البحث

عبارات مقترحة:

الحفيظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...

الباسط

كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...

الحميد

(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...

تأملات في آيات الربا في كتاب الله

العربية

المؤلف عبد الله بن محمد البصري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. تحذير القرآن الكريم من الربا .
  2. الكلام على آيات الربا في سورة البقرة .
  3. تدبر آيات الربا في سورة آل عمران .
  4. شرح آيات الربا في سورة النساء .
  5. آية الربا في سورة الروم .
  6. ذم الربا .

اقتباس

لقد آن للأمة -وهي ترى ما آلت إليه أحوال المرابين وما انتهت إليه أموالهم- أن تتوب إلى الله وتذر ما بقي من الربا؛ طلبًا لما عنده تعالى من الأجر والثواب، وخوفًا مما أعده للمرابين من الإثم والعقاب. وقد شنّ القرآن على الربا وآكليه حملةً شنيعةً وهددهم وتوعدهم، ثم أرشد الأمة إلى المنهج الاقتصادي الصحيح الصريح، تعويضًا لها عن هذا الوجه الكالح من وجوه الجاهلية الجهلاء، وتنزيهًا لها عن ذلك الخلق من أخلاقها العمياء ..

أما بعد:

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ) [الأنفال :29].

أيها المسلمون: لقد آن للأمة -وهي ترى ما آلت إليه أحوال المرابين وما انتهت إليه أموالهم- أن تتوب إلى الله وتذر ما بقي من الربا؛ طلبًا لما عنده تعالى من الأجر والثواب، وخوفًا مما أعده للمرابين من الإثم والعقاب.

وقد شنّ القرآن على الربا وآكليه حملةً شنيعةً وهددهم وتوعدهم، ثم أرشد الأمة إلى المنهج الاقتصادي الصحيح الصريح، تعويضًا لها عن هذا الوجه الكالح من وجوه الجاهلية الجهلاء، وتنزيهًا لها عن ذلك الخلق من أخلاقها العمياء، حيث أبدلها وجهًا حسنًا مشرقًا يتمثل في الزكوات والصدقات والإنفاق في سبيله والإعطاء لوجهه.

وأول ما يواجه القارئ لكتاب الله من حرب الربا قوله سبحانه في سورة البقرة: (الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمرُهُ إِلى اللهِ وَمَن عَادَ فَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ * يمحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُربي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ * فَإِن لم تَفعَلُوا فَأذَنُوا بِحَربٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أَموَالِكُم لاَ تَظلِمُونَ وَلاَ تُظلَمُونَ) [البقرة: 275-279].

تبدأ الآيات بتصوير المرابين بصورة مرعبة مخيفة، صورة تفزع من رآها وتروعه، وتهز فؤاده وتخلعه، إنها صورة المصروع من مس الجن، يضطرب ويتخبط على غير هدًى، ويتمرغ ويهذي ويهرف، وقد مضى عامة المفسرين على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة هو القيام من القبور يوم النشور، ولكن هذه الصورة -والعلم عند الله- واقعة قبل ذلك في حياة المرابين وقبل مماتهم ونشورهم، إذ تراهم وهم يسعون لتحصيل المال من أي وجه وجمعه بأية طريقة، تراهم كالمجانين أو هم أشد، واذهب إليهم في صالات الأسهم تر العجب مما يصيبهم من هلع وتوتر وقلق، يعقبه ارتفاع في ضغط الدم وتذبذب في مستوى السكر، ثم إغماء وغياب عن الواقع، يصل ببعضهم إلى أن ينقلوا إلى المستشفيات مرضى معلولين، أو إلى المقابر موتى مودعين، كل ذلك همًّا وكمدًا إذا نزل المؤشر نقاطًا معدودةً أو هبطت قيمة الأسهم عدة ريالات.

ولأن المرابين لا يهمهم إلا ما يربحونه لأنفسهم ويحوزونه في جيوبهم فقد اعترضوا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تحريم الربا، وقالوا: (إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا)[البقرة:275]، فكما أن البيع يحقق فائدةً ويجلب ربحًا فالربا في نظرهم يحقق فائدةً وربحًا، وهي شبهة ضعيفة وحجة واهية واستدلال فاسد؛ إذ إن عمليات البيع قابلة للربح وللخسارة تبعًا لمهارة الشخص وجهده الذاتي وأحوال الحياة، أما العمليات الربوية فالربح فيها مضمون ومحدد على أية حال، وهذا هو السبب الرئيس لتحريم الربا، حيث يربح طرف ربحًا محققًا على حساب خسارة الآخر وغبنه غبنًا فاحشًا، ومن ثم فقد أحل الله البيع وحرم الربا، وعرض على المرابين التوبة في قوله: (فَمَن جَاءَهُ مَوعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمرُهُ إِلى اللهِ) [البقرة:275]، فمن تاب وانتهى فلا يسترد منه ما سلف أن أخذه من الربا، وأمره إلى الله يحكم فيه بما يريده، ثم هدّد سبحانه بالنار من لم يتب وعاد إلى الربا مرةً بعد أخرى فقال: (وَمَن عَادَ فَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة:275] ، ولأن كثيرين قد يطول عليهم الأمد فتقسو قلوبهم وينسون الآخرة فقد أنذروا بالمحق في الدنيا والآخرة جميعًا.

وقرر القرآن لهم أن الصدقات هي التي تربو وتزكو، ثم وصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم، ولوّح لهم بكره الله للكفرة الآثمين، فقال: (يمحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُربي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)[البقرة: 276]، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً؟! فها نحن نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو يدوم له رخاء أو تستمر سعادته أو ينتشر أمنه، فها هو عالم الغرب ومن سار على نهجه يصحو وينام على حروب قائمة وأخرى منتظرة، وتثقل الحياة على الناس فيه يومًا بعد يوم، ولا يبارك لهم في مال ولا في صحة. وفي المقابل نجد أنه ما من مجتمع قام على التكافل والتعاون الممثلين في الزكوات والصدقات إلا سادته روح المودة والمحبة، وانتشر فيه الرضا والطمأنينة، وبارك الله لأهله في أموالهم ووسع أرزاقهم، وأدام أمنهم وأتم صحتهم، وزاد قوتهم وأراح نفوسهم.

وقوله تعالى في آخر الآية التي نهى فيها عن الربا: (وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) دلالة على أن من أصرّ على التعامل الربوي بعد تحريمه فقد اختار عمل الكفار الآثمين ولو شهد بلسانه أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فالإسلام ليس كلمةً باللسان، وإنما هو نظام حياة ومنهج عمل، وإنكار جزء منه كإنكار كله، وليس في حرمة الربا شك أو شبهة، ولا في اعتباره حلالاً وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم.

وبعد هذه الآيات المبينة لعظيم إثم المرابين وعظم التهديد للمتخذين للربا منهجًا ونظامًا يعرض القرآن صفحة الإيمان والعمل الصالح، ويبين خصائص الجماعة المؤمنة في هذا الجانب، ويعرض القاعدة التي يسير عليها المجتمع المؤمن، فيقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ) [البقرة :277]، والعنصر البارز في هذه الصفحة هو عنصر الزكاة، عنصر البذل بلا عوض والعطاء بلا انتظار ثمن، والذي من ثمراته الأمن والطمأنينة ورضا الله ورحمته لهذا المجتمع.

وفي ظل هذا الرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة التي تنبذ الربا من حياتها وتقيمها على الإيمان والعمل الصالح والعبادة والزكاة، يهتف القرآن بالذين آمنوا الهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت الظالم، وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله بلا هوادة ولا إمهال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ * فَإِن لم تَفعَلُوا فَأذَنُوا بِحَربٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُؤُوسُ أَموَالِكُم لاَ تَظلِمُونَ وَلاَ تُظلَمُونَ) [البقرة :279]. إنه تعليق لإيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا، فهم ليسوا بمؤمنين حقًّا إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا.

وفي الأمر بالتقوى قبل النهي عن الربا بيان أنه ما لم يقم في القلب من تقوى الله سلطان يحرسه ويمنعه من معصية الله فلن تغني عنه أنواع الترهيب الدنيوية شيئًا، ولن يردعه عقاب أو قانون.

أيها المسلمون: ولعل المتدبر في أواخر سورة البقرة يلحظ الجمع بين الحديث عن الربا والحديث عن الصدقة بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي، وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم: النظام الربوي الفردي الرأسمالي، والنظام التعاوني الجماعي الإسلامي، وهذا ما يجده المتدبر لكتاب ربه أيضًا في آيات سورة آل عمران، حيث جمع الحديث عن الربا وعن الإنفاق في السراء والضراء في آيات متتابعة، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأكُلُوا الرِّبَا أَضعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ) [آل عمران: 131-134].

فبعد النهي عن أكل الربا والدعوة إلى التقوى رجاء الرحمة والفلاح، وبعد التحذير من النار التي أعدت للكافرين، يجيء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة وإلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، ثم يكون الوصف الأول لأولئك المتقين هو (الَّذِينَ يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)[ال عمران:134]، فهم الفريق المقابل للذين يأكلون الربا أضعافًا مضاعفةً، إنهم الذين ينفقون في السراء والضراء، لا تبطرهم السراء فتطغيهم، ولا تضجرهم الضراء فتنسيهم، ولكنهم قائمون بالواجب في كل حال، ثابتون على البذل والعطاء في كل وقت، متحررون من الشح والبخل والحرص، مراقبون لله متقون له.

أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله واتقاء النار التي أعدت للكافرين فمفهومه أنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين، وأنه لا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله ويريد أن يعزل نفسه من صفات الكافرين، ويفهم منه أنه من المحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان، وأنه حيثما قام النظام الربوي فثمة الخروج من دائرة الإيمان، وهناك النار التي أعدت للكافرين، وهناك الشقاء والنكد وعدم الفلاح، وأنه حيث نظف المجتمع من الربا وترك المؤمنون التعامل به تقوى لله وطاعةً له وجد الفلاح والصلاح.

ثم يجيء التوكيد الأخير: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ)[ال عمران:132]، وهو أمر عام بطاعة الله ورسوله، وتعليق للرحمة بهذه الطاعة العامة، ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالةً خاصةً، وهي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي، ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا، وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيدًا بعد توكيد.

أيها المسلمون: وفي موضع آخر من كتاب الله وفي سورة النساء نجد للربا ذكرًا في صفات اليهود التي استحقوا بها اللعن والطرد من رحمة الله وحرمانهم من الطيبات والحلال، قال سبحانه: (فَبِظُلمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيهِم طَيِّبَاتٍ أُحِلَّت لَهُم وَبِصَدِّهِم عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخذِهِمُ الرِّبَا وَقَد نُهُوا عَنهُ وَأَكلِهِم أَموَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَأَعتَدنَا لِلكَافِرِينَ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 160، 161]. أوليس في ذلك عبرة لمن حرم البركة في الرزق؟! أوليس في ذلك عبرة لمجتمعات منعت بركات السماء والأرض؟! أوليس في ذلك عبرة لمن غلت عليهم الأسعار وشحت عنهم الأمطار؟! بلى إنه لكذلك، وليس بين الله وبين أحد من خلقه عهد أن لا يعذبه إذا عصاه أو يعاقبه إذا خالف أمره وانتهك حرماته، لكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

أيها المسلمون: وفي آيات من سورة الروم يوجه الرب -جل وعلا- أصحاب المال إلى خير الطرق للتنمية والفلاح، وهي إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل والإنفاق بصفة عامة في سبيل الله، وقد كان بعضهم كما هي الحال اليوم يحاول تنمية ماله بإهداء الهدايا إلى الموسرين من الناس كي ترد عليه الهدية منهم مضاعفةً، فبين لهم أن هذا ليس هو الطريق الصحيح للنماء الحقيقي، قال سبحانه: (وَمَا آتَيتُم مِن رِبًا لِيَربُوَ في أَموَالِ النَّاسِ فَلا يَربُو عِندَ اللهِ وَمَا آتَيتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضعِفُونَ) [الروم: 39]. هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال، إعطاؤه لوجه الله بلا تحر لمقابل من الخلق الفقراء الضعفاء، وبذله رجاء ما عند الله بلا انتظار لرد ولا عوض من الناس، فالله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يضاعف للمنفقين ابتغاء وجهه، وينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس.

أيها المسلمون: إن الربا نظام مالي يهودي ظالم متعسف، نصّ القرآن على تحريمه وأعلن الحرب على أهله، وجاء فيه وفي السنة تقبيحه والتنفير منه، وثبت بالواقع فشله ووخيم أضراره على الأفراد والشعوب والأمم، فاتقوا الله وذروا الربا، فإن الله سبحانه -وهو خالق هذا الكون وخالق الإنسان ومالك كل شيء- حين استخلف الإنسان في هذه الأرض ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات وقوًى وطاقات لم يترك له ذلك فوضى يصنع فيه ما يشاء كيف شاء، وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة والرسوم البينة، فإن هو سار على وفق ما أمر به ووقف عند حدود ما نهي عنه كان فعله صحيحًا نافذًا، وإن هو خالف ففعله باطل مردود، فإن هو عصى ربه وأنفذ ما تشتهيه نفسه فإنما ذلك منه ظلم واعتداء لا يرضاه الله ولا يقره المؤمنون.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا ممَّا في الأَرضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ).

الخطبة الثانية:

أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى: (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ).

أيها المسلمون: لقد كلّف الله عباده بالعمل، وندبهم إلى السعي وطلب الرزق، كل على حسب طاقته واستعداده وفيما يسّره له، ثم جعل سبحانه الزكاة فريضةً في المال محددةً، ودعا إلى الصدقة وأثاب عليها، وأمر بالقصد والاعتدال، ونهى عن السرف والشطط، وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها أذًى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد، أما الربا فهو نظام يقوم على تصوُّر لا نظر فيه لله طرفة عين، ومن ثم فلا رعاية فيه للمبادئ والغايات والأخلاق التي يريد الله أن تقوم عليها الحياة، إنه يقوم على أساس أن الإنسان هو سيد هذه الأرض، وأنه حر في وسائل حصوله على المال وفي طرق تنميته، حر في التصرف فيه والتمتع به، وهو غير ملزم باتباع أوامر ربه ولا مقيد بمصلحة الآخرين، ومن ثم فلا اعتبار لديه لأن يخسر الناس أو يسحقوا إذا هو أضاف إلى رصيده ما يستطيع إضافته، ولذا فهو يضرم على جمع المال ويحتدم، ويدوس في سبيل التمتع به كل مبدأ ويتجاهل كل خلق حسن.

وعلى هذا فالربا يُنشئ في النهاية نظامًا يسحق البشرية سحقًا ويدوس ما لها من كرامة، ويشقيها في حياتها أفرادًا وجماعات ودولاً وشعوبًا، فالحذر الحذر الحذر، وهلم جميعًا إلى حياة الإيمان والتقوى والورع، هلم إلى الرزق الحلال في عفاف وقناعة، فقد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه، هيا إلى حياة التراحم والتكافل والعطاء، فإنما يرحم الله من عباده الرحماء، ولا يغرنكم أن أخذت مؤشرات الأسواق في الارتفاع في اليومين الماضيين، واتركوا الأمر لله، يعوضكم الله خيرًا مما أخذ منكم ويبارك لكم فيما بقي من أموالكم، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَيَقدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فَهُوَ يُخلِفُهُ وَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ).