في الثبات على الدين

الحمد لله الفتَّاح العليم، الرحمن الرحيم، له الحكمة فيما يشاء ويختار وهو الغفور الحليم، مَنَّ على من شاء بالهداية فهو على هدى مستقيم، وخذل من شاء فانقلب على وجهه فذلك الخسران المبين، والهوان العظيم.

أحمده -سبحانه- لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لا إله إلا هو رب العرش العظيم، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له تنزه عن الأشباه والنظائر والتجسيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي سلك بأمته اليسر والتيسير، عزيزٌ عليه ما عنتُّم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلى الله عليه وآله وأصحابه السابقين إلى كل فضل وخلق كريم، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان على النهج المستقيم، وسلم تسليما.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله، واعبدوه على بصيرة، وقووا إيمانكم بالصبر واليقين، واسألوا الله الثبات والاستقامة على هذا الدين القويم، واعلموا أنكم في عصر تكالبت عليكم قوى الشر والطغيان، وتلاطمت عليكم الأمواج والطوفان، وغرقتم في لجاج المعاصي، فبلغتم في شرورها الغليان، وأصبحتم في ظلمات هذا العالم المتفجر بالاضطراب والبركان، فإذا خرجتم تتبعون النور صرفتكم شياطين الإنس والجان، فأصبحتم كالذي استهوته الشياطين حيران، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور:40].

تلكم -عباد الله- واقع عالمكم في هذه المعمورة، عالم يعج بالفتن، واضطرابات توحي بالعداوة والمحن، ومعاصٍ وشرور وعفن، والمسلمون غثاء كغثاء السيل.

عباد الله: إن المسلم في هذا الوقت وفي واقع هذا الوضع يحتاج إلى الثبات على هذا الدين في خضم زلازل هذا العصر، الثبات الذي يجعله لا يتزعزع في واقع المتغيرات والأحداث، ثبات ينبع من قوة إيمان ويقين، لا يتأثر بالمنعطفات حول الطريق، ولا تعصف به التيارات إلى المهوى السحيق، يطلب من المؤمن الصبر والثبات على ما يواجهه من أذىً وهوان، وما تعكسه له ساحة الواقع مِن أوصاف مَن ذلَّ واستهان؛ بل يكون ثبوته على إيمانه ثبوت الجبال الراسيات، وصبره على دينه كصبر القابض على الجمرات.

إن من الناس من يكون موقفه موقف الضعف والخور، والحور بعد الكور، فيتزلزل دينه، ويتزعزع إيمانه، ويكون في حيرة واضطراب في أدنى مواجهة في هذه الحياة، ويخشى أن يكون من الضعف الذي ذكره الله في كتابه من الناس، يقول -عز وجل- عن مثل هذا: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ* يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ* يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) [الحج:11].

فانظر -عبد الله- هذا الصنف من الناس الذي يعبد الله على حرف غير متمكن، ضعف في الثبات واليقين، تهزه الرياح، وتخيفه الأشباح، إن كان في سابغ نعمة وترف اطمئنان، وأرغد في عيشه، صار في غفلة دائمة، وسرحة هائمة، وكان مع الناس في إقبالهم وإدبارهم، ليس عنده همٌّ ولا حس لدينه وعقيدته، فهو يسبح في بحار الغفلات، ويهيم في غمار الملذات والشهوات، لكن إذا دنا الخطب، وادلهمت الأمور، وحصلت الوقائع والفتن، والغواشي والإحن، تغير وتبدل، ولبس جلد الضأن، وتغيرت حاله، وترك إيمانه، وأصبحت الدنيا غايته وآماله، وأعرض عن هذا الدين، وسبّه برجوم المتكلمين، فتلكم الخسارة العظمى، والخسران المبين.

عباد الله: إن فتن هذه الحياة تتابع كعقد انفرط نظامه، فتن يرقق بعضها بعضاً، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، فتن كقطع الليل المظلم، لا يسلم منها إلا قوي الإيمان واليقين بمشيئة الله وقدرته.

لقد تكالبت علينا في زماننا فتن كثيرة، وأصبحنا مصيدة لهذه الفتن، فمنا من قنصته ووقع في حبائلها، فصرفته عن دينه، فأصبح في انسياق مع المعاصي والشهوات، ومنا من أثرت عليه فأصابته بالغفلة وقسوة القلب، فلا يلين بموعظة، ولا يأخذ بعبرة، ولا ينفعه تذكير.

إن من أعظم الفتن اليوم ما يروجه الإعلام العالمي، وما تبثه محطاته الفضائية من تحريف في العقائد، واستهزاء بالدين، ومنافاة للأخلاق والفضائل، تلكم التيارات الفاسدة، والأخلاق الرذيلة التي تؤخذ بلباب العقول، وتؤثر على النشء، وتطمس معالم الفضائل، وتعكس موازين المجتمعات، وتحرفه عن منهجه المستقيم، وعقيدته الراسخة، ما هي إلا فتن تتوارد علينا من كل حدب وصوب، تستدعي منا الانتباه واليقظة لما يحيكه أعداء الإسلام من صرفنا عن منهجنا وعقيدتنا السليمة.

ألا وإن العالم اليوم عبر قنواته الفضائية ووسائل إعلامه المنحرفة يشن حرباً فكرية على العقيدة والأخلاق، ويبث سموماً وفكراً مزيفاً تقتلع ما في القلوب من معتقد سليم، ومن سجايا كريمة، إن المتابع لما تبثه هذه القنوات لَيسمع ما تقشعر له الأبدان، وتشيب له الولدان، ويصبح الحليم من جرَّائها حيران من هول ما يرى ويعرض، تحريفٌ للقيم، وطمس للمعالم والآداب والشيم، وخبط في الأخلاق والفضائل والذمم، لقد كانت الوسائل من أنجع ما وصل إليه أعداء الإسلام في الحرب ضده.

لقد كان بث تلك القنوات بثاً خبيثاً ماكراً مقصوداً؛ للنيل من الإسلام ومبادئه وأحكامه، محطماً لمعنويات أتباعه، سالخاً ما تبقى لدى ناشئته.

إنها -عباد الله- حربٌ فكرية ضروس، تقصف كل يوم وليلة بقنابل موقوتة بيوتات وأماكن وبيئات فيها المؤمنين والمؤمنات، والشباب والشابات، والعفيفين والعفيفات، والناشئة من الصغار والصغيرات، ألا يا قوم فانتهوا ولا تغفلوا، فإن هناك منا وفي بيئتنا من يستقبل تلك القنوات بصدور رحبة، بدعوى: التسلية، والمرح، والتعرف، والتطلع على ما يحدث في العالم، وما وصلت إليه تقنياتهم وعلومهم.

ألَا فأيقظوا قلوبكم، وأرهفوا أسماعكم، واعلموا مقصود أعداء الإسلام عبر وسائلهم الإعلامية، وقنواتهم الفضائية، وهو طمس معالم هذا الدين وقيمه، واقتلاع أخلاقه ومبادئه، يقول سبحانه: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف:8]، ألا وإن الحلَّ الأمثل: العزم على مقاطعة تلك القنوات، وإبعادها عن البيوت، ثم تنشئة النشء على الإيمان والفضائل، والتوعية المكشفة؛ لبيان الأضرار الفكرية والخلقية الناتجة عن مشاهدة تلك القنوات، ومتابعة تلك الوسائل.

ألا -عباد الله- تيقظوا قبل أن يستفحل الأمر، واتقوا الله حق تقاته، وحصنوا أنفسكم من كيد أعدائكم ومكرهم، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].

وفقني الله وإياكم إلى هدي كتابه، وسلك بنا طريق أحبابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.