البحث

عبارات مقترحة:

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

المؤخر

كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...

القوي

كلمة (قوي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من القرب، وهو خلاف...

غزوة الأحزاب (2) بين المؤمنين والمنافقين

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. تميز صفوف المؤمنين من المنافقين يوم الأحزاب .
  2. المنافقون في الأحزاب طائفتين .
  3. وصف الله للمنافقين يوم الأحزاب .
  4. اليهود والمنافقون في هذا الزمان . .
اهداف الخطبة
  1. بيان أثر محنة يوم الأحزاب في تمييز صفوف المؤمنين من المنافقين

اقتباس

كان من مواطن الابتلاء العظيمة التي مرَّ بها خيار هذه الأمة ما جرى عليهم في غزوة الأحزاب، حيث تحزبت أحزاب المشركين عليهم، ونقض اليهود عهودهم ومواثيقهم، وطعنوا المؤمنين في ظهورهم، وأظهر المنافقون نفاقهم.

الحمد لله؛ يثبت من شاء من عباده على الحق والإيمان؛ فلا تزعزعهم المحن والشدائد، ولا تميد بهم الفتن والابتلاءات، ويُضِّل من شاء من عباده فتتقاذفهم الفتن والأهواء، وتحرفهم الشبهات والشهوات (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27].

 
نحمده على هدايته، ونشكره على اجتبائه ورعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ حفظه الله تعالى من كيد الكافرين والمنافقين، وردهم على أعقابهم خاسرين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ صدقوا في إيمانهم، وجاهدوا أعداءهم، وثبتوا على دينهم، حتى لقوا الله تعالى، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ولا تطيعوا أهل الكفر والنفاق فإن الله تعالى نهى نبيه عليه الصلاة والسلام عن طاعتهم بعد أن أمره بالتقوى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الأحزاب:]1.

 
أيها الناس: لا يُعرف من كان صادقا في إيمانه من الكاذب، ولا المؤمن من المنافق إلا بالاختبار والابتلاء؛ ولذا كان من سنة الله تعالى في عباده أن يبتليهم بأنواع من الضراء والبأساء حتى يتميز صادقهم من كاذبهم، ومؤمنهم من منافقهم، وطيبهم من خبيثهم (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ) [العنكبوت:2-3].

وقد ابتلي خيار هذه الأمة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم أعظم الابتلاء، فثبتوا على دينهم فنالوا الحسنيين: الظفر على أعدائهم، والأجر الكبير من ربهم عز وجل.

وكان من مواطن الابتلاء العظيمة التي مرَّ بها خيار هذه الأمة ما جرى عليهم في غزوة الأحزاب، حيث تحزبت أحزاب المشركين عليهم، ونقض اليهود عهودهم ومواثيقهم، وطعنوا المؤمنين في ظهورهم، وأظهر المنافقون نفاقهم، وبثوا أراجيفهم فكان موقفا عسيرا لا يثبت فيه إلا من ربط الله تعالى على قلبه بالإيمان واليقين، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتسليم لأمره، والتصديق بوعده، ويكفي في وصفه قول الله تبارك وتعالى (وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدً) [الأحزاب10-11].

لقد كان موقفا عظيما بان فيه الصادق من الكاذب، وتميَّز المؤمن من المنافق:
أما المؤمنون فثبتوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، وصبروا على عظيم البلاء، وقابلوه بالرضا والتسليم.

جاعوا أشد الجوع فما ضجروا، وتكالبت عليهم الأعداء فما انخذلوا ولا تراجعوا، وأرجف فيهم أهل النفاق فلم يطيعوهم، ولم يصغوا لأقاويلهم، ورأوا أن ما أصابهم من عظيم الابتلاء هو ما وُعدوا به في سورة البقرة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ) [البقرة:214]. ولذا لما رأوا ما رأوا في الأحزاب ما زادوا على أن قالوا (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب:22] .

 
إنه إيمان في أوج المحنة، ويقين حال الابتلاء والشدة، وتصديق بموعود الله تعالى في أحلك الظروف، وتوكل عليه في أصعب الساعات، فكانوا جديرين بتزكية الله تعالى لهم، حقيقين بثنائه عز وجل عليهم في قوله سبحانه (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) [الأحزاب:23].

 
إنهم ما بدلوا دينهم لردِّ عدوهم، ولا نكصوا على أعقابهم استبقاء لأرواحهم، ولم يتخلوا عن نبيهم للدفاع عن نسائهم وذراريهم، واليهود قد خفرتهم فيهم. بل قدموا رضا الله تعالى والثبات مع رسوله عليه الصلاة والسلام على كل محبوب من أنفسهم وأهلهم وأولادهم وأموالهم، فصدقوا في عهدهم، وما بدلوا تبديلا.

وأما المنافقون الذين امتلأت قلوبهم بالنفاق فارتابوا في وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر، وشكُّوا في دينه، وتبعهم في ريبهم وشكهم ضعاف الإيمان الذين مرضت قلوبهم بأدواء الشبهات أو الشهوات، فلم يُصدِّقوا أن الله تعالى ينصر نبيه عليه الصلاة والسلام، وقد تحزبت الأحزاب، واجتمعت الجموع التي لا قبل لأحد بها، وطوقت المدينة من كل جهة (وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا) [الأحزاب:12].

 
فانقسم المنافقون والذين في قلوبهم مرض على طائفتين:
فطائفة منهم أخذوا يخذلون في المؤمنين، ويبثون الأراجيف فيهم، ويخوفونهم بأعدائهم (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) [الأحزاب:13]أي: لا مقام لكم في أرض المعركة؛ لكثرة عدوكم، يدعونهم إلى التخلي عن النبي عليه الصلاة والسلام، وخذلانه وإسلامه إلى أعدائه.

وربما أرادوا: لا مقام لكم على دين محمد عليه الصلاة والسلام فارجعوا إلى دين الشرك؛ لتسلم لكم أرواحكم وأولادكم وأموالكم.

وربما أرادوا: لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة، فاستجيروا بالمشركين واطلبوا منهم الأمان لكم بما يريدون.

وجائز أن تكون كل هذه المعاني قد أرادها المنافقون والذين في قلوبهم مرض؛ لأن تلك المطالب هي مطالب المنافقين ومرضى القلوب في كل شدة تصيب المسلمين على أيدي الكافرين، في كل زمان ومكان، وهي تتكرر في هذا العصر.

ولئن كانت هذه الطائفة من المنافقين ومرضى القلوب تبثُّ أراجيفها بالقول فإن طائفة أخرى طبقت ذلك عمليا حين اختلقت المعاذير لتغادر أرض المعركة؛ فتفتَّ في عضد المؤمنين، وتوهن قوتهم، وتزلزل قلوبهم، وتصدع ثباتهم، وهي الطائفة التي عناها الله تعالى بقوله سبحانه (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا) [الأحزاب:13].

 
إنهم يعتذرون بِخُلُوِّ بيوتهم وذراريهم من أحد يدافع عنهم، وأن العدو سيطؤهم، مع أن حال المؤمنين كلهم كحالهم فلم يعتذروا ولم يفروا، ففضح الله تعالى المنافقين ومرضى القلوب، وبيَّن سبحانه أنهم سراع إلى الفتنة، وأن المشركين لو دخلوا المدينة لانحازوا هم إليهم، وقَبلوا شركهم؛ لنفاقهم ومرض قلوبهم، (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا) [الأحزاب:14] فما أسرعهم إلى فتنة الشرك وموافقة المشركين!!

كيف يفعلون ذلك وهم لما رأوا المؤمنين قد غنموا في بدر ما غنموا عاهدوا الله تعالى أن يثبتوا في المشاهد كلها، ولا يفروا من غزوة أبدا، فنكثوا عهدهم؛ لأنه كان للغنيمة ولم يكن لله تعالى وابتغاء مرضاته، وفرقٌ بين من يعاهد للدنيا ومن يعاهد للآخرة (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولا) [الأحزاب:15].

 فهم المعوقون عن النفير، المخذلون في صفوف المؤمنين، علم الله تعالى ذلك منهم، فقص على أهل الإيمان خبرهم (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ البَأْسَ إِلا قَلِيلا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) [الأحزاب:19]أي: بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة في سبيل الله تعالى، أو بالنصر والغنيمة؛ فإن أقواما يشحون بمعروفهم، وأقواما يشحون بمعروف الله تعالى وفضله وهم الحساد.

ومن أوصافهم التي تدل على نفاقهم ومرض قلوبهم أنهم أشدُّ ما يكونون خوفا إذا جدَّ الجد، ودارت رحى الحرب، وأشدُّ سلاطة وبذاءة إذا أَمنوا، وأكثرُ الناس مطالبة بغنائم لا حقَّ لهم فيها (فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا) [الأحزاب:19].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه:

تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة.

وتارة يقولون أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا ....، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا.

وتارة يقولون: أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو وقد غرَّكم دينكم.

وتارة يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم.

وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذي الشديد، وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي:

حراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم.اهـ

وكل هذه المقولات التي حكاها ابن تيمية رحمه الله تعالى عن المنافقين في الأحزاب، وذكر أن المنافقين ومرضى القلوب في زمنه يرددونها ، هي في واقع الأمر مما يردده المنافقون والذين في قلوبهم مرض في عصرنا هذا، وستبقى ملازمة للمنافقين ومرضى القلوب في كل زمان ومكان.

ثم إن الله تعالى وصف المنافقين ومرضى القلوب بأوصاف ثلاثة تدل على نفاقهم ومرض قلوبهم:

أحدها: أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذه حال الجبان الذي في قلبه مرض؛ فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن.
والوصف الثاني: أنهم إذا جاءوا تمنوا أن لا يكونوا بينكم بل يكونوا في البادية يسألون عن أنبائكم: ما خبر المدينة؟ وماذا جرى للناس؟

والوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا؛ لجبنهم وضعف قلوبهم، وتقديمهم الدنيا على الآخرة، فلا خير فيهم لجماعة المؤمنين، بل هم شر وبلاء وفتنة للناس.

(يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا) [الأحزاب:20].

جعلنا الله تعالى من أهل الإيمان واليقين، وكفانا شر النفاق والمنافقين، وربط على قلوبنا بالتوكل والتسليم، إنه سميع مجيب. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) [الشعراء:151-152].

أيها المسلمون: يلاحظ أن الآيات الكريمة التي عرضت لغزوة الأحزاب لم يأت فيها تفصيل لهذه الغزوة العظيمة، وما جرى فيها من أحداث، بقدر ما ذكر فيها من أوصاف المنافقين ومرضى القلوب وأفعالهم، ثم وصف المؤمنين وأفعالهم.

ومجموع الآيات التي وردت في غزوتي الأحزاب وقريظة تسع عشرة آية، منها تسع آيات في وصف المنافقين ومرضى القلوب، وحكاية أقوالهم، وأربع آيات في وصف المؤمنين وحكاية أقولهم، فلم يبق إلا ست آيات فيها وصف المعركتين، وما جرى على أحزاب المشركين وبني قريظة؛ مما يدل على أن معرفة أحوال المنافقين ومرضى القلوب للحذر منهم، ومعرفة أحوال المؤمنين للتأسي بهم أهم وأولى من معرفة تفاصيل المعركتين وأحداثهما.

وما كان ذلك -والعلم عند الله تعالى- إلا لأن المنافقين ومرضى القلوب موجودون في كل عصر ومصر، يُخفون كفرهم إن رأوا في المؤمنين قوة، ويظهرونه إن رأوا فيهم ضعفا، والقرآن العظيم كتاب بيان وهداية للمؤمنين، ومن هدايته ذكر أوصاف المنافقين ومرضى القلوب، وكشف حقيقتهم التي يخفونها عن المؤمنين؛ لأخذ الحذر والحيطة منهم.

كما أن العلم بذلك سبب لثبات المؤمنين في الأزمات، وفي حال تسلط الكافرين، وظهور المنافقين؛ ليعلم المؤمنون أن ما يصيبهم من تسلط الكافرين، وتخذيل المنافقين قد أُصيب بمثله سلف هذه الأمة، فيصبروا كما صبروا؛ فإن عاقبة ذلك نصر وتمكين لهم؛ ولذا فإن الله تعالى لما ذكر أوصاف المنافقين وأفعالهم في غزوة الأحزاب ذيَّل ذلك بقوله سبحانه (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].

والمعنى: كونوا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم في ثباتهم على دينهم، وتوكلهم على ربهم، ويقينهم بظفرهم وعلوهم، مهما كان ضعفكم وقوة أعدائكم، ولا تصغوا لأراجيف المنافقين، وتخذيل المخذلين، ولا تكونوا كالذين في قلوبهم مرض ممن فرَّوا يوم الأحزاب؛ خوفا على أنفسهم وأموالهم، واستبقاء لدنياهم ببذل دينهم؛ فإن العاقبة للمتقين في الدنيا بالظفر على أعدائهم، وفي الآخرة برضوان الله تعالى عنهم.

وفي زمننا هذا لا يخفى على أحد تسلط قوى الظلم والبغي والاستكبار من الصهاينة والصليبيين على المسلمين باحتلال ديارهم، وفرض أفكارهم، وإهانة دينهم، وتدنيس قرآنهم، والسخرية بنبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، ويضطلع المنافقون والذين في قلوبهم مرض بذات المهمة التي قام بها أسلافهم في غزوة الأحزاب بالتخذيل في أوساط المسلمين، وتخويفهم بالكافرين، ودعوتهم إلى نبذ دينهم، والدخول في مشاريع أهل الظلم والاستكبار؛ حتى آل أمر المسلمين إلى ما آل إليه من الاختلاف والتفرق والضعف والانحطاط.

فمن بذل دينه لأجل دنياه، وحرَّف كلام الله تعالى إرضاء للكافرين، وطاعة للمنافقين، فقد أوبق نفسه، وخسر دينه، ولن يكون حظه إلا كحظ المخذلين يوم الأحزاب.

ومن ثبت على الحق فلم يبدل دينه، ولا انحاز إلى الكافرين وما يريدون، ولا استمع إلى أراجيف المنافقين والذين في قلوبهم مرض فقد تأسى بخيار هذه الأمة المباركة، وحري به أن ينتظم في سلك من وصفهم الله تعالى بقوله سبحانه (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) [الأحزاب:23].

ألا وصلوا وسلموا على نبيكم...