الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
يمكن أن يكونوا عباقرة في شؤون المال، يمكن أن يكونوا عباقرة في شئون السياسة، يمكن أن يكونوا عباقرة في دغدغة الغرائز والإثارات الجنسية وخلق مباريات في عالم الجمال أو عالم الرياضة، تجعل الشعوب تتوه عن رشدها، وتفقد وعيها، وتنطلق كالحيوانات المجنونة لا يربطها هدف، ولا تشدها غاية نبيلة! يمكن أن ينجح اليهود في هذا كله، لكن في ميدان الدين والخلق، والعفة والروحانية، والشمائل الرفيعة، والخلق الرقيق ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فحديثنا في هذه الجمعة عن بني إسرائيل، فإن القرآن الكريم تناول بني إسرائيل في أماكنَ كثيرةٍ، حتى قيل إن أحدا لم يذكر في كتاب الله، لا من الأنبياء المرسلين، ولا من الملائكة المقربين،كما ذكر موسى -عليه السلام- في كتاب الله، فقد ذكر نحو مائة وثلاثين مرة.
كما أن قصة بني إسرائيل تكررت في القرآن الكريم كما لم تتكرر قصة أخرى عن الأمم الأولى، عن الأقوام الذين تلقوا الوحي واستمعوا إليه، إما استماع طاعة وإما استماع معصية. لابد أن يكون لهذا التكرار سبب، ولابد أن يكون لهذا التناول المستمر من حكمة قصد إليها الشارع الحكيم.
وقد اجتهدنا في معرفة هذه الحكمة وتلمسها من مظانها الكثيرة، فوجدنا أن القرآن الكريم تحدث عن بني إسرائيل في مراحل من تاريخهم، فمرة تناولهم بالمدح وإعلاء الشأن والتنويه بالمكانة، ففي سورة الدخان –مثلا- يقول رب العزة: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الدخان:30-32]. والعبارة واضحة في أنهم كانوا يوما ما الشعب المختار، وأن اختيارهم لم يكن عن مجازفة أو عن إيثار فيه محاباة، بل اخترناهم على علم.
وفي سورة الجاثية يقول سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ..) [الجاثية:16-17]. فبين في هذه السورة أن الله أكرمهم ومنحهم ورجحهم بميزات أدبية ومادية كثيرة، والسورتان مكيتان.
في القرآن المدني نقرأ قوله تعالى في سورة المائدة: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) [المائدة:20]، وفي سورة البقرة: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:47،122].
في القرآن المكي، في القرآن المدني، وجدنا هذا الحديث الذي ينوه بمكانة بني إسرائيل، ويعلي شأنهم. ما السبب؟ السبب أنهم فعلا بدؤوا تاريخهم بداية حسنة، فقد احتضنوا عقيدة التوحيد، ودافعوا عنها، وتحملوا البلاء في سبيلها، وبذلوا جهودا كثيرة ليبقوا عليها، وليعرضوها على الناس؛ وتفاوتت صور العرض، فبلغ العرض الجميل أعلى مدى له في موقف يوسف من المسجونين معه، فإنه أفهمهم مَن هو؟ قال لهم: إنه من أسرة إسرائيل، أو أسرة يعقوب، إنه من أسرة آمنت بالله الواحد، وصدقت باليوم الآخر، وكفرت بالوثنيات السائدة، وإنه هو أحد الذين ورثوا تلك العقائد، وعاشوا من أجلها.
يقول يوسف في السجن لمن رأوا فيه رأيا حسنا: (...لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ *وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) [يوسف:37-38]. يعقوب أبوه، إسحاق جده، جده الأعلى إبراهيم: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ). ثم أخذ يهاجم الآلهة الوثنية التي اخترعها الناس وعبدوها من دون الله : (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟) [يوسف:39] .
يعقوب كان حريصا على أن يورث التوحيد لأولاده، ويعقوب هو الملقب بإسرائيل، وإبراهيم كان حريصا على أن يورث التوحيد لأولاده، ونجد هذا في القرآن الكريم: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف:26-28]، أي: ورث أولاده وأعقابه هذه العقيدة .
المعنى نفسه عند يعقوب: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133].
إذن، كان بنو إسرائيل في صدر تاريخهم من المراحل الأولى من حياتهم، كانوا أمناء على دعوة التوحيد، تحملوا في سبيلها المتاعب، فلما صبروا على المتاعب التي فرضت عليهم أو اختبروا بها مكَّنَهم الله، وجعل أقدامهم راسخة في العالم، وذكر هذا في كتابه عندما قال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24] .
أي إنهم جمعوا بين الصبر واليقين في علاقتهم بالناس وحراستهم للدعوة، وفي سورة الأعراف يقول: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا..) [الأعراف:137]. كان الصبر والتحمل، كان اليقين والإخلاص، كان الصدق في معاملة الله، كان كل ذلك سببا في أنهم مكنوا. ثم ماذا؟ يذكر الله مرحلة أخرى لبني إسرائيل، أساس هذه المرحلة أن التاجر إذا نجح لأنه بدأ عمله في تجارته مشهورا بالصدق والأمانة والنظافة والنظام فإنه لا يبقى مستديما لنجاحه إلا إذا بقي مستديما للأسباب التي أنجحته؛ أما أن يترك الصدق إلى الكذب، والنظام إلى الفوضى، والنظافة إلى القذارة، ثم ينتظر أن تبقى له تجارته نامية، أو أرباحه واسعة، وسمعته نقية، فهذا مستحيل .
وبنو إسرائيل، لما بلغوا مكانتهم التي بلغوها بالصبر واليقين، كان يجب عليهم أن يستصحبوا هذه الأخلاق حتى يبقى لهم تفضيل الله الذي تنزل عليهم، لكنهم لم يبقوا على هذه الأخلاق، سرعان ما أخذوا يتحولون.
لكي يبقى الإنسان عائما في البحر أو سابحا في الأمواج يجب أن تضرب أذرعه بقوة إلى الأمام، حتى لو عاكسه التيار، فسيبقى عائما، لكن إذا انكسرت أذرعه، أو توقف سبحه فسيسقط في القاع!.
الذي حدث أن بني إسرائيل تغيروا تغيرا عجيبا، فلما تغيروا تغيرت الأوصاف التي كانت لهم، وتناولهم القرآن بشكل آخر، ففي سورة المائدة يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة:59-63].
تغيروا إذن، بعد أن كانوا يؤمنون بالله الواحد، وبعد أن كانوا يصدقون باليوم الآخر ويستعدون للقائه، وبعد أن كانوا يحاربون الأصنام، ويخاصمون أهلها، وبعد أن كانوا يتحملون بصبر وجلَد الأذى في سبيل الله، تبخرت هذه الصفات بينهم، فأصبحوا شعبا غليظ الرقبة، قاسي القلب، زاهدا في الآخرة، مقبلا على الدنيا.
أخذ القرآن يصف التغير الذي وقع عليهم، بعد أن كان هناك إيمان بالآخرة، وصفهم القرآن فقال: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ...) [البقرة:96]. حب الآخرة يستدعى في أحيان كثيرة أن تنزل عن ثروتك لله لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وهؤلاء يعبدون المال، وعرف هذا في مسالكهم، حتى أن الأدب الإنكليزي على لسان أديب الإنكليزية الكبير "شكسبير" عندما كتب روايته "تاجر البندقية" كان يقدم اليهودي التاجر على أنه مُرابٍ مصَّاصٌ للدم، لا يرحم محتاجا؛ ويقرض، لا ابتغاء آخرة؛ ولكن طلبا لدنيا يحرص عليها إلى حد الاستماتة!.
ويبدو حقيقة أن التغير الذي حدث في شمائل بني إسرائيل أو التحول الذي وقع في أخلاقهم كان جذريا، بمعنى أنه إلى الآن لا يعرف في شمائل اليهود أنهم يقودون إلى تقوى، أو يعرفون الناس بحق الله، أو يذكرون أحدا بالدار الآخرة!.
يمكن أن يكونوا عباقرة في شؤون المال، يمكن أن يكونوا عباقرة في شئون السياسة، يمكن أن يكونوا عباقرة في دغدغة الغرائز والإثارات الجنسية وخلق مباريات في عالم الجمال أو عالم الرياضة، تجعل الشعوب تتوه عن رشدها، وتفقد وعيها، وتنطلق كالحيوانات المجنونة لا يربطها هدف، ولا تشدها غاية نبيلة! يمكن أن ينجح اليهود في هذا كله، لكن في ميدان الدين والخلق، والعفة والروحانية، والشمائل الرفيعة، والخلق الرقيق؛ أصبحوا لا مكانة لهم!.
فكانت النتيجة أن لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم، وكانت النتيجة أن قال الله الذي منحهم المآثر الأولى ومدحهم بما قال، كانت النتيجة أن عاقبهم على التغير الذي وقع جذريا في سيرهم وأحوالهم فقال: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأعراف:167].
ومن الغباء أن يحسب أهل جيل أن الفلك سُمِّر، وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غدا؛ ومن الغباء أن يظن الناس كتاب التاريخ صفحة واحدة تبقى ماثلة أمام الأعين. إن التاريخ صفحات متتابعة يطوى منها اليوم ما يطوى، وينشر منها غدا ما ينشر!.
هنا ما بد من أن نفهم العبرة، العبرة أن الله جل شأنه يختبر بالرفعة والوضاعة، يختبر بالزلزلة والتمكين، يختبر بالخوف والأمن، يختبر بالثروة يعطيها وبالفقر يرسله، يختبر بالضحك والبكاء! (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) [النجم:42-44]، يختبر بالأمرين، وعندما يختبر فهو عالم بخلقه، ولكن القاضي لا يحكم بعلمه، إنما يحكم بين العباد بما يظهر من أمرهم؛ حتى تنقطع الأعذار، وتخرس الألسنة التي مرنت على الجدل، فإن ناسا سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله : (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ!) [الأنعام:23].
فما بد من إقامة الدليل على الناس من عملهم هم. يعطي المال ويقول لصاحبه: أعطيتك المال، لا لأنك عبقري؛ لأن عباقرة يمكن أن يموتوا جوعا، لكني أعطيتك المال أختبرك! نجد اقتصاديا كبيرا مثل "قارون" يقال له: إن الله موَّلك ومنحك، اعرف حق الله فيما آتاك، اتق الله فيما بسط عليك من رزق، اطلب الآخرة بما أوتيت في الدنيا، لا تنس الله. يضيق الرجل بالله وذكر الله، ورقابة الله، وتقوى الله، ويقول لهم: ما هذا بعطاء الله، هذه عبقريتي أنا! (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص:78]. هذا المال لم يأتني منحة من السماء، ذكائي وعبقريتي وتجربتي وخبرتي بشئون الأسواق والمال هي التي جعلتني كذلك، فكان هذا الشعور بداية الدمار الذي طواه! (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ...) [القصص:81].
هذا اختبار سقط فيه رجل من بني إسرائيل، اختبار آخر لرجل من بني إسرائيل هو "سليمان" اختبار بالسلطة، فإن سليمان وهو في فلسطين طلب أن يُجاء له بعرش "بلقيس"، وجيء له بعرش بلقيس، ونظر الرجل العظيم فوجد أن سلطانه واسع، وأنه أوتى بسطة في القوة غير عادية، فهل اغتر؟ لا، تواضع لله، وقال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40].
الحقيقة أنه بالنسبة للأفراد أو بالنسبة للجماعات، كلنا يختبر، وثق أيها الإنسان أن حظك من أقدار الله كبير، وأن مالك من جهد محدود! و أنك إذا كنت حسن الصوت فلأن الله زودك بأوتار لم يزود بها غيرك، وإذا كنت واسع الذكاء فلأنه زودك بكذا في تلافيف المخ لم يزود به غيرك! وإذا كنت... وإذا كنت... ما من شيء تتميز به في حقيقتك إلا وهو عطاء أعلى لا دخل لك فيه؛ ثم تُختبر بعد ذلك في هذا الذي أعطيته اختبارا دقيقا، ترى أترد الفضل لصاحبه وتعرف الحق وتقف موقف العبد الذي يستحيي ممن منحه أن يبذل نعمه في معصيته؟ أم ماذا تكون؟ هذا بالنسبة للأفراد، وكذلك بالنسبة للدول والجماعات.
هل قص الله قصص بني إسرائيل تسلية للمسلمين؟ لا، إنما هو توعية للمسلمين، كأنه سبحانه وتعالى يقول للمسلمين: هذا تاريخ من سبق، يقرأ عليكم وحيا معصوما، وتتلونه في الصلوات وفي مجالس الرحمة قرآنا يذكر الناسين، ويوقظ الغافلين؛ لكي تتعلموا.
فهل تعلمت الأمة الإسلامية من تاريخ بني إسرائيل أن تستبقى أسباب المدح وأن تستبعد وسائل القدح مرة أخرى؟ وفي محنة من محن بني إسرائيل تألم اليهود وقالوا لموسى: (...أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129].
هذا كلام خطير، كأن موسى يقول لقومه قد تستخلفون، وعندما تستخلفون وتتمكنون ينظر الله ماذا تعملون؟ هل هذا الكلام قيل لبني إسرائيل وحدهم؟ لا؛ نجد في سورة يونس أن الله سبحانه وتعالى يقول للمسلمين: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس:13-14].
الكلام واحد للفئتين، الكلام واحد للجنسين، الكلام الذي قيل للجنس العبري من ثلاثين أو أربعين قرنا قيل للجنس الإسلامي أو للجنس العربي من أربعة عشر قرنا. وإننا نتساءل، كيف هوى اليهود؟ هووا بحب الحياة، هووا بالحرص على المال، هووا من شاهق لأنهم لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، هووا من شاهق لأن الشخصية الدينية التي تميزوا بها وكُرِّموا من أجلها تلاشت في خلالهم، وانمحت من خصالهم!. وظن الحمقى أن جملة أخرى تربطهم بالله هي صلة النسب للأنبياء، فهم كما يقولون أبناء الأنبياء، وأبناء الأسباط! ولاشيء من هذا له قيمة عند الله..
ننظر إلى المسلمين فنجد فعلا أن الأمة الإسلامية في عصرنا هذا تخالف العصر الأول، في العصر الأول لما نزل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ...) [التوبة:111]، سارع جمهور الناس إلى توقيع العقد، بل قالوا: نعمت الصفقة! نفوس هو خالقها، وأموال هو رازقها، يأخذ هذا منا ليعطينا عليه الجنة!.
نعمت الصفقة! هو المتفضل أولا، والمتفضل آخرا، ننظر إلى المسلمين الآن، فماذا نجد؟ نجد شيئا آخر، نجد حبا غريبا للحياة، حبا دنيئا للحياة، حرصا غريبا على المتع، ذهولا عن الإسلاميات التي شرف بها الأولون، العرب الأولون ما كانوا لا يتشرفون إلا بالإسلام، أما الآن فإن اسم الإسلام يوشك أن يختفي، والأمة تحب المال والمتع، وعُرف هذا في تصرفاتها على نحو غريب! كيف؟.
يقول أعداء الإسلام لأنفسهم: ما نجد الأمة الإسلامية في وضع أبعد لها عن الله، وأنأى عن تعاليم دينها منها في هذا العصر! ويقول علماء القانون: إن القانون لا يحمى المغفل! حدث يوم كانت القدس في سلطة الأردن صدرت أوامر للمسيحيين في القدس أن يشتروا الأرض من المسلمين! كيف؟ قيل لهم اشتروا بأي سعر! إذا كان المتر بمائة جنيه فادفعوا ألفا. وهذا شيء يوفر الكثير على العالم الصليبي.
إن العالم الصليبي ظل مائتي سنة في العصور الوسطى يحارب من أجل الاستيلاء على القدس، وبذل في هذا ملايين القتلى، بذل في هذا قناطير مقنطرة من الذهب! فإذا وجد المسلمين قطعانا بلهاء تعيش في القدس يمكن أن يشترى من أى مسلم أرضا! يرى المسلم أن بيته الذي ورثه يساوى ألف جنيه، يعرضون عليه مائة ألف! فيبيعه! ووجد العلماء أن الأرض الإسلامية تتحول إلى أرض صليبية بثمن بخس، دراهم معدودة، فأصدر علماء المسلمين الفتوى هناك بأن من باع أرضه لصليبي فهو مرتد عن الإسلام!.
القدس التي حاول هؤلاء الاستيلاء عليها في قتال ظل مائتي سنة يراد الآن أن تؤخذ بغير قطرة دم ! لماذا؟ أمة تحب المال، وأنا أعلم أن شراء الأرض في فلسطين مر بأدوار، هناك أفنديات ورثت إقطاعات ضخمة ما رأتها، باعت الأرض لليهود فحولوها إلى مستعمرات عسكرية! وهناك من باع أرضه طلبا للمال وحده، وهناك مؤمن أُعطِشت أرضه حتى بارت وهو حريص على أن لا يبيعها! الناس مختلفون.
الذي حدث عندما دخل اليهود فإن الثمن الذي دفعوه للأرض أخذوه من اللاجئين والمهاجرين، أخذوا كل سوار من ذهب، وكل حلية تحملها امرأة أو رجل، واستردوا المال الذي دفعوه للأرض! القانون لا يحمى المغفلين!.
وإذا كانت الأمة الإسلامية في أماكن كثيرة يقال لبعض الصليبين فيها اشتروا الأرض في مكان كذا، فإن هذا مقصود منه تحويل دار الإسلام إلى دار كفر، أو أرض الإسلام إلى أرض كافرة! وهذا نوع من حب الدنيا الذي قال فيه نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن". فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت".
حب الدنيا! ناس تبيع أرضها لأجل مال، رأيت أموالا كثيرة تحولت إلى أطعمة في بطون الآكلين، ثم تحولت إلى فضلات في المجارى، ثم مات أصحابها ودفنوا في مزبلة التاريخ، ثم تنتظر جهنم أولئك جميعا إلى النار، وبئس القرار!.
أهذا تصرف ترضاه أمة لنفسها؟ إن الله سبحانه وتعالى حكى لنا تاريخ اليهود في أحوالهم؛ لكي نتعلم أن أمتنا عزها في الإسلام، وفي إرضاء الله، وفي أداء حقه سبحانه وتعالى، فإذا تنكرت لكتابها وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم- وعاشت لشهواتها وأهوائها، فلن تحصد من وراء ذلك كله إلا الضياع.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صَلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: أيها الإخوة: ألفت النظر إلى أمرٍ ما يجوز أن يُنسى: هذا العصر عصر الأديان، هذا العصر الذي نعيش فيه، عصرُ تمسُّكِ أصحاب الأديان بأديانهم، بل أكاد أقول إنه العصر الذهبي للأديان كلها، ما عدا الإسلام! فإن اليهودية من ثلاثين قرنا، من ثلاثة آلاف عام ما كان يمكن أن تكون لها دولة أصبحت لها دولة، هذا عصر ذهبي لها، حتى الهندوكية التي تقدس الأبقار وتحترم القردة هي في عصرها الذهبي الآن.
كل صاحب دين يذكر دينه، ويملأ فمه به، لكن وجدتُ أن مؤامرة عالمية إعلامية تتواصى بأن ينسى العرب الاسلام! العرب بالذات! فمثلا إذاعات أجنبية تقول: إن الخط الفاصل بين الشطر المسيحي لبيروت والشطر الإسلامي لبيروت حصل فيه كذا وكذا؛ فهي تذكر المسيحية والإسلام. أما الإذاعات العربية فتتكلم عن المسيحيين بوصف أنهم يمينيون، انعزاليون، كيت و كيت. أما الوصف الذي يظهرون به، ويعتزون به، ويعرفون به، فلا يراد إظهاره، لماذا؟ يجب أن يعرف هذا.
تذكر قصة ايرلندا الشمالية وانجلترا بطريقة مغشوشة، فالمعروف أن السجين الذي مات منتحرا بعد أن ظل جائعا ستة أسابيع أو تسعة أسابيع وهو يرفض أن يتناول طعاما إلا ما يغذى به عن طريق الحقن، هذا كاثوليكي؛ والكاثوليك هم الذين يقومون بالثورة ضد انجلترا، وأنا أسمع اليوم أن البروتستنت في انجلترا أقاموا قداسا في كنيستهم الكبرى ذكروا فيه القتلى الذين سفك دمهم الجيش الجمهوري الإيرلندي الكاثوليكي. حرب دينية بين البروتستنت الحاكم والكاثوليك الذين يريدون الحكم، لكن يطوى هذا حتى لا يفهم المسلمون أن الناس تتمسك بأديانهم.
"مناحم بيجن" وهو رجل بولندي كذاب، جاء إلى الأمة التي لا وارث لها، والأرض التي لا صاحب لها، وأخذ فلسطين؛ يريد أن يقول: إن تحالفا بين اليهود والنصارى هو الذي يبقي النصرانية في لبنان. والرجل كاذب بداهة! النصرانية في لبنان قائمة منذ أربعة عشر قرنا ما أهلكها أحد، وكان المسلمون يستطيعون إهلاكها، ولكن أبوا تكرما، لماذا لا يذكر هذا؟.
والنتيجة أن الأمة الإسلامية يراد أن تنسى ولاءها لدينها، بينما عابد البقر يتعصب لدينه، وتابع كل دين أرضى أو سماوي يتمسك بدينه، وبطريقة ما يراد أن ينسى المسلمون دينهم، أو عنوانه أو تاريخه، لماذا؟ إن أمتنا يجب أن تكون أكثر يقظة، وأكبر صحوة.
الواقع أن أنظر إلى أحوال المسلمين في عواصم كثيرة، فأرى شيئا غريبا، فلسفة الرِّجل أو فلسفة كرة القدم، فلسفة قذرة، أي فلسفة في كرة القدم؟ ومع هذا فإن من الكويت والخليج إلى القاهرة عشرات الألوف من قطعان الأغنام تنطلق هنا وهناك بجنون! هذا لهو ولعب، فكيف تضيع صلاة الجمعة وصلاة العصر، وصلاة المغرب من أجل أن مائة ألف يتفرجون على ملعب كرة؟ هذا أمر عجيب!.
اليهود يرفضون لأنهم يقدسون السبت أن تنتهك شرائع السبت، بينما الأمة الإسلامية ببساطة تنتهك شرائع الجمعة وشعائرها لأنها تريد أن تلعب! أخذنا ضمانا من القدر بأن سننه الكونية لا تثأر من اللاهين واللاعبين؟ هذا مستحيل، وفي الحديث: "إن الله عز وجل يملى للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)" [هود:102].
على المسلمين أن يصحوا حتى يدركوا أن فهمهم لدينهم على هذا النحو المتجاهل لا يقدمهم إلا إلى الذبح، وإلا ليكونوا علفا لمدافع الأقوياء! وعندما أنظر إلى أمتنا وهى تائهة في هذا المجال، أسمع كلاما غريبا، يأتي إليَّ سائل: آزر أبو إبراهيم أم عمه؟ كلب أهل الكهف من أرمنت أم من إنجلترا؟ سماع القرآن من الإذاعة حلال أم حرام؟ يعنى الأمة الإسلامية تشغل نفسها بأمور تحتاج إلى أن تراجع فيها قلبها وعقلها، فإنها إذا مضت في هذا الطريق فإنما تمضى إلى قبرها لا إلى نصرها! إنني أنبه المسلمين إلى أن يجدُّوا، فإن الأيام لا تلعب!.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].