المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر، والتجبُّر هو التعالي والتعاظم، و(الجَبَّار) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على هذه المعاني الثلاثة جميعًا، وهو اسمٌ ثابت له سبحانه في الكتاب، والسُّنة، ويدل عليه العقل.
ولم يَرِدْ في القرآن إلا في موضعٍ واحد، في آخرِ سورة الحشر؛ قال سبحانه: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ ٱلۡمُهَيۡمِنُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡجَبَّارُ ٱلۡمُتَكَبِّرُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ [الحشر: ٢٣].
(الجَبَّار) صيغة مبالغة من الجَبْرِ، يقال: جبَرْتُ الرجُلَ على الشيء، وأجبَرْتُه إجبارًا: ففعَله مُكرَهًا، فأنا مُجْبِرٌ، وهو مُجبَر، وهو الإكراهُ والقهر، وجبَرْتُ العَظْمَ والفقيرَ جَبْرًا: إذا سوَّيْتَه وعدَلْتَه، فهو خلافُ الكسر؛ وبهذا يتبيَّنُ مقصودُ ابن فارس عندما قال: «(جبر): الجيم والباء والراء: أصل واحد، وهو جنسٌ من العظمة، والعلوِّ، والاستقامة». "المقاييس" (1 /501).
وعلى معنى العظمةِ والعلوِّ قولُه تعالى: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمٗا جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: 22]؛ فإنهم كانوا عِظامًا طِوالًا، والعربُ تقول: نخلةٌ جَبَّارة؛ أي: عظيمةٌ سمينة.
والعظمةُ، والعلوُّ، والقهرُ: صفاتٌ ثابتة مستحَقَّة لله سبحانه، كما لا تكون لشيءٍ دُونَه.
* المعنى الأول: ذكره ابنُ كثير، فقال: «هو المُصلِح أمورَ خَلْقِه، المُصرِّفهم فيما فيه صلاحُهم». "تفسير القرآن العظيم" (4 /343).
* المعنى الثاني: أن (الجَبَّارَ) هو الذي جبَرَ الخَلْقَ على ما أراد من أمرِه ونهيِه؛ وعليه جاء قولُه تعالى في خطاب النبيِّ ﷺ: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٖۖ﴾ [ق: 45].
* المعنى الثالث: أن (الجَبَّار) العالي فوق خَلْقِه. انظر: "شأن الدعاء" للخطابي (ص48).
وهو بالمعنيَينِ الأولِ والثاني: من صفاتِ الفعل التي تَتعدَّى وتتعلق بالمخلوقين، وبالمعنى الثالث: من صفاتِ الذات.
ما دلت عليه اللغةُ يدل على ما اصطُلِح عليه في اسم الله (الجَبَّار)، وهو محتمِلٌ للمعاني الثلاثة.
يدل على إثبات صفة (الجَبْرِ) لله تعالى، سواءٌ كانت صفةً فعلية أو ذاتية؛ كما سبق.
ورَد اسمُ الله تعالى (الجَبَّارُ) في موضعٍ واحد من القرآن الكريم؛ وهو قوله تعالى: ﴿هُوَ اْللَّهُ اْلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اْلْمَلِكُ اْلْقُدُّوسُ اْلسَّلَٰمُ اْلْمُؤْمِنُ اْلْمُهَيْمِنُ اْلْعَزِيزُ اْلْجَبَّارُ اْلْمُتَكَبِّرُۚ سُبْحَٰنَ اْللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: 23].
* حديثُ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه في قبضِ الأرض يوم القيامة، قال النبيُّ ﷺ: «تكونُ الأرضُ يومَ القيامةِ خُبْزةً واحدةً، يَتكفَؤُّها الجَبَّارُ بيدِه كما يَكفَأُ أحدُكم خُبْزتَه في السَّفَرِ؛ نُزُلًا لأهلِ الجَنَّةِ». أخرجه البخاري (6520).
* حديثُ عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنه، قال: «رأيتُ رسولَ اللهِ ﷺ على المِنبَرِ وهو يقولُ: «يأخذُ الجَبَّارُ عز وجل سمواتِهِ وأرَضِيهِ بيدَيهِ»». أخرجه مسلم (2788).
* حديثُ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه في الرُّؤْيةِ: «... قال: فيأتيهم الجَبَّارُ في صورةٍ غيرِ صورتِه التي رأَوْهُ فيها أوَّلَ مرَّةٍ…». أخرجه البخاري (7439).
* وجاء ذكرُ الصفة التي يدل عليها اسمُ (الجَبَّار) في حديثِ عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: «قُمْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ليلةً، فلمَّا ركَعَ مكَثَ قَدْرَ سورةِ البقرةِ يقولُ في ركوعِه: «سبحانه ذي الجَبُروتِ، والملكوتِ، والكِبْرياءِ، والعظمةِ»». أخرجه أبو داود (873)، والنسائي (1049) واللفظ له.
* مَن آمَن بالله (جَبَّارًا)، حصَل له تعظيمُ الله عز وجل، والتوكُّل عليه، والتسليم له؛ لأنه يَعلَم أنه لا يحصُلُ في كونه إلا ما يريد؛ فالوجودُ كلُّه مقهور مغلوب بأمرِ الله وإرادته، فيطلُبُ العبدُ حينئذٍ الهدايةَ والتوفيق والسَّداد من ربِّه، ويعتمد عليه في تحصيل مطلوبه؛ لأنه المتفرِّدُ بتصريف الأمور، ولأنه أيضًا أَوْلى مَن يُلتجأ إليه، وأحرى مَن يُفزَع إليه لجَبْرِ الكسر، والفقر.
* الإيمانُ بهذا الاسم يمنح العبدَ التواضعَ لله، وعدمَ التكبُّر والتجبُّر على الخَلق؛ لأنه يَعلَم أن اللهَ فوقه جبَّارٌ ومنتقِم.
* الخوفُ من الله عز وجل، وسقوطُ الخوف من الخلائق الضِّعاف المقهورين.
ومِن مظاهرِ جَبْرِ الله في خَلْقِه: أنه أودَع في أجسام الكائنات الحية القدرةَ على جَبْرِ نفسها بنفسها، وترميمِ خلاياها ذاتيًّا، فسبحانه!
وأما جَبْرُه بمعنى قهرِه سبحانه، فمِن مظاهره: أنه يَقهَر المتجبِّرين المتكبِّرين على خَلْقِه، ويَغلِبهم، ويَكسِر شوكتهم، ويرُدُّ كيدَهم في نحورهم، فيُخلِّص الناسَ من شرورهم؛ وهذا من رحمةِ الله بعباده.
«(الجَبَّار): هو العظيم، وجَبُروتُ الله: عظَمتُه».
ابن عبَّاس "معالم التنزيل" للبغوي (5 /220).
وَكَذَلِكَ الجَبَّارُ مِنْ أَوْصَافِهِ
وَالجَبْرُ فِي أَوْصَافِهِ نَوْعَانِ جَبْرُ الضَّعِيفِ وَكُلِّ قَلْبٍ قَدْ غَدَا
ذَا كَسْرَةٍ فَالجَبْرُ مِنْهُ دَانِ وَالثَّانِ جَبْرُ القَهْرِ بِالعِزِّ الَّذِي
لَا يَنْبَغِي لِسِوَاهُ مِنْ إِنْسَانِ وَلَهُ مُسَمًّى ثَالِثٌ وَهْوَ الْعُلُوْ
وُ فَلَيْسَ يَدْنُو مِنْهُ مِنْ إِنْسَانِ مِنْ قَوْلِهِمْ جَبَّارَةٌ لِلنَّخْلَةِ الْــ
ـعُلْيَا الَّتِي فَاتَتْ لِكُلِّ بَنَانِ
ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة "النونية" (3 /726).
«أما حظُّ العبدِ من هذا الاسم، فقال الغزاليُّ: (الجَبَّار) مِن العباد: مَن ارتفَع عن درجة الارتفاع، ووصَل إلى مقام الاستتباع، ومِن علامته: أنه لا يَصِير أسيرًا بحبِّ المال والجاه؛ لأن كلَّ مَن كان كذلك كان منقادًا بحبِّ المال والجاه، مِكْثارًا منهما، أما مَن قَوِيتْ نفسُه، وأشرقت رُوحُه، وعظُمتْ همَّتُه، وصار بالنسبة إلى ما سِوى الحقِّ جبَّارًا: لا جرَمَ لم يلتفِتْ في دُنْياه وعُقْباه إلى ما سِوى الله تعالى؛ كما قال تعالى في صفةِ مُحمَّد ﷺ: ﴿مَا زَاغَ اْلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ﴾ [النجم: 17]».
الفَخْر الرَّازِي "لوامع البينات" (ص151).
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".