كتيب ينبه على عدم التوسع في فضول المباحات، وعدم الإنغماس فيها، مع بيان بعض مظاهر الفضول وأسبابه.
التفاصيل
الفضول مقدمة فضول الكلام أولاً: ما ورد في الحث على حفظ اللسان من فضول الكلام: ثانيًا: نماذج من حرص السلف على حفظ ألسنتهم من فضول الكلام ومحاسبتهم لها: ثالثًا: آثار فضول الكلام: رابعًا: مظاهر وأسباب فضول الكلام: خامسًا: علاج فضول الكلام: فضول النظر من علاج فضول النظر: فضول الطعام نماذج من حرص السلف على ترك فضول الطعام وإعطاء النفس كل ما تشتهيه آثار فضول الطعام: فوائد عدم الشبع: ضوابط الأكل وطريقة كسر شهوة البطن: فضول النوم فضول المخالطة فضول اللباس الفضولقبل البدءقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: «لو كان المؤمن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه، لعدم الواعظون وقل المذكرون، ولما وجد من يدعو إلى الله عز وجل ويرغب في طاعته وينهى عن معصيته، ولكن في اجتماع أهل البصائر ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضًا حياة لقلوب المتقين وادكارًا من الغفلة وأمان من النسيان»([1]). * * * مقدمةالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.هذه الرسالة .. لمن؟ ليست لكل الناس بل هي لخيارهم .. لأولئك الصالحين من أمة محمد ﷺ الذين يجاهدون أنفسهم لإصلاحها والارتقاء بها ومعالجة أمراضها، ويحملون هم الإسلام والدعوة إليه وتحبيب الناس فيه. ما الداعي لها؟ الدنيا وزينتها، وتعدد شهواتها وملذاتها، وكثرة المنغمسين فيها قد تشغل بعض الصالحين فيغفل عن نفسه وهدفه، فيتوسع في فضول المباحات؛ كفضول الكلام والمخالطة والطعام التي قد تؤخر سيره إلى الدار الآخرة، بل قد تجره إلى ما يعوق مسيرته. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: «إياكم وما شغل من الدنيا؛ فإن الدنيا كثيرة الاشتغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب» ([2]). وقال ابن الجوزي رحمه الله: «واعلم أن فتح باب المباحات ربما جر أذىً كثيرًا في الدين؛ فأوثق السكر قبل فتح الماء، والبس الدرع قبل لقاء الحرب، وتلمح عواقب ما تجني قبل تحريك اليد، واستظهر في الحذر باجتناب ما يُخاف منه وإن لم يُتيقن» ([3]). وقد قيل: وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت ([4]) وقال آخر: إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل ([5]) ما هدفها؟ التنبيه على ستة أمور:1- التوسع في فضول المباحات بريد المعاصي، وحسبك بهذا شرًا للتوقي منها؛ قال ابن القيم – رحمه الله – في معرض كلامه عن الحروز من الشيطان: «إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس؛ فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة» ([6]). وسيأتي ذكر ذلك مفصلاً مع كل نوع من أنواع الفضول. 2- معالجة ما يشكو منه بعض الصالحين من قسوة في القلب وقحط في العين أقضت مضاجعهم وآلمت أنفسهم؛ حيث قال ابن القيم رحمه الله: «قسوة القلب في أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل والنوم والكلام والمخالطة» ([7]). وقال أيضًا رحمه الله: «كل ذي لب يعلم أنه لا طريق للشيطان عليه إلا من ثلاث جهات – وذكر إحداها – التزيد والإسراف؛ فيزيد على قدر الحاجة فتصير فضلة؛ وهي حظ الشيطان ومدخله إلى القلب. وطريق الخلاص منه الاحتراز من إعطاء النفس مطلوبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة. فمتى أغلقت هذا الباب حصل الأمان من دخول العدو منه»([8]).3- الانغماس في فضول المباحات يفوت على المؤمن بلوغ درجة الورع الذي هو أعظم الدين كما قالت عائشة رضي الله عنها: «إن الناس قد ضيعوا أعظم دينهم: الورع» ([9]). كما أن ذلك أيضًا ينزل العبد من مقام المتقين؛ حيث قال الرسول ﷺ: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به البأس»([10]). 4- الانغماس في فضول المباحات خلاف سيرة الرسول ﷺ وصحابته الكرام وسلف الأمة الكبار؛ قالت حفصة أم المؤمنين لأبيها عمر رضي الله عنهما: « يا أمير المؤمنين، لو لبست ثوبًا هو ألين من ثوبك، وأكلت طعامًا هو أطيب من طعامك؛ فقد وسع الله عز وجل من الرزق وأكثر من الخير. قال: إني سأخصمك إلى نفسك؛ أما تذكرين ما كان رسول الله ﷺ يلقى من شدة العيش؟ فما زال يذكرها حتى أبكاها، فقال لها: إن قلت لك ذاك إني والله لئن استطعت لأشاركنهما بمثل عيشهما الشديد لعلي أدرك معهما عيشهما الرخي»([11]). 5- الإكثار من فضول المباحات ينافي الهمة العالية التي هي دأب الصالحين ، والتي ترقى بهم إلى معالي الأمور وترفعهم عن سفاسفها؛ قال ابن القيم رحمه الله: «قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطًا في النجاة» ([12]). 6- الصالحون في المجتمع هم قدوته، ولذلك فهم تحت المجهر.. فسلوكهم وأقوالهم وأفعالهم اليومية تؤثر تأثيرًا بالغًا – إيجابًا أو سلبًا – في الناس من حولهم .. لذا ينبغي من الأخيار مراعاة ذلك؛ فقد كان السلف رحمهم الله يولون هذا الجانب اهتمامهم. * عاتب رجل من الخوارج عليًا رضي الله عنه في لبوسه فقال: ما يمنعك أن تلبس؟ قال: ما لك ولبوسي؟ إن لبوسي هذا أبعد من الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم ([13]). * وقال ابن الجوزي: «وإذا رأى العوام أحد العلماء مترخصًا في مباح هان عندهم؛ فقد قال بعض السلف: كنا نمزح ونضحك فإذا صرنا يقتدى بنا فما أراه يسعنا ذلك. ثم قال رحمه الله: فمراعاة الناس لا ينبغي أن تنكر، ولا تسمع من جاهل يرى مثل هذه الأشياء رياء، إنما هذه صيانة للعلم» ([14]). * ورأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه على طلحة ثوبًا مصبوغًا قال: ما هذا؟ قال: إنما هو مدر - أي مصبوغ بالمدر وهو الطين المتماسك – فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس، وإن جاهلاً لو رأى هذا لقال على طلحة ثوب مصبوغ، فلا يلبس أحد منكم من هذه الثياب شيئًا إنه محرم ([15]). بل إنه بمجرد طلب العلم تبدأ أحوال الرجل تتغير كما قال الحسن البصري رحمه الله: «قد كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى في تخشعه وهديه، وفي لسانه وبصره وبره» ([16]). وأخيرًا.. فبالإضافة إلى الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على الموضوع فقد أكثرت من إيراد أقوال السلف وأفعالهم – وهم أعلم وأكثر عملاً منا بدين الله تعالى وبالطريق الموصل لربهم – حتى جاوزت المائة وثلاثين نقلاً في هذه الرسالة الصغيرة ليُعلم أن ترك الفضول كان أمرًا شائعًا بينهم، وأنه هو سمتهم وهديهم. أسأل الله تعالى بفضله وكرمه الذي لا ينقطع أن ينفع عباده بهذه الرسالة، وأن لا يحرم كاتبها أجرها، وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم. * * *منصور بن محمد المقرنالرياض محرم 1423ﻫ[email protected]–islam.comالرياض 11475 ص. ب 31058 فضول الكلاموهو أكثر أنواع الفضول شيوعًا وانتشارًا وأعظمها تأثيرًا ولا يسلم منه إلا القليل. أولاً: ما ورد في الحث على حفظ اللسان من فضول الكلام: * قال الله تعالى: }مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ{ [ق: 18]. قال ابن كثير رحمه الله: قال ابن عباس: «يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت». ثم قال ابن كثير: «وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه فبلغه عن طاوس أنه قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين. فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله» ([17]). فيا لله؛ يتحرز من أنين المرض الذي دفع إليه الألم فكيف لا نتحرز من ألفاظ لا يدفعنا إليها إلا التبسط والتفكه؟ * قال الله تعالى: }لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ{ [النساء: 114]. قال الشيخ السعدي رحمه الله: «أي لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون. وإذا لم يكن فيه خير، فإما ما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه» ([18]). * عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» ([19]). قال ابن حجر رحمه الله: «وهذا من جوامع الكلم؛ لأن القول كله إما خير وإما شر وإما آيل إلى أحدهما، فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه. وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر فأمر عند إرادة الخوض لزوم الصمت» ([20]). وقال النووي رحمه الله: «إذا أراد [أحد] أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرًا محققًا يثاب عليه – واجبًا أو مندوبًا – فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام، سواء ظهر أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوى الطرفين. فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه مندوبًا إلى الإمساك عنه مخافة من انجراره إلى المحرم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا» ([21]). * وعن أبي ثعلبة قال: قال الرسول ﷺ: «إن أبغضكم إلى وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقًا، الثرثارون المتشدقون المتفيقهون»([22])؛ والثرثار هو الكثير الكلام. وقد كان الرؤوف بأمته الرحيم ﷺ يخاف على أمته من شر اللسان ويحذرهم من ذلك؛ فقد سأله سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله تعالى عنه فقال: «يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال: قل ربي الله ثم استقم. قلت يا رسول الله: ما أخوف ما تخاف على؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا» ([23]). بل كان ﷺ وهو الذي لا ينطق عن الهوى يسأل ربه ويدعوه أن لا يتكلم إلا بحق؛ فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي ﷺ يدعو؛ ثم ذكر دعاءه إلى قوله: «رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي» ([24]). قال في عون المعبود: «سدد لساني: أي صوب وقوم حتى لا ينطق إلا بالصدق، ولا يتكلم إلا بالحق» ([25]). * تأمل – يا رعاك الله- الحديث التالي وقلب فكرك في أعظم أبواب الخير التي أرشدك إليها رسول الله ﷺ واحدًا تلو الآخر، ثم يذكر بعد ذلك رأسٍها وعمودها، ثم يبين في آخر الحديث – وهو الصادق النصيحة لأمته – أمرًا واحدًا فقط ييسر للمسلم دخول تلك الأبواب كلها والفوز بأعظم الأجر والثواب من جراء فعلها: قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: «كنت مع النبي ﷺ في سفر فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: لقد سألت عظيمًا، وإنه ليسير على من يسره الله عليه؛ تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ النار الماء، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم قرأ: }تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ{ [السجدة: 16] حتى بلغ }جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [السجدة: 17]. ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى. فأخذ بلسانه فقال: تكف عليك هذا. قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم»([26]). * قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «رحم الله امرأ أمسك فضل القول وقدم فضل العمل»([27])؛ ولو تأمل أحد أحوالنا لوجدها العكس تمامًا إلا من رحم الله. * قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إياكم وفضول الكلام، حسب امرئ ما بلغ حاجته»([28]). * وقال رضي الله عنه لابنه: «يا بني؛ ليسعك بيتك، وأملك عليك لسانك، وابك على ذكر خطيئتك» ([29]). * وقال أيضًا: «والذي لا إله إلا هو ما على ظهر الأرض شيء أحق بطول سجن من لسان»([30]). * قال أبو الدرداء رضي الله عنه: «أنصف أذنيك من فيك؛ فإنما جعلت لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم به»([31]). * كان مالك بن أنس يعيب كثرة الكلام ويقول: «لا يوجد إلا في النساء والضعفاء»([32])؛ فتأمل! * قال عطاء: «كانوا – أي السلف – يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله أن تقرأه، أو أمرًا بالمعروف، أو نهيًا عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك بما لا بد لك منه»([33]). * قال القاسم بن محمد رحمه الله: «أدركت الناس وما يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل» ([34]). * قال الحكماء: «إذا تم العقل نقص الكلام» ([35])؛ وهذا يعني أنه متى ما زاد الكلام عن حده حصل للعقل العكس. * قال سفيان الثوري رحمه الله: «أول العبادة الصمت، ثم طلب العلم، ثم العمل به، ثم حفظه، ثم نشره» ([36])؛ فتدبر أخي طالب العلم ذلك لتصل إلى مبتغاك. * قال أبو حاتم محمد بن حبان رحمه الله: «الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم؛ فما أكثر من ندم إذا نطق وأقل من يندم إذا سكت. وأطول الناس شقاء وأعظمهم بلاء من ابتلي بلسان مطلق وفؤاد مطبق» ([37]). إن كان يعجبك السكوت فإنه قد كان يعجب قبلك الأخيارا ولئن ندمت على سكوت مرة فلقد ندمت على الكلام مرارًا ([38]) * وقال أبو حاتم ابن حبان رحمه الله: «وإن من أعظم الخلل المفسد لصحة السرائر والمذهب لصلاح الضمائر: الإكثار من الكلام وإن أبيح له كثرة النطق. ولا سبيل للمرء إلى رعاية الصمت إلا بترك ما أبيح له من النطق»([39]). * قال أبو الذيال رحمه الله: «تعلم الصمت كما تتعلم الكلام؛ فإن يكن الكلام يهديك فإن الصمت يقيك، ولك في الصمت خصلتان: خصلة تأخذ بها علم من هو أعلم منك وتدفع بها جهل من هو أجهل منك» ([40]). ما ذل ذو صمت وما من مكثر إلا يزل وما يعاب صموت إن كان منطق ناطق من فضة فالصمت در زانه الياقوت([41]) * * * ثانيًا: نماذج من حرص السلف على حفظ ألسنتهم من فضول الكلام ومحاسبتهم لها: * عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: «رأيت أبا بكر رضي الله عنه أخذًا بلسانه يقول هذا أوردني الموارد» ([42])، فتأمل رحمك الله ما عسى لسان صديق أمة الإسلام أن يقول، وفي أي شيء ينطق.. لكنها محاسبة النفس التي ألزم بها السلف أنفسهم فأوصلتهم إلى تلك المقامات العلى. * رأى رجل ابن العباس رضي الله عنه آخذًا بطرف لسانه وهو يقول: ويحك قل خيرًا تغنم أو اسكت عن شر تسلم. قال: فقال له رجل: يا ابن عباس ما لي أراك آخذًا بطرف لسانك تقول كذا وكذا؟ قال بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه ([43]). * الربيع بن خيثم رحمه الله – الذي قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: والله لو رآك رسول الله ﷺ لأحبك – جاءته ابنته وعنده أصحابه فقالت يا أبتاه، أذهب ألعب؟ فقال: لا فقال القوم: يا أبا يزيد ائذن لها تلعب. قال يوجد ذلك في صحيفتي أني قلت لها اذهبي العبي ، ولكن اذهبي فقولي خيرًا أو افعلي خيرًا ([44]). * قال إبراهيم التيمي: «حدثني من صحب الربيع بن خيثم عشرين سنة قال: فما سمعت منه كلمة تعاب »([45]). * قال مخلد بن الحسين رحمه الله: «ما تكلمت منذ خمسين سنة بكلمة أريد أن أعتذر منها» ([46]). * قال الحسن البصري رحمه الله: «لقد أدركت أقوامًا إن كان الرجل منهم ليجلس مع القوم فيرونه عييًا – أي من طول صمته – وما به عي، إنه لفقيه مسلم» ([47]). * قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة» ([48]). * * * ثالثًا: آثار فضول الكلام: * الضرر في الدين والوقوع في المعاصي: قال ابن القيم رحمه الله: «وأما فضول الكلام فإنه يفتح على العبد أبوابًا من الشر كلها مداخل للشيطان؛ فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها، وكم من حرب جرتها كلمة واحدة، وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر؛ وهما أوسع مداخل الشيطان، فإنهما جارحتان لا يملان ولا يسأمان» ([49]). * قال الأوزاعي رحمه الله: «ما بلي أحد في دينه ببلاء أضر عليه من طلاقة لسانه» ([50]). * وقال مالك بن أنس رحمه الله: «كل شيء ينتفع بفضله – أي بزيادته – إلا الكلام؛ فإن فضله يضر» ([51]). * وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: «إنما أهلك الناس فضول الكلام وفضول المال» ([52]). * ابن أبي الأشهب رحمه الله: «كانوا يقولون: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه» ([53]). قسوة القلب: قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «شيئان يقسيان القلب: كثرة الكلام وكثرة الأكل» ([54]). * قلة الورع وموت القلب: * قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للأحنف بن قيس: «يا أحنف؛ من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه» ([55]). * الوقوع في المباهاة: * قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إني لأدع كثيرًا من الكلام مخافة المباهاة» ([56]). * نزول المرتبة عن الناس: * قال سعيد للحكم: «ما لك لا تكتب عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام» ([57]). * تكلم رجل عند معاوية رضي الله عنه فهذر، فلما أطال قال: أأسكت يا أمير المؤمنين؟ قال: وهل تكلمت؟ ([58]). * علامة على الحمق: * قال ابن حبان رحمه الله: «وإن من أعظم أمارات الحمق في الأحمق لسانه؛ فإنه يكون قلبه في طرف لسانه، ما خطر على قلبه نطق به لسانه» ([59]). وقال أيضًا: « لا يجترئ على كثرة الكلام إلا فائق أو مائق»([60]). والفائق هو العليم المتفوق فيما يتحدث، والمائق الأحمق السفيه. * * * رابعًا: مظاهر وأسباب فضول الكلام: أ- الحديث بما لا يعني: * قال الرسول ﷺ: «إن من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه» وهذا الحديث أصل في هذا الموضوع. قال ابن رجب فيه: «ومعنى هذا الحديث أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول أو فعل واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى يعنيه أنه تتعلق عنايته به ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية شدة الاهتمام بالشيء؛ يقال: عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه، وليس المراد أنه ترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام؛ ولهذا جعله من حسن الإسلام» ([61]). * قال أنس رضي الله عنه: «توفي رجل من أصحاب النبي ﷺ فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله ﷺ: «أولا تدري، فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل ما لا ينقصه» ([62]). * قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «ذر ما لست منه في شيء، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن دراهمك» ([63]). * دُخل على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل فسألوه عن سبب تهلل وجهه فقال: «ما من عمل أوثق عندي من خصلتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين» ([64]). * قال وبرة: «أوصاني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بكلمات لهي أحب إلى من الدهم الموقفة في سبيل الله؛ قال: إياك والكلام فيما لا يعنيك؛ فإنه إثم ولا آمن عليك فيه الوزر، وإياك والكلام فيما يعنيك في غير موضعه؛ فرب مسلم تقي تكلم بما يعنيه في غير موضعه فعنت» ([65]). * قال الحسن البصري رحمه الله: «من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه خذلانًا من الله عز وجل» ([66]). نعوذ بالله أن يعرض عنا ويخذلنا. * قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: «من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق» ([67]). * قال ابن رجب رحمه الله: « وكان السلف كثيرًا يمدحون الصمت عن الشر وعما لا يعني لشدته على النفس، ولذلك يقع الناس فيه كثيرًا، فكانوا يعالجون أنفسهم ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم» ([68]). ب- التحديث بكل شيء يسمعه أو يراه: * قال رسول الله ﷺ: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع» ([69]). * يكثر في مجالس بعض الصالحين الحديث عن المنكرات والاستياء منها. وليس في ذلك بأس لو كان ينتج عن ذلك تحذير الناس منها والقيام بواجب الإنكار حسب الاستطاعة لكن الملاحظ أنها أصبحت ديدن البعض، وكأن المتحدث فيها يريد رفع اللوم عن نفسه بأنه لا يتحرك لنصرة الدين، فعد مجرد الحديث عن المنكرات نصرة للدين. قال عمر الأحمسي: «كان يقال: من سمع بفاحشة فأفشاها كان فيها كالذي بدأها» ([70]). ولعل ذلك لأنه سبب في ذهاب وحشة المنكرات من نفوس المستمعين؛ فقد قيل: كثرة الإمساس تذهب الإحساس. وقد علق الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى على قول الله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{ [النور: 19]، فقال: «هذا تأديب لمن سمع شيئًا من الكلام السيئ فقام بذهنه شيء منه وتكلم به، فلا يكثر منه ولا يشيعه ويذيعه» ([71]). ج- عدم مراجعة الكلام قبل التلفظ به فيسهل عليه فيكثر: * قال الحسن البصري رحمه الله: «كانوا يقولون: لسان الحكيم وراء قلبه؛ فإذا أراد أن يقول رجع إلى قلبه فإن كان له قال، وإن كان عليه أمسك، وإن الجاهل قلبه في طرف لسانه لا يرجع إلى قلبه، وما جرى على لسانه تحدث به» ([72]). د- المبالغة في الترويح عن النفس: فيكثر من الكلام.. ومن العجيب أن يكثر ذكر النساء في مجالس بعض الصالحين بحيث تصبح فاكهة المجلس، وقد قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله بعد أن أورد حديث الرسول ﷺ «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» ([73])، قال رحمه الله: «واعلم أن الفحش والبذاءة هو التعبير عن الأمور المستقذرة بالعبارات الصريحة؛ وأكثر ما يكون ذلك في ألفاظ الجماع وما يتعلق به؛ فإن أهل الخير يتحاشون عن تلك العبارات ويكنون عنها» ([74]). وقال الأحنف بن قيس رحمه الله: «جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام» ([75]). * * * خامسًا: علاج فضول الكلام: ويكون باجتناب أسبابه التي سلف ذكر بعضها، وتذكر أن فضول الكلام قد يجر إلى الكلام المحرم الذي يكون وبالاً عليه بل فيه هلاكه، كما ورد في حديث بلال بن الحارث رضي الله عنه قال: «سمعت النبي ﷺ يقول... وذكر: «وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» ([76]) وقال علقمة: كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث ([77])». وكذلك بالالتزام بهذا التوجيه النفيس للإمام النووي رحمه الله حيث قال: «وينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام أن يتدبره في نفسه قبل نطقه؛ فإن ظهرت مصلحته تكلم وإلا أمسك» ([78]). وأيسر من ذلك وأعظم أجرًا وأزكى أثرًا انشغال العبد بالذكر وتلاوة كتاب الله تعالى حتى يكون دينه وشغله فيصبح يضن بوقته أن يذهب في غير ذلك. بل إنه ليجد وحشة وانقباضًا إذا فتر لسانه عن ذكر الله وأراد الحديث بما ليس فيه خير. عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت على فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: «لا يزال لسانك رطبًا من الله» ([79]). فضول النظروقلما ينتبه إلى ذلك؛ ولذلك يكثر. فمن مظاهره: تقليب النظر في مباهج الحياة الدنيا وزينتها؛ كالنظر إلى القصور والمباني العظيمة، والسيارات الفارهة، والنظر إلى كل غاد ورائح وكل ماش وقاعد. ولتعرف حجم انتشار هذا الفضول تأمل الناس عند الإشارات والحوادث المرورية. ومن الملاحظ عندما يدخل الرجل بيت أخيه لأول مرة أنه يقلب بصره في بيته وأثاث مجلسه مع كون أخيه في نفس مستواه الاجتماعي، فلو دخل بيوت المترفين فكيف يكون حاله؟! وهنا يتضح لماذا كان ملوك الفرس والروم ومن جاء بعدهم يحرصون على أن يضعوا كل زينة في مجالسهم عند دخول الدعاة المسلمين إليهم، لتكون أول فتنة لهم ولتتأثر مواقفهم بعد ذلك. وصدق رسولنا الكريم ﷺ الذي يوحي إليه ممن يعلم السر وأخفى – سبحانه – وبخلق الإنسان أدرى حينما قال: (... ومن أتى أبواب السلطان افتتن)([80]). * قال تعالى: }وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى{ [طه: 131]، قال الشيخ السعدي رحمه الله في كلام كالدرر: «أي ولا تمد عينيك معجبًا، ولا تكرر النظر مستحسنًا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها من المآكل والمشارب اللذيذة والملابس الفاخرة والبيوت المزخرفة والنساء المجملة؛ فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابًا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها – بقطع النظر عن الآخرة – القوم الظالمون، ثم تذهب سريعًا وتمضي جميعًا، وتقتل محبيها وعشاقها فيندمون حيث لا تنفع الندامة ويعلمون ما هم عليه إذا قاموا يوم القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارًا ليعلم من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملاً»([81]). * قال أبو الدرداء رضي الله عنه: «يا بني لا تتبع بصرك كل ما ترى في الناس؛ فإنه من يتبع بصره كل ما يري من الناس يطل تحزنه ولا يشف غيظه، ومن لا يعرف نعمة الله إلا في مطعمه أو مشربه فقد قل علمه وحضر عذابه، ومن لم يكن غنيًا من الدنيا فلا دنيا له»([82]). وهذا معني قول الرسول ﷺ: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن تزدروا نعمة الله عليكم»([83]). رحمك الله يا أبا الدرداء .. وصدقت والله: «من يتبع بصره كل ما يرى من الناس يطل تحزنه»، إن هذه المقولة لتفسر لنا بجلاء ما يعيشه الكثير من تنافس لا ينقضي في شراء الكماليات، وكلما فرحوا بجديد اشتروه عاودهم الحزن والضيق إذا رأوا مثله أو أفضل منه لدى غيرهم. * وقال أبو الدرداء أيضًا: «إياكم والسوق؛ فإنها تلغي وتلهي»([84]). فالسوق ملهية لأن كثيرًا من زينة الحياة الدنيا فيها، فيصبح المرء مشدوهًا بجميل ما يعرض ونفيس ما يباع، وذلك مظنة التعلق بالدنيا. * قال رجل لداود الطائي رحمه الله: «لو أمرت بما في سقف البيت من العنكبوت فنظف. فقال له: أما علمت أنهم كانوا يكرهون فضول النظر. ثم قال: نبئت أن مجاهدًا كان العنكبوت في داره ثلاثين سنة لم يشعر به» ([85]). * قدم الأحنف بن قيس رحمه الله من سفر وقد غيروا سقف بيته أو قد حمروا السقائف وخضروها فقالوا له: ما ترى إلى سقف بيتك؟ قال معذرة إليكم إني لم أره، لا أدخل حتى تغيروه ([86]). * وتأمل هذا الكلام النفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «النظر إلى الأشجار والخيل والبهائم إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة والمال فهو مذموم؛ لقول الله تعالى: }وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى{ [طه: 131]، وأما إذا كان على وجه لا ينقص الدين وإنما فيه راحة للنفس فقط كالنظر إلى الأزهار فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق» ([87]). * قال ابن القيم رحمه الله: «فضول النظر يدعو إلى الاستحسان، ووقوع صورة المنظور إليه في القلب، والاشتغال به والفكر في الظفر به، فمبدأ الفتنة من فضول النظر... فالحوادث العظام إنما كلها من فضول النظر، فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة، كما قال الشاعر: كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر([88])» * قال إبراهيم النخعي رحمه الله: «ليس من المروءة كثرة الالتفات في الطريق»([89])([90]). * رحل يحيى بن يحيى من الأندلس إلى المدينة المنورة ليطلب العلم عند الإمام مالك رحمه الله، فبينما هو جالس عنده مع طلبه العلم إذ قال قائل: جاء الفيل. فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه وبقي يحيى مكانه. فقال له مالك: لم تخرج فترى الفيل لأنه لا يكون بالأندلس. فقال يحيى: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك وسماه عاقل الأندلس. إنه من المباح مشاهدة حيوان غريب.. ولكن وقت الداعية القدوة أضيق من أن يشغل شيئًا منه في مباح لا يجني من ورائه شيئًا لقضيته التي تشغله ليل نهار ([91]). * * * من علاج فضول النظر: أن يرتبط الإنسان بالدار الآخرة وبالجنة ويتعلق قلبه بها؛ فإن كل ما في الدنيا من لذائذ وزينة ففي الجنة خير منها وأبقى. * عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «أهديت لرسول الله ﷺ حلة حرير فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها، فقال: «أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين» ([92]). ومن علاجه: أن تتذكر أخي دائمًا أن تقليب النظر في كل شيء تمر به أو يمر بك قد يوقع في الهلكة كما قيل: ومستفتح باب البلاء بنظرة تزود فيها قلبه حسرة الدهر فو الله ما يدري أيدري بما جنت على قلبه أم أهلكته وما يدري وقيل: وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل * * * فضول الطعامفبسبب ما أخرج الله لنا من كنوز الأرض، وأنزل من بركات السماء أصبح الكثير يتفنن في تناول مختلف الأطعمة والأشربة، فيأكل حتى يتجاوز الشبع، وليس هذا فحسب بل ما أن يشتهي هو أو أحد أسرته شيئًا إلا ويسارع بشرائه بصرف النظر عما قد يلقاه من تعب ومشقة وغلاء.. وإنك لترى كل يوم بعض الأخيار يقف في طوابير طويلة لانتظار رغيف خبز أو نحوه متحملاً شدة الحرارة أو قسوة البرد، ومضيعًا الأوقات الثمينة من عمره في سبيل الحصول على شهوة عاجلة يوجد بديل عنها بدون هذا العناء. ما ورد في النهي عن فضول وإعطاء النفس كل ما تشتهيه: * قال الله تعالى: }وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ{ [الأعراف: 31]. قال الشيخ السعدي رحمه الله: ««كلوا واشربوا»: أي مما رزقكم الله من الطيبات. «ولا تسرفوا»: في ذلك، والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي والشره في المأكولات التي تضر بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوع في المأكل والمشرب واللباس، وإما يتجاوز الحلال إلى الحرام. «إنه لا يحب المسرفين»: فإن السرف يبغضه الله ويضر بدن الإنسان ومعيشته حتى أنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات» ([93]). قال بعض السلف جمع الله الطب كله في نصف آية }وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا{ ([94]). * قال الرسول ﷺ: «ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» ([95]). * قال يزيد بن أبي حبيب في قول الله عز وجل: }وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا{ [الفرقان: 67]، قال: «أولئك أصحاب محمد ﷺ؛ كانوا لا يأكلون طعامًا يلتمسون تنعمًا، ولا يلبسون ثيابًا يلتمسون تجملاً، وكانت قلوبهم على قلب واحد» ([96]). * قال ابن رجب رحمه الله: «كان النبي ﷺ وأصحابه يجوعون كثيرًا، ولا يشربون كثيرًا؛ يقللون من أكل الشهوات، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها؛ ولهذا كان ابن عمر يتشبه به في ذلك مع قدرته على الطعام، وكذلك أبوه من قبله» ([97]). * قال أبو ذر لعمر رضي الله عنهما: «يا عمر، إن سرك أن تلحق بصاحبك فانكس الإزار، واخصف النعل، وكل دون الشبع» ([98]). * وصف سعد بن معاذ رضي الله عنه المشركين فقال: «رأيت قومًا ليس لهم فضل على أنعامهم؛ لا يهمهم إلا ما يجعلون في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك ويشتهون كشهوتهم» ([99]). اللهم إنا نسألك علو الهمة وسمو القصد وصلاح النية. * قال مالك بن دينار رحمه الله: «ما ينبغي للمؤمن أن يكون بطنه أكبر همه، وأن تكون شهوته هي الغالبة» ([100]). * قال عبد القادر الجيلاني لغلامه: «لا يكن همك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كل هذا هم النفس والطمع فأين هم القلب؟ همك ما أهمك فليكن همك ربك عز وجل وما عنده» ([101]). ربنا لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا. * قال سلمة بن سعيد: «إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير بالذنب» ([102]). * أتى رجل عمر رضي الله عنه وهو ينهج قد ركبه اللحم. فقال: ما هذا؟ قال بركة الله يا أمير المؤمنين. فقال: كذبت بل هو عذاب الله ([103]). * قال ابن القيم رحمه الله: «لو تغذى القلب بالمحبة لذهبت بطنة الشهوات» ([104]). * قال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شيئًا على شبع؛ فإنك أن تتركه للكلب خير لك من أن تأكله» ([105]). * وتفكر أخي في مقولة الحسن البصري التالية لترى كيف كان السلف يقدمون لآخرتهم ويتراحمون بينهم، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة: يقول الحسن البصري رحمه الله: «لقد رأيت أقوامًا يمسي أحدهم وما يجد عنده إلا قوتًا فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله عز جل فيتصدق ببعضه وإن كان هو أحوج ممن يتصدق به عليه» ([106]). * قال الأحنف: «إن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه» ([107]). خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريد ([108]) اللهم استعملنا في طاعتك ولإعلاء كلمتك. نماذج من حرص السلف على ترك فضول الطعام وإعطاء النفس كل ما تشتهيه* دخل عمر رضي الله عنه على ابنه عبد الله وإذا عنده لحم فقال: «ما هذا اللحم؟ فقال اشتهيته. قال أو كلما اشتهيت شيئًا أكلته، كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهاه» ([109]). * جاء ابن لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: يا أبت اكسني إزارًا. قال: يا بني نكس إزارك وإياك أن تكون من الذي يجعلون ما رزقهم الله عز وجل في بطونهم وعلى ظهورهم ([110]). * قيل لسمرة بن جندب رضي الله عنهما إن ابنك لم ينم الليلة. قال أبشمًا؟ «أي من التخمة» قيل: بشمًا. قال: لو مات لم أصل عليه ([111]). * قال ميمون بن مهران: «كان ابن عمر لا يكاد يشبع من طعام» ([112]). * كان ابن سيرين إذا دعي إلى وليمة أو إلى عرس دخل منزله فيقول اسقوني شربة سويق. فيقال له: يا أبا بكر أنت تذهب إلى العرس وتشرب سويقًا. فكان يقول إني أكره أن أجعل جد جوعي على طعام الناس ([113]). فلاحظ أخي مدى احتياطهم خوفًا من الشبع، واستغناءهم عن الناس، وقارن ذلك مع من يفرح بالولائم حتى يكثر من الطعام. * قال الحسن البصري رحمه الله: «لقد أدركت أقوامًا إن كان الرجل منهم ليأتي عليه سبعون سنة ما اشتهى على أهله شهوة طعام» ([114])؛ ما الفرق بين أولئك وبين من يغضب على أهله إذا لم يقدموا له أصنافًا معينة عديدة من الطعام طلبها؟!* حكي أن أبا حازم رحمه الله كان يمر على الفاكهة فيشتهيها فيقول: موعدك الجنة ([115])، فليتنا نربي أطفالنا – الذين تعودوا أن نسارع إلى شراء كل ما يطلبونه – على كبح جماح النفس، وعدم إعطائها كل ما اشتهت، وربطهم بما عند الله تعالى في الجنة. * قال بعض الفقهاء: «بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس» ([116]). أما الآن فما أكثر من يفوته الدرس والدروس بسبب الأكل ووسائل تحصيله. * مر أبو حازم بالجزارين، فقال رجل منهم: يا أبا حازم هذا سمين فاشتر منه. فقال: ليس معي ثمنه. قال: أنا أُنْظِرُكَ. ففكر ساعة ثم قال: أنا أُنْظر نفسي ([117]). * كان عامر بن عبد الله رضي الله عنه إذا مر بالفواكه قال مقطوعة ممنوعة ([118]). أي خلاف فاكهة الجنة التي قال الله تعالى عنها: }وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ{ [الواقعة: 32، 33]. آثار فضول الطعام: * الكسل عن الطاعة والوقوع في المعصية: ويكفي به أثرًا لتجنب فضول الطعام. * خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا فقال: «إياكم والبطنة؛ فإنها مكسلة عن الصلاة مؤذية للجسم، وعليكم بالقصد في قوتكم؛ فإنه أبعد من الأشر وأصح للبدن وأقوى على العبادة، وإن امرأ لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه» ([119]). * وتأمل هذا الكلام القيم لابن القيم رحمه الله لترى عظم خطر فضول الطعام: «وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر؛ فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويثقلها عن الطاعات – وحسبك بهذين شرًا – فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام، وكم من طاعة حال دونهما، فمن وقي شر بطنه فقد وقي شرًا عظيمًا، والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذ ملأ بطنه من الطعام.. ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل، وإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ومناه وشهاه، وهام به في كل واد، فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت» ([120]). * قسوة القلب: * قال عمرو بن قيس: «إياك والبطنة؛ فإنها تقسي القلب» ([121]). ولهذا يشكو البعض من عدم تدبر القرآن في صلاة التراويح عندما يكثر من طعام الإفطار. * ذهاب الحكمة: * كان يقال: لا تسكن الحكمة معدة ملأى ([122]). * كثرة النوم ونفرة الصالحين: * قال ابن الجوزي: «فإما التوسع في المطاعم فإنه سبب النوم، والشبع يعمي القلب ويهزل البدن ويضعفه» ([123]). * قال الإمام محمد بن مفلح المقدسي: «واعلم أن كثرة الأكل تنوم، وأنه ينبغي النفرة ممن عرف بذلك واشتهر به واتخذه عادة، ولهذا روى مسلم عن نافع قال: «رأى ابن عمر مسكينًا فجعل يضع بين يديه ، ويضع بين يديه فجعل يأكل كثيرًا قال: لا تدخلن هذا على، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» ([124])([125]). فوائد عدم الشبع: * الثواب من الله تعالى: * سأل المروزي الإمام أحمد الله فقال: يؤجر الرجل في ترك الشهوات؟ قال: كيف لا يؤجر وابن عمر يقول: ما شبعت منذ أربعة أشهر. ثم سأله: يجد الرجل من قلبه رقة وهو يشبع؟ قال: ما أرى([126]). * ضبط الدين وحسن الخلق: * قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: «من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان، والشبع يميت القلب ومنه يكون الفرح والمرح والضحك» ([127]). * التفكر والفهم والصفاء: * قال الحسن البصري: «يابن آدم كل في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودع ثلث بطنك يتنفس ويتفكر» ([128]). * قال محمد بن واسع رحمه الله: «من قل طعامه فهم وأفهم، وصفا ورق، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد» ([129]). فاللهم عفوك .. فكم من أكلة حرمتنا من طاعتك. * الحث على البر: * قال محمد بن النضر الحارثي: «الجوع يبعث على البر كما تبعث البطنة على الأشر» ([130]). * رقة القلب وغزارة الدمع: * قال الحسن بن يحيى الخشني: «من أراد أن تغزر دموعه ويرق قلبه فليأكل وليشرب في نصف بطنه» ([131]). ولذلك يلاحظ رقة قلب الصائم وتدبره للقرآن الكريم. * يصح البدن وينفي المرض: * قال ابن قدامة المقدسي – رحمه الله – في آداب الأكل: «ومقام العدل في الأكل رفع اليد مع بقاء شيء من الشهوة، ونهاية المقام الحسن قوله ﷺ: «ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه»، وقال: فالأكل في مقام العدل يصح البدن وينفي المرض، وذلك أن لا يتناول الطعام حتى يشتهيه، ثم يرفع يده وهو يشتهيه»([132]). * روي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ حديث رسول الله ﷺ: «لم يخلق الله وعاء إذا ملئ شرًا من بطن، فإذا كان لا بد فاجعلوا ثلثًا للطعام وثلثًا للشراب وثلثًا للريح» قال: لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستات ودكاكين الصيادلة ([133]). ضوابط الأكل وطريقة كسر شهوة البطن: * قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: «وينوي بأكله أن يتقوى على طاعة الله تعالى ليكون مطيعًا بالأكل، ولا يقصد به التنعم فقط، وعلامة صحة هذه النية أخذ البلغة دون الشبع». * وقال أيضًا: «وطريق الرياضة في كسر شهوة البطن أن من تعود استدامة الشبع فينبغي له أن يقلل من مطعمه يسيرًا يسيرًا مع الزمان إلى أن يقف على حد التوسط الذي أشرنا إليه، وخير الأمور أوساطها، فالأولى تناول ما لا يمنع من العبادات ويكون سببًا لبقاء القوة؛ فلا يحس المتناول بجوع ولا شبع فحينئذ يصح البدن وتجتمع الهمة ويصفو الفكر. ومتى زاد الأكل أورثه كثرة النوم وبلادة الذهن» ([134]). * * * فضول النوميشكو الكثير من ضيق الوقت وعدم وجود فرصة لأداء نوافل العبادات أو الدعوة إلى الله، ولو تأملت في أوقاتهم كيف تمضي لوجدت أن البعض يمضيه في كثرة النوم... فبعد نوم الليل والاستيقاظ لصلاة الفجر هناك نومة أخرى قبل الذهاب للعمل، ثم بعد أن يأتي من العمل تنتظره نومة ثالثة؛ فتكون له ثلاث نومات يوميًا مدتها مجتمعة (9 إلى 10) ساعات أي أكثر من ثلث يومه يقضيه في النوم، وهذا معناه أن أكثر من ثلث عمره يذهب نومًا .. فقصر القصير بنومه الطويل ففاته الخير الجزيل. ولا شك أن كثرة النوم على التعود .. فمن عود نفسه أن ينام كل يوم 9 ساعات مجتمعة أو متفرقة فإنه يشعر بالإرهاق وبحاجته إلى النوم عندما ينام أقل منها.. وهي مسألة نفسية في المقام الأول؛ فلو لم يستسلم لهاجس الحاجة إلى النوم فإنه لن تمضي عليه فترة إلا وقد تخلص من تلك الساعات الطوال المهدرة في النوم الذي فوق الحاجة. ولعل المتأمل اليوم في حال العلماء الربانيين والدعاة المخلصين يجد قلة نومهم؛ فكثير منهم لا ينام إلا أربع أو خمس ساعات يوميًا – ولم تتأثر صحة أجسامهم بهذا ولذلك تجد بركة وقتهم وتنوع نشاطهم وكثرة جهدهم. فما أطال النوم عمرًا ولا قصر في الأعمار طول السهر * قال الله تعالى في صفة عباده المؤمنين: }كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ{ [الذاريات: 17، 18]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئًا». وقال الحسن البصري: «كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله، ونشطوا فمدوا إلى السحر فكان الاستغفار بسحر» ([135]). وقال سيد قطب رحمه الله: «فهم الأيقاظ في جنح الليل والناس نيام، المتوجهون إلى ربهم بالاستغفار والاسترحام، لا يطعمون الكرى إلا قليلاً، ولا يهجعون في ليلهم إلا يسيرًا، يأنسون بربهم في جوف الليل فتتجافى جنوبهم عن المضاجع ويخف بهم التطلع فلا يثقلهم المنام» ([136]). * وقال الله تعالى: }إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا{ [المزمل: 6]، قال سيد قطب رحمه الله معلقًا على هذه الآية: «إن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش بعد كد النهار أشد وطأ وأجهد للبدن، ولكنها إعلان السيطرة على الروح واستجابة لدعوة الله وإيثار للأنس به، ومن ثم فإنها أقوم قيلا لأن للذكر فيها حلاوته، وللصلاة فيها خشوعها وللمناجاة فيها شفافيتها، وإنها لتسكب في القلب أنسًا وراحة وشفافية ونورًا قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره، والله الذي خلق هذا القلب يعلم دواخله، ويعلم ما يتسرب إليه وما يوقع عليه، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحًا واستعدادًا وتهيؤا، وأي الأسباب أعلق به وأشد تأثيرًا فيه» ([137]). * وقال وهب بن منبه رحمه الله: «ليس من بني آدم أحب إلى شيطانه من الأكول النوام» ([138]). * وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: «وينبغي أن لا ينام حتى يغلبه النوم، فقد كان السلف لا ينامون إلا غلبة» ([139]). * قال الحسن البصري رحمه الله «توبوا إلى الله من كثرة النوم والطعام» ([140]). * وكانت امرأة حبيب – أبي محمد الفارسي – توقظه بالليل وتقول: «قم يا أبا حبيب فإن الطريق بعيد وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت من بين أيدينا ونحن قد بقينا» ([141]). * وقال الضحاك رحمه الله: «أدركت أقوامًا يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الضجعة» ([142]). * وقال طاووس بن كيسان رحمه الله: «ما كنت أظن أحدًا ينام في السحر» ([143]). * * * فضول المخالطةأصبحت الرغبة في مخالطة الناس والاجتماع بهم بصرف النظر عن الفائدة الشرعية المرجوة منهم ديدن وعادة الكثير؛ فلا يكاد أحدهم يجد وقت فراغ من مشاغل البيت والأسرة إلا ويسارع إلى البحث عمن يجتمع معه ويجالسه، بل إن البعض ليترك مسؤولية البيت والأسرة ليجلس مع من يؤانسه، وبهذا المسلك فات على كثير من الصالحين عبادات عظيمة كان السلف يحرصون عليها غاية الحرص؛ مثل الخلوة بالنفس، ومناجاة الله والتضرع بين يديه، والتفكر والتبصر، فضلاً عن تحصيل العلم النافع والعمل الصالح. * قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «خذوا بحظكم من العزلة» ([144]). * وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: «نعم صومعة الرجل بيته؛ يكف بصره ولسانه» ([145]). * وقال مسروق رحمه الله: «إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها فيذكر فيها ذنوبه فيستغفر منها» ([146]). * وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: «وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما لا ينفع – وذلك بالزهد فيه – فذلك مستحب» ([147]). * وقال أيضًا – رفع الله درجته-: «ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه» ([148]). * قال عوف بن عبد الله: «سألت أم الدرداء: ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار» ([149]). * قال ابن القيم رحمه الله: «إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول. ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة» ([150]). * وقال رحمه الله في موضع آخر: «الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت؛ فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أن يفسد القلب ويضيع الوقت.الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر؛ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات: إحداها: تزين بعضهم لبعض. الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود»([151]). فراجع أخي المبارك مدى فائدتك من لقائك مع إخوانك، وتأمل هذه الحادثة لترى كيف كان السلف في السفر – الذي تزداد فيه أوقات الفراغ – يحرصون على إشغاله بما يفيد ومع من يفيد وليس مع أي أحد. * قال إبراهيم ابن علقمة: «قدمت الشام فصليت ركعتين ثم قلت: اللهم يسر لي جليسًا صالحًا. فأتيت قومًا فجلست إليهم فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء. فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسًا صالحًا: يسرك لي. قال: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة قال: أوليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوساد والمطهرة [يعني عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]، وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان يعني على لسان نبيه ﷺ [يعني به عمار بن ياسر رضي الله عنه]، أوليس فيكم صاحب سر النبي ﷺ الذي لا يعلمه أحد غيره [يعني حذيفة بن اليمان رضي الله عنه]...» الحديث ([152]). * قال سيد قطب رحمه الله: «ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى.. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة لبعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة» ([153]). فضول اللباسهناك فريقان على طرفي نقيض في اللباس، والخير في التوسط. الفريق الأول: من يلبس ثيابا يزدريه الناس بسببها، ملابس تكاد تكون بالية غير نظيفة ولا حسنه المظهر. والفريق الثاني: جعل كثيرًا من همه في ملابسه وتنوعها وألوانها وأسعارها. * قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إياكم ولبستين: لبسة مشهورة، ولبسة محقورة» ([154]). * وقال الحكماء: «البس من الثياب ما لا يزدريك فيه العظماء، ولا يعيبه عليك الحكماء» ([155]). والعجيب أن ملابس الرجال أصابها ما أصاب ملابس النساء من الموضة وبلائها؛ فبين فترة وأخرى ترى أشكالاً وتصاميم جديدة للثياب، وموضات من الأحذية والغتر والأقلام والساعات. ولا غرابة أن ترى ذلك كله على عامة الناس، أما رؤيته على الصالحين فهذا منظر مؤذ للعين مؤلم للقلب قاس على النفس. * عن هلال بن خباب عن قزعة قال: «رأيت على ابن عمر رضي الله عنهما ثيابًا خشبة – أو قال خشنة – فقلت: يا أبا عبد الرحمن إني قد أتيتك بثوب لين فيما يصنع بخراسان فتقر عيني أن أراه عليك؛ فإن عليك ثيابًا خشبة أو خشنة. فقال: أرنيه حتى أنظر إليه. قال: فلمسه بيده وقال أحرير هو؟ قلت: لا إنه من قطن. قال: إني أخاف إن أنا لبسته أن أكون فخورًا والله لا يحب كل مختال فخور» ([156]). * قال الشافعي رحمه الله: على ثياب لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفس لو تقاس بها نفوس الورى كانت أعز وأكبرا ([157]) * قال الحكماء: ليست العزة في حسن البزة ([158]). وبعد، فهذا آخر ما تم جمعه من فضول الكلام والنظر، والطعام والنوم والمخالطة واللباس؛ أسأل الله تعالى أن يعم بنفعه الجميع، وعسي أن يكون فيما سطرت دافعًا لنفسي ولنفوس إخواني المسلمين إلى علو الهمة والبذل والتضحية في سبيل نصرة هذا الدين، كما أسأله سبحانه أن يغفر لي ما كان فيه من زلل وتقصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ([1]) آداب الشيخ الحسن البصري، لابن الجوزي ص 125. ([2]) الزهد للحسن البصري ص 26. ([3]) صيد الخاطر لابن الجوزي ص 214. ([4]) أدب الدنيا والدين للماوردي ص 19. ([5]) أدب الدنيا والدين للماوردي ص 20. ([6]) بدائع الفوائد لابن القيم 2/ 229. ([7]) الفوائد لابن القيم ص 146. ([8]) الفوائد لابن القيم ص 217. ([9]) الزهد للإمام أحمد ص 297. ([10]) رواه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع، ح (2451). ([11]) الزهد للإمام أحمد ص 183. ([12]) تهذيب مدارج السالكين ص 292. ([13]) الزهد للإمام أحمد ص 194. ([14]) صيد الخاطر لابن الجوزي ص 242. ([15]) الآداب الشرعية لابن مفلح 2/ 47. ([16]) الزهد للحسن البصري ص 92. ([17]) تفسير ابن كثير 4/ 225. ([18]) تفسير السعدي ص 165. ([19]) رواه البخاري في الأدب ح (6018)، ومسلم ح (47). ([20]) فتح الباري 12/ 60. ([21]) شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 209. ([22]) صحيح الجامع الصغير برقم 1531. ([23]) رواه الترمذي في الزهد ح (2410)، وأحمد 3/ 413. ([24]) رواه أبو داود في الصلاة ح (1510)، وأحمد 1/ 227. ([25]) عون المعبود 3/ 264. ([26]) رواه ابن ماجة في الفتن ح(3973) واللفظ له، والترمذي في الإيمان ح (2616). ([27]) عيون الأخبار لابن قتيبة 1/380. ([28]) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 134. ([29]) الزهد للإمام أحمد ص 163. ([30]) المرجع السابق ص 227. ([31]) مختصر منهاج القاصدين لأحمد بن قدامة المقدسي ص 179. ([32]) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/ 66. ([33]) المرجع السابق 1/ 62. ([34]) بهجة المجالس لابن عبد البر 2/ 343. ([35]) المصدر السابق 1/ 87. ([36]) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان ص 43. ([37]) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان ص 43. ([38]) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان ص 43. ([39]) المصدر السابق ص 48. ([40]) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص 167. ([41]) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان ص 48. ([42]) الزهد للإمام أحمد ص 163. ([43]) الزهد للإمام أحمد ص 279. ([44]) المرجع السابق ص 461. ([45]) المرجع السابق ص 469. ([46]) مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي ص 179. ([47]) صحيح كتاب الزهد للإمام وكيع بن الجراح ص 55. ([48]) الآداب الشرعية لابن مفلح 3/ 456. ([49]) بدائع الفوائد 2/ 231.([50]) روضة العقلاء لابن حبان ص 46. ([51]) المرجع السابق ص 42. ([52]) الآداب الشرعية لابن مفلح 3/ 261. ([53]) الزهد للإمام أحمد ص 421. ([54]) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان ص 43. ([55]) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان ص 44. ([56]) الزهد للإمام أحمد ص 421. ([57]) روضة العقلاء ص 47. ([58]) عيون الأخبار لابن قتيبة 1/ 571. ([59]) روضة العقلاء ص 121. ([60]) روضة العقلاء ص 47. ([61]) رواه الترمذي في الزهد ح (2318) واللفظ له، وابن ماجه ح (3976)، وأحمد 1/ 201. ([62]) جامع العلوم والحكم ص 113. ([63]) رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس، ح (2316). ([64]) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 115. ([65]) بهجة المجالس 2/ 250. ([66]) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 115. ([67]) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 115. ([68]) جامع العلوم والحكم ص 135. ([69]) رواه مسلم في المقدمة ح (5). ([70]) صحيح كتاب الزهد للإمام وكيع ص 123. ([71]) تفسير ابن كثير 3/ 266. ([72]) الزهد للإمام أحمد ص 384. ([73]) رواه الترمذي في البر والصلة (1977)، وأحمد 1/ 405. ([74]) مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي ص 182. ([75]) عيون الأخبار 2/ 219. ([76]) رواه الترمذي في الزهد ح (2319)، وابن ماجة ح (3969). ([77]) تفسير ابن كثير 4/ 225. ([78]) شرح صحيح مسلم للنووي 18/ 328. ([79]) رواه الترمذي في الدعوات ح (3375)، وأحمد 4/ 188. ([80]) صحيح الجامع رقم 68. ([81]) تفسير السعدي ص 466. ([82]) الزهد للإمام أحمد ص 196. ([83]) رواه البخاري ح (6490) ومسلم ح (2963) واللفظ له. ([84]) الزهد للإمام أحمد ص 168. ([85]) المرجع السابق ص 255. ([86]) المرجع السابق ص 338. ([87]) مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 35. ([88]) بدائع الفوائد 2/ 229. ([89]) بهجة المجالس 1/ 644. ([90]) يقول أحد الأخوة: بينما كنا في إحدى الحدائق العامة باليابان نسوي الصفوف استعدادًا للصلاة وإذا بامرأة يابانية تمر بجوارنا ممسكة بيد ابنها الصغير، فالتفت طفلها ينظر إلينا مستغربًا من صفوفنا، وحق له أن يستغرب فلعلها أول مرة يرى منظرًا كهذا، فلما رأت أمه كثرة التفاته إلينا جذبته بقوة ونهرته ، وكأنها تقول له لا تنظر إلى ما لا يعنيك.!! ([91]) انظر: علو الهمة لمحمد أحمد إسماعيل 77، 78. ([92]) رواه البخاري ح (3249)، ومسلم ح (2468) واللفظ له. ([93]) تفسير السعدي ص 249، 250. ([94]) تفسير ابن كثير 2/ 201. ([95]) رواه الترمذي في الزهد ح (2380) واللفظ له، وأحمد 4/ 132. ([96]) الزهد للإمام أحمد ص 299. ([97]) جامع العلوم والحكم ص 427. ([98]) الزهد للإمام أحمد ص 447. ([99]) علو الهمة لمحمد أحمد إسماعيل ص 46. ([100]) جامع العلوم والحكم ص 425. ([101]) علو الهمة ص 77. ([102]) جامع العلوم والحكم ص 425. ([103]) الزهد للإمام أحمد ص 552. ([104]) الفوائد لابن القيم ص 116. ([105]) الآداب الشرعية 3/ 185. ([106]) الزهد للحسن البصري ص 59. ([107]) عيون الأخبار 2/ 219. ([108]) علو الهمة ص 45. ([109]) الزهد للإمام أحمد ص 181. ([110]) المرجع السابق ص 285. ([111]) الزهد للإمام أحمد ص 293. ([112]) صحيح كتاب الزهد ص 54. ([113]) الزهد للإمام أحمد ص 433. ([114]) الزهد للحسن البصري ص 28. ([115]) أدب الدنيا والدين ص 307. ([116]) صيد الخاطر ص 278. ([117]) عيون الأخبار 1/ 727. ([118]) الزهد للإمام أحمد ص 323. ([119]) الآداب الشرعية 3/ 184. ([120]) بدائع الفوائد 2/ 231. ([121]) جامع العلوم والحكم ص 425. ([122]) المرجع السابق ص 426. ([123]) صيد الخاطر ص 451. ([124]) رواه البخاري ح (5393)، ومسلم ح (2061). ([125]) الآداب الشرعية 3/ 186. ([126]) المصدر السابق 3/ 184. ([127]) جامع العلوم والحكم ص 426. ([128]) المصدر السابق ص 425. ([129]) المصدر السابق ص 425. ([130]) جامع العلوم والحكم ص 427. ([131]) المصدر السابق ص 427. ([132]) مختصر منهاج القاصدين ص 176. ([133]) جامع العلوم والحكم ص 424. ([134]) مختصر منهاج القاصدين ص 177. ([135]) تفسير ابن كثير، سورة الذاريات، الآيتان 17، 18. ([136]) في ظلال القرآن لسيد قطب 6/ 3377. ([137]) في ظلال القرآن لسيد قطب 6/ 3745، 3746. ([138]) الزهد للإمام أحمد ص 517. ([139]) مختصر منهاج القاصدين ص 59. ([140]) آداب الشيخ الحسن ص 36. ([141]) المحجة في سير الدلجة لابن رجب ص 133. ([142]) مختصر منهاج القاصدين ص 66. ([143]) المحجة في سير الدلجة ص 32. ([144]) مختصر منهاج القاصدين ص 114. ([145]) صحيح كتاب الزهد ص 89. ([146]) الزهد للإمام أحمد ص 485. ([147]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 10/ 405. ([148]) المرجع السابق 10/ 426. ([149]) صحيح كتاب الزهد ص 82. ([150]) بدائع الفوائد 2/ 231، 232. ([151]) الفوائد لابن القيم ص 80. ([152]) متفق عليه: البخاري: ح (3742)، ومسلم ح (824). ([153]) في ظلال القرآن 6/ 3741. ([154]) أدب الدنيا والدين ص 311. ([155]) المرجع السابق ص 11. ([156]) الزهد للإمام أحمد ص 285. ([157]) علو الهمة ص 106. ([158]) أدب الدنيا والدين ص 311.