانب الإلحاد الذي جعل من نفسه محورا ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن الناس يشيع بينهم مفهوم خاطئ عن معنى الدين، وبعض الناس يتصور أنه كما تنقسم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف يمكن أن ينقسم الدين إلى يهودية ونصرانية وإسلام! هذا في الأديان التي تنتمي إلى السماء، أو تزعم أن لها نسبا سماويا، ذاك إلى جانب أديان أخرى -تسمى أديانا- كالبوذية والشنتوية في اليابان، والبرهمية في الهند، والكنفشيوسية في الصين، هذا إلى جانب الإلحاد الذي جعل من نفسه محورا لتجميع الأنصار على عبادة المادة، وعلى تكريس الوقت والجهد لاستغلال هذه الحياة الدنيا كالشيوعية التي أحلت نفسها محل الدين.
الواقع أن هذا التضليل في مفهوم الدين وجعل هذا المفهوم مائعا يتناول شتى المتناقضات، لا أصل له لا تراثا ولا تاريخا ولا عقلا. ولذلك أحببت أن أشرح الحقيقة، وأن أحسن تصويرها الآن، فإنه -للأسف- مع انتصار الأوهام في عصرنا هذا أصبح لليهودية عصبية وظهير قوي، وكما قيل: إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عن أحد سلبته محاسن نفسه!.
وقد أقبلت الدنيا على اليهودية فجعلت من "العهد القديم" دينا! وأقبلت الدنيا على النصرانية فجعلت من "العهد الجديد" دينا! وأقبلت الدنيا على الشيوعية فجعلت من الإلحاد المسلَّح محورا لعقائد مادية، وتجمعات حيوانية! وهكذا بالنسبة إلى الأديان الأخرى أو ما يسمى أديانا.
وأريد أن يعلم الناس الحقيقة التي لا تتغير ولا يجوز أن تتغير وإن أساءت الأيام إليها، أو أدبرت الدنيا عنها، أو نزل الهوان بأصحابها؛ فإن الحقيقة لا تتغير مهما كانت الملابسات التي تحيط بها. يجب أن يعلم الناس أن الدين عند الله واحد من أزل الدنيا إلى أبدها.
ولهذا الدين الواحد مفهوم يصدقه العقل ويحرسه ويحميه، أساس هذا الدين الواحد أن لنا ربا خلقنا وحده، ومِن حقِّ الخالق أن يعبد وأن يعرف على نحو صحيح، وأن من حق هذا الخالق إذا عرف على نحو صحيح أن يكون سلوك الناس على أرضهم وفق ما يرسم ويخطط ويشرع، ومن حقه بعد هذه وتلك أن ينطلق المؤمنون به قافلة تحمى الحقائق التي تحملها، وتعرضها على الناس عرضا سليما، وتزيح العوائق عن الضمائر، بحيث لا يُكره أحد على باطل، ولا يحجز أحد عن حق يريد أن يبلغه. هذا الدين الواحد عنوانه: "الإسلام".
ومن باب الاستعجال الصحيح أقول: إن كلمة "إسلام وإيمان" كلمتان مترادفتان، وأنه ينظر إلى الحقيقة من أولها فيقال: "إيمان"؛ لأن أساس الإيمان معرفة اليقين بالله الواحد، وينظر إلى الحقيقة من نهايتها فيقال: "إسلام"؛ لأن ما يعقب المعرفة الصحيحة هو التسليم لله، والخضوع له، والاستسلام لحكمه. فينظر للأمر من البداية فيسمى أيمانا، وينظر له من النهاية فيسمى إسلاما، والكلمتان حقيقتان مترادفتان لشيء واحد هو الدين عند الله.
كذلك كلمة "نبي ورسول" فالصحيح أن النبي والرسول يترادفان علي حقيقة واحدة، فإذا نظرنا للحقيقة من أولها قلنا: "نبي"، نبي من النبأ وهو الخبر لأنه يخبر عن الله، وإذا نظرنا إلى الحقيقة من نهايتها سميناه رسولا، لأنه يحمل الحقيقة ليبلغها للناس، فهو إليهم مرسل يخبر من عند الله، فيسمى نبيا بالنسبة للوحي النازل عليه، ويسمى رسولا بالنسبة للبلاغ الذي يحمله إلى الخلق.
فدين الله هو الإسلام، هذه الكلمة -إسلام- عرفت من أيام نوح عليه السلام: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:71-72].
توجد- الآن- دولة اسمها "إسرائيل"، كلمة إسرائيل لقب تشريف ليعقوب -عليه السلام، كما أن المسيح لقب بتشريف لعيسى -عليه السلام-، ما دين يعقوب؟ يقول الله في دين يعقوب: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133]، فيعقوب يدين بالإسلام وراثة عن أبيه وعن جده.
ما دين عيسى؟ الإسلام، وهو الذي دعا إليه الناس، فلما شعر بأن اليهود يمكرون به، ويحاولون اغتياله، والتنديد بمسلكه، والافتراء عليه، نادى في الناس: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:52].
قد يتساءل الناس: فهل الإسلام الذي جاء به نوح ويعقوب وموسى وعيسى هو الإسلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ ممكن أن نقول إنه بالنسبة إلى العقائد في جملتها، فإن موسى أو عيسى أو نوحا كانوا دعاة الى الله الواحد: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25].
فيستوي نوح وعيسى ومحمد في هذا المعنى، غاية ما هنالك أنه إذا كانت العقائد قاسما مشتركا بين أديان الله على امتداد الزمان والمكان فإن هناك ميزة في الإسلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، ما هذه الميزة؟ تقوم هذه الميزة على أمور، منها أنه كثر الأدلة على عقيدة التوحيد، وفتَح أمام البصر العقلي أو المنطق الفكري أنواعا من البراهين، وفتح أمام السمع والبصر آفاقا كثيرة وقال: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت:53]. فكثُرت في رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- الأدلة، وهنا لابد أن نشرح بعض الميزات التي يتميز بها الإسلام في عنوانه الأخير، أو في رسالته المكتملة التي جاء بها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
بالنسبة إلى المعرفة هناك أوهام كثيرة تطرقت إلى العقيدة على امتداد الزمان والمكان، فكان الدين الخاتم هو الدين الذي أحصى المثالب والمقابح والعيوب والمآخذ التي تسللت إلى الديانات السابقة، ونالت منها وعكرت صفوها، بيَّن النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- أن الحق هو ما جاء به، وهو ما نزل على موسى وعيسى من قبله.
افرض أن "العهد القديم" الآن يقول: إن الله استراح من العمل يوم السبت!. فإن موسى لم يقل هذا، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- برَّأ الدين من أنَّ الله يتعب: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) [ق:38].
ولو أن موسى استيقظ من منامه الآن، وأراد أن يرجع إلى أتباع يؤازرونه على الحق، ما ذهب إلى إسرائيل، إنما سيجيء إلى مسجد من مساجد المسلمين في القارات المعمورة ليقول: أنا مع هؤلاء؛ لأن ما جاء به نبيهم -صلى الله عليه وسلم- هو الحق الذي قلته للناس، وضل عنه من ينتسِب إليَّ، أو مَن يدَّعى اتِّباعي!.
قالوا عن الله: إنه يأكل، وإنه يجهل، وإنه يندم، وقالوا عن أنبياء الله: إنهم سكارى، وإنهم زناة، وإنهم... كل هذا كذب، فالنبوة الخاتمة أو رسالة الإسلام-كما بلغها محمد -صلى الله عليه وسلم- بيانٌ شافٍ للحق الذي نزل على أنبياء الله الأولين.
بالنسبة إلى الإسلام والمسيحية فإن عيسى -في الحقيقة- عبد لله، جاء يدعو الناس بهذه الكلمة: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) [آل عمران:51]، لكن هؤلاء غيروا الحقيقة، وغيروا أيضا شيئا آخر: إن أساس الصلة بالله تكميل النفس، وجعل الإنسان على مستوى الخير والعبودية عندما ينتسب إلى الله، ولذلك لا شفاعات بالمعنى الوثني، ولا أحد يحمل وزر أحد، هذا ليس كلاما جديدا أتى به محمد -صلى الله عليه وسلم-، إنما هو الكلام الذي بلغه أنبياء الله من لدن إبراهيم إلى الذين جاءوا من بعده: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) [النجم:36-41].
إذن ليس هناك فداء، ليس هناك أن شخصا قتل لكي يفتديني بدمه! القصة اختلاق من الألف إلى الياء ولا أصل لها، فالديانة الخاتمة وضحت على لسان خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى بجلاء.
شيء آخر يتصل بطبيعة حامل الرسالة، يقول بعض العلماء: إن الله وزع الفضائل على أنبيائه، فعرف نوح بالجلد والعزم والتصميم، وعرف إبراهيم بالكرم، وعرف موسى بالصرامة والجد، وعرف عيسى بالرحمة؛ كل نبي من أنبياء الله له منقبة، نوع من الجمال الخلقي ما أشيع في المرسلين من أنواع الأخلاق الفاضلة، والشمائل الرفيعة. وكما تجئ بعدسة تجمع الأشعة فإن شخصية محمد -صلى الله عليه وسلم- تجمعت فيها الكمالات التي توزعت على الأنبياء السابقين، فما من خير يعرف به أحدهم إلا وجد له نور وشعاع في حياة النبي -محمد صلى الله عليه وسلم-!.
هذه واحدة، ثم قيل له: مع تجارب الأيام انتفع بالتجارب التي مضت: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35]، التجارب التي مضت كثيرة، التجارب التي مضت تظهر في نفس طريقة انتشار الرسالة، ومتابعة الأجيال لها، وحسن التلطف بها مع الناس.
فمثلا إبراهيم، عدو الوثنية ومحارب الأصنام، كسر الأوثان المعبودة، لكن ماذا حدث بعد أن كسر الأصنام؟ (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) [الأنبياء:62-64] عود ثقاب اشتعل في أذهانهم لحظة: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) لكن انطفأ العود: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ) [الأنبياء:65]. إذن رجعوا إلى عبادة الأصنام مع أنها كسرت؟ فما الحل؟ الحل أن الدين الجديد لا يبدأ بتكسير الأصنام؛ لأنه ما قيمة أن تكسر صنما فيجيء العابد الأبله ليصنع صنما آخر ليعبده؟ ما قيمة أن تذبح بقرة في الهند فيجيء هندوسي أحمق ببقرة بدل بقرة ويعبدها؟ إذن الأساس تغيير النفس البشرية.
فجاءت الرسالة الخاتمة تعمل بدأَبٍ وقدرة عقلية على تغيير النفس الإنسانية، والارتفاع بمستوى الفكر شيئا فشيئا، ومستوى الفضيلة شيئا فشيئا، حتى أصبحت الأمة الإسلامية -بعد أن استمعت للقرآن ثلاثا وعشرين سنة- على مستوى حضاري من حِدة الذهن، وتألق البصيرة، ونقاء الضمير، وسعة الأفق، ما جعلها لا نظير لها في العالمين.
هذا نوع من شخصية الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد ذلك نجد أن هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- فهم الخطة، ما الخطة؟ الله الذي خلق الناس يريد أن يحكم أمورهم، وأن يصف أقدامهم على الطريق المستقيم، فوضع لهم الخطة: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل:89]. فهم النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- الخطة، وفهم أن الإسلام دين للنفس والمجتمع والدولة، وأنه دين للسياسة والاقتصاد والتشريع والأخلاق والعبادات والمعاملات، وأنه دين يستقى من المشرع الأعظم الفرد الصمد وحده: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام:114-115]
مضى في طريقه يفهِّم القرآن، وكان خلقه القرآن، التيار العقلي للشخصية المحمدية هذا القرآن، وكما جاء في الحديث: "وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان" عاش به، وعاش له، ثم أخذ يغير العالم به. وهنا لابد من أن تذكر الحقيقة، كانت هناك استحالة واقعية أن تتغير الدنيا إلا بهذا الإنسان، لن ينفك الناس عن ضلالهم، لن يترك الناس أبدا جاهليتهم إلا بهذا الإنسان الذي فهم الكتاب المنزل عليه على أنه بصائر للناس، ثم طبقة في نفسه، وفى بيئته وأسرته ومجتمعه، وحربه وسلمه، وصداقته وعداوته، وسفره وإقامته؛ انطلق في كل مكان لكي يصنع أجيالا، لا جيلا واحدا.
إن آثار السنة يرف عليها من شخصية النبي الخاتم ما يجعلها إلى آخر الدهر تصنع الروحانية الفواحة بالتقوى، والعبادة العامرة بالإخلاص، والجهاد الذي لا يبالى بعقبة، والذي يبتغي وجه الله وحده. من هنا قامت للإسلام دولة، أقامها النبي الخاتم، استطاعت الدولة أن تمضي، الآن بدأت قرنها الخامس عشر، وهى ماضية إلى قيام الساعة إن شاء الله.
لكن أوجِّه النظر إلى ما يجهله المسلمون من دينهم، كنت أدرس - كغيري من المسلمين- الشخصية النبوية، وأستفيد من هذه الدراسة بما يفتح الله به، ثم أقارن بين ما عرا الإسلام في دولته وفى أتباعه من تغير، وأنظر إلى الأمم الأخرى، وأعلم أن الإسلام خالد، وأن يوم الإسلام قادم إن شاء الله، فوجدت وأنا أقرأ كتابا لم يكن معي عندما أشرت إليه في الأيام السابقة، لكنه في أسفاري وقع في يدي، فجئت به، الكتاب اسمه "المائة الأوائل" مكتوبة بالعدد الأفرنجي المائة، المؤلِّف أمريكي، وهو مؤلف مسيحي يتأثر بمسيحيته ويقول: ربما بدأ غريبا أن يكون محمد في رأس هذه القائمة، رغم أن عدد المسيحيين ضعف عدد المسلمين.
أولا: هذا الكلام غير صحيح، ويؤسفني أن أقول: إنه من استغفال المسلمين أن يقال لهم عددكم كذا وكذا، وحرب الإحصاءات حرب غريبة، والصحيح أن العالم ربعه مسلمون، وربعه مسيحيون، وربعه شيوعيون، وربعه وثنيون، هذا هو التعداد -إجمالا- في العالم كله، ومن لا يعجبه هذا نحتكم إلى إحصاء محايد تشرف عليه هيئة الأمم.
وإن كنت لا أهتم بالكثرة؛ لأنه تبين من استيعاب الأحداث التاريخية أن القلة العاملة أنجح من الكثرة العاطلة، وأقدر على الإمساك بالزمام. يقول الرجل معللا القرار الذي اتخذه لجعل محمد -صلى الله عليه وسلم- أول العظماء المائة: " ولكن لذلك أسباب: من بينها أن محمدا قد كان دوره أخطر وأعظم في نشر الإسلام وتدعيمه وإرساء قواعد شريعته أكثر مما كان لعيسى في الديانة المسيحية، وعلى الرغم من أن عيسى هو المسؤول عن مبادئ الأخلاق في المسيحية، غير أن القديس بولس هو الذي أرسى أصول الشريعة المسيحية، وهو أيضا المسؤول عن كتابة الكثير مما جاء في كتب "العهد الجديد"!.
ثانيا: إن محمدا هو المسؤول الأول والأوحد عن إرساء قواعد الإسلام، وأصول الشريعة، والسلوك الاجتماعي والأخلاقي، وأصول المعاملات بين الناس، في حياتهم الدينية والدنيوية، كما أن القرآن قد نزل عليه وحده، وفى القرآن وجد المسلمون كل ما يحتاجون إليه في دنياهم و آخرتهم؛ والقرآن الكريم نزل على محمد كاملا، وسجلت آياته وهو ما يزال حيا، وكان تسجيلا في منتهى الدقة، فلم يتغير منه حرف واحد، وليس في المسيحية شيء مثل ذلك، فلا يوجد كتاب واحد محكم دقيق لتعاليم المسيحية يشبه القرآن.
وكان أثر القرآن على الناس بالغ العمق، ولذلك كان أثر محمد على الإسلام أكثر وأعمق من الأثر الذي تركه عيسى على الديانة المسيحية. فعلى المستوى الديني كان أثر محمد قويا في تاريخ البشرية، وكذلك كان عيسى!.
وكان محمد على خلاف عيسى رجلا دنيويا، (ومعنى هذا التعبير أن الإسلام عقيدة وشريعة وعبادة ومعاملة، وإيمان ونظام؛ أو بتعبير العصر الحديث: دين ودولة) فكان زوجا وأبا، وكان يعمل في التجارة، ويرعى الغنم، وكان يحارب ويصاب في الحروب، ويمرض، ثم مات! ولما كان محمد قوة جبارة فيمكن أن يقال أيضا: إنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ ". هذا كلام رجل أمريكي الذي يشغله أو يعنيه هو ذكر الحقائق، وقد تحدث الرجل عن القديس "بولس"، و الذي يهمني هنا ما يأتي:
أولا: معروف عندنا -نحن المسلمين- أن عيسى نبي من أنبياء بنى إسرائيل، يعني يهودي الجنسية.
ثانيا: أن رسالته محدودة ببني إسرائيل لا تتجاوزها.
ثالثا: أنه ممهد للرسالة الخاتمة، يقول للناس: انتظروا النبي الذي يجيء بعدى؛ لأنه هو الذي سيقود العالم كله، وهذا هو معنى الآية: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف:6].
إذن، ما الذي حول المسيحية من دين محلي لبني إسرائيل إلى دين عالمي للناس؟ ما الذي حول دينا يقوم على التوحيد -ولو في نطاق ضيق- إلى دين يقوم على التثليث؟ ما الذي حول المسيحية من أصلها الذي عرفت به أول تاريخها إلى الوجهة الجديدة التي تعرف بها الآن؟.
يقول المؤلف الأمريكي "مايكل هارت": يتلخص تأثير "بولس" على تطور الديانة المسيحية في ثلاث نقاط: أولا: نجاحه العظيم كمبشر، ولم يستطع أحد أن يقوم بمثل هذا الدور من قبله أو من بعده. ثانيا: كتاباته التي تؤلف قسما كبيرا من "العهد الجديد"، فمن بين السبعة والعشرين سفرا من كتاب "العهد الجديد" نجد أن القديس "بولس" قد ألف أربعة عشر سفرا. ثالثا: من أهم أفكاره: أن يسوع المسيح لم يكن فقط نبيا بشرا بل كان إلها حقا! وأنه مات من أجل التكفير عن خطايا البشر، "وأن الإنسان لا يستطيع أن يحقق هذا الخلاص من الخطايا بالإيمان بالكتب المقدسة فقط وإنما بالإيمان بيسوع المسيح فسوف تغفر خطاياه، وهو أيضا الذي أوضح فكرة الخطيئة الأولى". إلى أن قال: "وبولس هو المسئول الأول عن تحويل الديانة المسيحية من مجرد طائفة يهودية إلى ديانة كبرى، وهو المسؤول الأول عن تأليه المسيح!" إذن فالديانة التي جاء بها عيسى - كما يقول الرجل- ليست هى الديانة التي تنتشر الآن!.
ونعود مرة أخرى لنقول: ما الدين؟ والجواب: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران:19]، الدين: معرفة الله معرفة صحيحة، ومعنى المعرفة الصحيحة أن الواحد ليس معه ثان ولا ثالث، ومعنى المعرفة الصحيحة أن الواحد القادر لا يعجزه شيء، وأن الواحد العالم لا يجهل شيئا، وأن الواحد المتفرد في ملكوته لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو يجير ولا يجار عليه! الدين: هو الإسلام... الإنسان الأوحد في حمله للحقيقة، ومحافظته عليها، وحسن بلائه في نشرها، محمد -صلى الله عليه وسلم-، في كتابه وفى سنته.
إن سنته -صلى الله عليه وسلم- تنبع من شخصيته، وشخصيته قائمة على أساس الكتاب الذي ينسج الأعصاب، والملامح الفكرية والعاطفية في هذا الكيان النورانى العظيم، الذي يسمى محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام-.
لهذا المعنى أردت أن يعرف الناس من نحن؟ نحن لسنا أمة تنتمي إلى أرض معينة، ولا إلى جنس معين، ولا إلى لغة معينة، إنما -نحن المسلمين- ننتمي إلى حقائق تنزلت من لدن رب العالمين، وصاغها ربنا تبارك اسمه في كتابٍ (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42]، ومثَّلها علميا وعمليا، نظريا وتطبيقيا، مربى هذه الأمة، وأبوها الروحي والثقافي: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، إليه ننتمي، وبه نفخر، وبدينه نستمسك، ولا نقبل إلا هذا!.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الإخوة أن القوى المعادية للإسلام ما فقدت جزءا ولو ضئيلا من حقدها على القرآن والسنة، ما فقدت جزءا ولو قليلا من كراهيتها لله ولرسوله، ما فقدت جزءا ولو قليلا من أضغانها الموروثة على الإسلام وأمته، وهذا لا يخفى!.
إن كراهية الأشرار للرجل الفاضل تزيد من استمساكه بفضله، ومن اعتزازه بنفسه، وقديما قال الشاعر العربي:
لَقَدْ زَادَنِي حُبَّاً لِنَفْسِيَ أَنَّنِي | بَغِيضٌ إِلى كُلِّ امْرِئٍ غَيرِ طَائلِ |
وأَنِّي شَقِيٌّ بِاللِّئامِ وَلَا تَرَى | شَقِيَّاً بِهِمْ إِلَّا كَرِيمَ الشَّمائِلِ |
ما فقد أعداؤنا ذرة من خصومتهم الخسيسة لنا، لكنى أخاف من شيء، أخاف أنَّ تَظاهُر القوى المضادة للإسلام يوهن عزائم المؤمنين، ويضعف من تمسكهم بالحق، ومن ولائهم له، ومن حفاظهم عليه؛ ولذلك فإني ألفت النظر إلى أن دعاة الإسلام يجب أن يبقوا على العهد، وأن يمضوا في الطريق.
قد تكون المجتمعات التي تعيش فيها الأمة الإسلامية الآن ليست على ما ينبغي، وليست على ما يريد الله لها من سمو، واستمساك به، والتفاف على دينه؛ لكن ذلك لا ينبغي أن ينال من عزم الدعاة، ولا من عملهم لله؛ أقول هذا لأن نبأ بلغني تألمت له، وأنا لم أخطب من شهرين تقريبا هنا، وعندما جئت ما كنت أدري جيدا بالأوضاع، حتى قيل لي: إن الشيخ أحمد المحلاوي الآن في سجن طره!.
أنا أعرف الشيخ أحمد المحلاوي يوم كان إماما لسيدي جابر، ويوم كان يؤسس فرقا من الأساتذة المتخصصين في المواد العلمية والأدبية ليقوِّي الطلاب المسلمين، وينظم لهم فصولا تجمعهم على العبادة وعلى العلم، كان نعم العون لأمته، ونعم الرجل في دينه وخدمة عقيدته؛ ثم سألت صديقا محاميا لي له بالقضية صلة، فقلت له: ماذا هنالك؟ فقال: أنا سأدرس القضية وسآتيك بخبرها، ولكن إجمالا هو متهم بأنه يعمل ضد "الوحدة الوطنية".
الوحدة الوطنية أصبحت التهمة التي تختار الدعاة المسلمين كي ينال منهم، إننا أحنى الناس على وطننا، وأحرص الناس على وحدته الوطنية، ووالله! ما يتهم بالعمل ضد الوحدة الوطنية إلا أناس أعرفهم، ربما ارتدوا ملابس الرهبانية وأردية الكهنوت، ولكنهم يحملون قلوب قُطاع الطريق، وسير معتادي الإجرام، وهم الذين أشعلوا الضغائن في نفوس الناس، داخلا وخارجا، ألبوا ضد المسلمين وضد من يعمل معهم أو يعمل بينهم. فسبحان الله! ما الذي جعل هؤلاء يفلتون؟ ليُتَّهم رجلٌ فيه خير، وفيه نهضة للإسلام؟!
هذا شيء عجيب! لكن تذكرت المعري، كان رجلا نباتيا، ضعف جسمه، فجاء الطبيب وأوصى بأن يُذبح له "كتكوت" صغير، وجاءوا للمعرى بالفرخ المذبوح فوضع يده عليه ثم قال: استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد؟. نعم، استضعفوك فوصفوك، يعنى ليس هناك غير لابس العمامة البيضاء يُتهم بأنه ضد الوحدة الوطنية؟.
الوحدة الوطنية لابد من حمايتها، ونحن أولى الناس بحمايتها، لكن الأصابع كلها تشير إلى من حارب الوحدة الوطنية، وإلى من أساء إلى هذه الأمة، وأجج العداوة الخسيسة ضد الكثرة الطيبة التي تعيش في تراب هذا الوادي.
لذلك كنا أمس في المؤتمر العام للدعوة الإسلامية، وهو المؤتمر العام الذي يجمع الجماعات الإسلامية العاملة في القاهرة وغيرها، وقررنا أن ننظر في القضية، وأن نعقد مؤتمرات عامة من بينها مؤتمر عام يعقد في هذا المسجد في الجمعة القادمة؛ لنرى أن العلماء الذين يعملون للدعوة الإسلامية ما ينبغي أن يُصادوا بهذه الطريقة؛ لأن الوحدة الوطنية عزيزة علينا، ونحن حماتها، ونرفض أن يقال في الدعاة المسلمين إنهم ضد الوحدة الوطنية.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].