الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | سعد بن سعيد الحجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
بالمرض يبلغ الإنسان المنزلة العالية عند الله تعالى. يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها"
الحمد لله رب العالمين قيوم السماوات والأرضين، جعل المرض رحمة للطائعين وعقوبة للعاصين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين أعلى بالمرض قدر المؤمنين وجعل درجتهم في عليين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله النبي الأمين بعثه الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عنه الغافلون، وعلى آله وأصحابه ومن سار على طريقه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون..
اتقوا الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: من الآية284]. واتقوا مابين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون، واشكروا الله على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة، فإن نعمه لا تعد ولا تحصى، واحفظوا هذه النعم بالشكر فلقد تأذن بالمزيد لمن شكر وبالعذاب لمن كفر. قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: من الآية7].
ووعد بالرضوان عن الشاكرين وبالسخط على الجاحدين. قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الزمر:7].
واصبروا على القضاء والقدر فإنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، واعلموا أنّ كل ما قضاه الله وقدره خير، فالخير بيديه والشر ليس إليه. ومما قضاه الله وقدره مرض الأبدان وهو مرض عام يشمل البر والفاجر والذكر والأنثى والصغير والكبير، وهو ألم تثقل به الأجساد فلا تستطيع القيام ولا القعود ولا الحركة، وبه يصبح الإنسان عالة على غيره، وبه يحبس على فراشه، يقل به النوم ويطول به الليل ويقل به الطعام والشراب، وتقل به الصحبة، ويتداعى الجسد بالسهر والحمى.
والمرض للمسلم نعمة ومنحة، لأنه يتحقق به فضائل كثيرة ومنافع عديدة، ولذا كان الصالحون يفرحون بالبلاء كما نفرح بالرخاء. يقول صلى الله عليه وسلم: "وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء". والبلاء علامة الخيرية عند الله تعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يصب منه" أي يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها، ومفهوم الحديث: أن من لم يرد الله به خيراً لم يصب منه. ويقول صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة".
وعدم المرض وعيد لصاحبه بالنار، فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال: "هل أخذتك الحمى؟" قال: لا. قال: "هل أخذك الصداع؟" قال: لا. قال: "من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا؟".
وقال ابن مسعود: "إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسماً، وأمرضهم قلباً، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلباً وأمرضهم جسماً، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان".
وقال بعضهم: ارضَ عن الله جميع ما يفعله بك فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك، فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين فتسقط من عينه.
وقال سفيان الثوري: "ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة".
واعلموا عباد الله: أن للمرض في حياة المسلم فوائد كثيرة تثمر في الدنيا وتثمر في الآخرة، بها يتبين المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب، فإن الله حكيم أحكم كل شيء وأتقنه، ووضع كل شيء في موضعه، وهو غني عن تعذيب عباده، بل رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه، ويتودد إلى عباده بالنعم ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون. فمن فوائد المرض: أنه ابتلاء واختبار، وقد خلق الله الإنسان للابتلاء، يقول تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [الإنسان:2] ، والابتلاء بالخير والشر ليصبر ويشكر ويرجع إلى رشده وصوابه ويراقب ربه ويحسن العمل له. قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: من الآية35].
وبالابتلاء يتميز العمل الصالح من العمل السيئ. يقول تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2]، وبالابتلاء والاختبار يتميز المؤمن من الكافر وأهل الصبر من أهل الجزع وأهل الجهاد من أهل الفساد. قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)[ محمد:31].
وأعظم الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. سئل صلى الله عليه وسلم عن أشد الناس بلاء، قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الإنسان على قدر إيمانه، فإن كان في إيمانه صلابة كان بلاؤه أشد، وإن كان في إيمانه لين كانت البلوى على قدر الإيمان".
والابتلاء سبب من أسباب محبة الله، يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط".
ومن فوائده: التأسي بالأنبياء عليهم السلام الذين اصطفاهم الله واجتباهم واختارهم وجعلهم القدوات الذين يقتدى بهم، والأسوات الذين يتأسى بهم، ولا يختار الله لهم إلا أكمل الحالات وأرفع الدرجات، فلقد ابتُلي أيوب بالمرض ثماني عشرة سنة وهجره الناس وتركوه إلا رجلان من إخوانه، وفقد صحته وماله وولده، ثم شفي بالدعاء وبذل الأسباب وشرب الماء والاغتسال منه.
وابتُلي رسولنا صلى الله عليه وسلم بالمرض، إذ مرض في آخر حياته حتى اعتزل الناس وبقي في بيته واعتزل المسجد لشدة المرض، وأغمي عليه واشتد به المرض حتى مات. ففي الابتلاء بالمرض اقتداء به، يقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21].
ومن فوائده: أن الموت ببعض الأمراض شهادة، مثل: الموت بمرض الطاعون، وبمرض البطن، وبذات الجنب ونحوها، يقول صلى الله عليه وسلم: "الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله". وقال لأصحابه: "من تعدون شهيد الله فيكم؟ قالوا: من قُتل في سبيل الله تعالى. قال: "إنّ شهداء أمتي إذاً لقليل". قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: "من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات بالطاعون، فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد".
ومن فوائده: الاتصاف بصفة الصبر، والصبر هو أوسع العطاء وخير العطاء، وهو ضياء يشرق طريق الهداية ويحرق الذنوب والمعاصي، وهو نصف الدين، وهو صفة الأخيار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهو قرين الأعمال الصالحة لا تؤدي إلا به، وهو صفة الأنبياء والأولياء، ثوابه لا يتقيد بعدد بل يوفى أهله أجرهم بغير حساب، وبه وباليقين تكون الإمامة في الدين، وهو البشارة من رب العالمين، وهو سبب من أسباب دخول الجنة.
ومن فوائده: مغفرة الذنوب والسيئات التي نقترفها في الصباح والمساء وفي الليل والنهار وفي جميع الأوقات، وبأسماعنا وبجميع جوارحنا التي أظلمت بها القلوب واسودت بها الوجوه، وضعفت بها الأبدان وضاق بها الرزق وساءت بها الحياة واشتد بها الحساب وزاد بها العقاب، ورحم الله من قال: "لو كان للذنوب روائح ما استطاع منا أحد أن يجلس بجانب الآخر". يقول صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها"، ودخل صلى الله عليه وسلم على أم السائب أو أم المسيب فقال: "ما لك يا أم السائب –أو يا أم المسيب- تزفزفين؟" قالت: الحمى لا بارك الله فيها. فقال: "لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد".
والمرض طهور يطهر الله به القلوب والجوارح، ولذا يشرع عند عيادة المريض أن يقول العائد له: "طهور إن شاء الله". ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة"، ويقول: "ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة".
ومن فوائده: كتابة الحسنات ورفع الدرجات ودوام العمل، فبه تحسن القلوب وتحسن الأقوال والأفعال والتعامل وتحسن الآخرة ويكون صاحبه من المحسنين الذين يعبدون الله وكأنهم يرونه فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، ولهم بإحسانهم الحسنى وزيادة، ولا يرهق وجوهم قتر ولا ذلة، ولذا كان أشمل وأجمع الدعاء: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: من الآية201]، يقول صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومُحيت عنه بها خطيئة". وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة وكتب له حسنة ورفع له درجة"، وقال أبي بن كعب: يا رسول الله ما الحمى؟ قال: "تجري الحسنات على صاحبها ما اختلج عليه قدم أو ضرب عليه عرق". قال أُبيّ: اللهم إن أسألك حمى لا تمنعني خروجاً في سبيلك ولا خروجاً إلى بيتك ولا مسجد نبيك. فلم يُرَ إلا وهو محموم، ولا مسه إنسان إلا ووجد حره حتى ابيضت شفتاه.
ولعل سبب كثرة ثواب الحمى لأنها تدخل في كل عضو، وإن الله يعطي كل عضو قسطه من الأجر. قال أبو هريرة: "ما من مرض يصيبني أحب إلى من الحمى لأنها تدخل في كل عضو فيَّ، وإنّ الله يعطي كل عضو حظه من الأجر" .
وبالمرض يبلغ الإنسان المنزلة العالية عند الله تعالى. يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها"، ويقول: "إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صبر على ذلك حتى يبلغه الله المنزلة التي سبقت له من الله تعالى".
وبالمرض يدوم العمل الصالح لأن المريض دائم الذكر، والله يقول: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: من الآية152]، ودائم الدعاء والله يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [غافر: من الآية60]، ويقول صلى الله عليه وسلم: " وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة". ويدوم له العمل حال مرضه إذ يكتب الله له ما كان يعمل حال صحته. يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً"، ويقول: "إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله عز وجل: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمله فإن شفاه الله غسله وطهره وإن قبضه غفر له ورحمه".
ومن فوائده: أنه سبب من أسباب دخول الجنة. والجنة غالية فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفيها الرضوان الذي لا سخط بعده. يقول تعالى لأهل الجنة: "اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً".
وطريق الجنة طريق شاق يحتاج إلى المجاهدة والمحاسبة. يقول تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعـات:40-41]. والجنة لا تنال إلا بالمكاره. يقول صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" ولهذا فمن مرض في عينيه وفقدهما فصبر أدخله الله الجنة.
يقول صلى الله عليه وسلم: "يقول الرب: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته الجنة"، وقال صلى الله عليه وسلم للمرأة التي تصرع: "إن شئت صبرت ولك الجنة" قالت: أصبر وأريد الجنة.
ويقول تعالى في الحديث القدسي: "ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة".
وروى أبو هريرة: أن الحمى جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ابعثني إلى آثر أهلك عندك. فبعثها إلى الأنصار فبقيت فيهم ستة أيام ولياليهنَّ، فاشتد ذلك عليهم، فأتاهم في ديارهم، فشكوا ذلك عليه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدخل داراً داراً وبيتاً بيتاً يدعو لهم بالعافية، فتبعته امرأة منهم فقالت: والذي بعثك بالحق إني من الأنصار وإن أبي لمن الأنصار، فادعُ الله لي كما دعوت للأنصار. قال "ما شئت، إن شئت دعوتُ الله أن يعافيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة"، قالت: بل أصبر ولا أجعل الجنة خطراً.
فاعرفوا مكانة الصبر وابتغوا به الأجر. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون اتقوا الله واعلموا أن فوائد المرض كثيرة وثمراته غزيرة...
فمن فوائده: النجاة من النار، فلقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً ومع أبو هريرة وكان يوعك، فقال له: "أبشر فإن الله عز وجل يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرة" وقال: "الحمى حظ كل مؤمن من النار". وفي الحديث: دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أخذتك أم ملدم قط؟" قال: وما أم ملدم؟ قال: "حر يكون بين الجلد واللحم". قال: ما وجدت هذا قط. قال: "فهل أخذك الصداع؟" قال: وما هذا الصداع؟ قال: "عرق يضرب على الإنسان في رأسه". قال: ما وجدت هذا قط. فلما ولى قال: "من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا".
ومن فوائده: تذكير الإنسان بمعصيته، فإن ما أصابه فبما كسبت يده ليقلع عنها ويندم على فعلها ويعزم على عدم العودة إليها، يقول تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: من الآية168]، ويقول تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) [النساء: من الآية123].
ويقول: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام:42]، ويقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30]، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما اختلج عرق ولا عين إلا بذنب، وما يدفع الله عنه أكثر".
ومن فوائده: التذكير بنعم الله تعالى على العبد، نعمة القوة التي فقدها بالمرض، ونعمة النوم الذي كان يقصر به الليل ويقوى به في النهار، ولذة الطعام والشراب، وغيرها. ومما يروى أن الحجاج دعا أعرابياً إلى الطعام فقال: إني صائم. قال له: اليوم حر، وصم يوماً غيره، والطعام لذيذ. قال: والله ما طباخك ولا خبازك الذي جعله لذيذاً، ولكن الصحة التي جعلها الله في بدنك.
ومن فوائده: تطهير القلب من أمراضه، لأن الصحة تدعو إلى الأشر والبطر والكبر والعجب، والمرض يمنعه من ذلك ويدعوه إلى التواضع والشفقة والرحمة.
ومن فوائده: أنه يحمد الله تعالى أن جعله مرض بدن ولم يجعله مرض قلب، فإن أمراض القلوب خطيرة ذمها الله وشهد بكذب أهلها وبين عداوتهم ولعنهم وجعلهم في الدرك الأسفل من النار.
وأمراض القلوب مرضان: مرض شبهة، قال تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ) [البقرة: من الآية10]، ومرض شهوة، يقول تعالى: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) [الأحزاب: من الآية32].
ويجب على المريض أن يرضى بقضاء الله وقدره، فإن الله قد قدر ذلك، ويحسن الظن بالله تعالى ويرجو رحمته ويخشى عقابه، ولا يتمنى الموت لضر نزل به، ويؤدي الحقوق إلى أهلها ولا يبيت بلا وصية مكتوبة، وأن يحتسب ما أصابه، وأن يوقن بثواب الله تعالى، وأن يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وأنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن يعلم أن نعمَ الله عليه كثيرة وما ابتلاه به شيء يسير.
نسأل الله أن يرزقنا الرضا بالقضاء والصبر على البلاء والشكر عند الرخاء.