الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
| المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
| القسم | خطب الجمعة |
| النوع | نصي |
| اللغة | العربية |
| المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إن العيش في أجواء الاضطهاد والخطر يستلزم هذا الانضباط، يستلزم الاستقامة والإعراض عن الجاهلين، فالعدو قوي وشرس ولا يعرف الرحمة، والصراع صراع عقيدة وبقاء وهناك في الصفوف مرجفون وضعفاء ومخذولون ومتهورون .. فلابد من الاستقامة على المنهج بصدق التوكل على الله تعالى، والتزام دعائه وعبادته، والإعراض عن المرجفين وشكوكهم واستعجالهم .. لاسيما ومدة المكث طويلة حتى يقضي الله تعالى...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [يونس: 88- 89].
لقد ظل موسى عليه السلام بمصر يتربص وينتظر الفرج هو وأخوه وقومهما ووصية الله تلوح أمامهما (فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [يونس: 89].
وصية من شقين: الأول: الاستقامة، والثاني: النهي عن اتباع الجاهلين الذين لا يعلمون.
إن العيش في أجواء الاضطهاد والخطر يستلزم هذا الانضباط، يستلزم الاستقامة والإعراض عن الجاهلين، فالعدو قوي وشرس، ولا يعرف الرحمة، والصراع صراع عقيدة وبقاء، وهناك في الصفوف مرجفون وضعفاء ومخذولون ومتهورون .. فلا بد من الاستقامة على المنهج بصدق التوكل على الله تعالى، والتزام دعائه وعبادته، والإعراض عن المرجفين وشكوكهم واستعجالهم .. لاسيما ومدة المكث طويلة حتى يقضي الله تعالى بإجابة دعائهم وحلول النصر .
قال ابن جريج: جاء في الكتب أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، خلال ذلك كان فرعون خائفًا على سلطانه يحاول تعزيز مكانته وتثبيت ملكه بطريقة الجبابرة المستكبرين ..
فالجبابرة إذا تمكن الخوف منهم تراهم يسلكون طرقًا عجيبة وأحيانًا سخيفة لقلب الحقائق وإثبات الباطل ..
تأملوا (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) [الزخرف: 51] ناداهم لماذا؟ هل لأنه خائف؟ أم أن اليأس قد دب في قلبه؟ أم أنه خشي من أثر آيات موسى على قومه؟ أو أن يكون تسرب إليهم طلبه من موسى أن يكشف عنهم ما أصابهم من بلاء ؟
وبعد أن حضر قومه عنده أخذ يطرح عليهم أسئلة تقريرية لا يبتغي من ورائها جوابًا؛ لأن الجواب عنده معروف (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف: 51- 52].
وهل سبق أن اعترض أحد منهم! أو حتى أبدى شكوكًا في قوة فرعون وتمكنه ! لا أثر لذلك، إنه يريد تعزيز هيبته؛ لخوفه من زوالها في قلوبهم، إن ملك مصر وجريان الأنهار من تحت قصر فرعون أمر قريب مشاهد يشد من أوقف نظره عند هذا الحد الزهيد الصغير من المشاهدات وغفل عن مالك الأرض والسماوات (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف: 51] مصر والأنهار التي تجري من تحتك أين هي من ملك السماوات والأرض ؟!
إن الجماهير المستعبَدة يغرها بريق الملك البشري الضعيف القاصر، أما القلوب المؤمنة فإنها تعقد المقارنة بينه وبين ملك رب العالمين العظيم الواسع؛ فلا تركن إلا إلى مالك الملك وتقول: إن ملكك يا فرعون هو ذرة حقيرة لا تُرى بجانب ملك خالقك وخالق ملكك خالق الكون كله فسبحانك يا مالك الملك (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].
وراح فرعون يقايس (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [الزخرف: 53] هذا هو عمى وطمس بصيرة، فالآيات التي أرسل بها موسى ورآها فرعون بأم عينه تكفي دلالة على الحق وتزيد، ولكن الكبر يمنع صاحبه من قبول الحق.
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [الزخرف: 54] استخف بالشيء: أي استهان به لقلة قيمته، هكذا ينظر فرعون إلى قومه، نظر الازدراء وقلة القدر، وبالتالي يطلب منهم الحقير الدنيء بلا حياء فيستجيبون؛ لأنهم شعب مطواع في عمى لا شخصية له..
لماذا هم كذلك؟ قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [الزخرف: 54] لقد أغرقهم فرعون في الفسق والخنا والفساد حتى ألفوه، ورباهم على الخنوع حتى ماتت ضمائرهم وزالت عزة نفوسهم فلا يأنفون من طاعة فرعون في كل شأن، يقول لهم: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات: 24] فلا يرفضون، يقول لهم (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) [غافر: 29] فلا يعترضون.. لا رأس يفكر ولا لسان يعبر، شعب خفّ قدره عند فرعون (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [الزخرف: 54].
وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله، فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت، ولا يمكن أن يطيعه في معصية الله.
الحاصل: أن فرعون أفصح عن طلب عجيب مضحك (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [القصص: 38]، هذه هي أحوال فرعون خلال تلك الفترة، هامان هو وزير فرعون المطيع، من وزراء هز الرأس يأمره أن يبني له صرحًا شاهقًا يكلف الأموال الطائلة والجهد الجهيد من أجل ماذا ؟ أن يطلع إلى إله موسى ..!! فيسمع هامان ويطيع !!
إن فرعون يخاف شرك الطاعة، إنه لم يكن يدعي الإلوهية بمعنى أنه خالق الكون ومدبره وإنما كان يدعي الإلوهية بمعنى أن يُطاع طاعة عمياء في كل ما يشرع وكل ما يأمر، فالناس في مصر لم يكونوا يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له، فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك كما هو ظاهر من قول الملأ له: (وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ) [الأعراف: 127].
وإنما الإلوهية بمعنى أنهم خاضعون لما يريده بهم ولهم، لا يعصون له أمرًا، ولا ينقضون له شرعًا، وذلك هو تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى عن اليهود والنصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة: 31].
قال عدي بن حاتم وكان نصرانيًّا جاء ليسلم، فقال: "فإنا لسنا نعبدهم"، قال صلى الله عليه وسلم: «أليس يحرّمون ما أحل الله، وتحرمونه، ويحلّون ما حرم الله فتحلونه»؟ قال: بلى، قال: «فتلك عبادتهم» أخرجه الترمذي.
معاشر المسلمين: إن الطاغوت إذا فقد حجته اشتد خوفه وأحس بأنه محاصر وأن سلطانه قارب الزوال وأنه بعد ذلك يستعجل في ابتغاء الحسم ولو قتل من قتل .. (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26] يقول (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) تحديا وقحا، أنسيت يا فرعون ألم يدعُ موسى ربه من قبل بناء على طلبك أنت كي يكشف عنك الرجس فاستجاب له ربه فانكشف !! فسبحان الله ما أحلمه على الطغاة!!
ووصل الخبر إلى موسى بعزم فرعون على قتله (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) [غافر: 27] ولطالما قيض الله تعالى على مدى العصور من يصدع بالحق أمام سلاطين الجور ولو أدى ذلك إلى إيذائهم بل وقتلهم، (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر: 28].
إلى أن قال كما في قوله تعالى: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر: 38- 40].
إلى قوله تعالى: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 44]، وبقدرة الله تعالى ولطفه جل وعلا ينجي هذا المؤمن الذي كان يكتم إيمانه فأعلن منجيه من بطش فرعون (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) [غافر: 45].
وينضم مؤمن آل فرعون إلى موسى عليه السلام ويوحي الله تعالى إلى نبيه بأنه قد حان الأوان للخروج من مصر (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) [الدخان: 23] معية الله لعباده الصالحين لا تعني تركهم الأخذ بالأسباب، بل إن من التوكل على الله الأخذ بالأسباب دون ركون القلب إليها .
(فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا) [الدخان: 23] كما في آية أخرى، إمعانًا في الخفاء والكتمان، وتبلغ فرعون الأخبار فيعلن التعبئة العامة (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) [الشعراء: 53- 56] إنا جميعًا ممسكون بذمام الأمور فلا عليكم بهؤلاء الشرذمة.
ويتجه موسى عليه السلام بقومه ليلاً إلى حيث أمره الله شمال البحر الأحمر متجهًا بهم إلى سيناء ويتبعهم فرعون وجنوده، فما أن أشرقت الشمس إلا وهم أمام البحر وإذ بجيش فرعون الغاضب الهائج يُرَى بوضوح من على بُعد والأرض تهتز من وقع حوافر خيولهم وكان موقفًا صعبًا تُبتلى فيه النفوس ويمحص فيه الإيمان.
فالبحر المتلاطم أمامهم وفرعون الجبار مع جيشه الكبير يطوي الأرض من ورائهم فأين المفر؟! (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) [الشعراء: 60] عند شروق الشمس (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء: 61] جمع مدرك اسم مفعول من أدرك أي سيدركنا فرعون حتما لا محالة ..
بل كأن الإدراك قد تحقق وانتهى، هذا ما تراه العين وتقطع به الموازين الأرضية هذا قول أصحاب موسى، وهذا إيمان أصحاب موسى، وهذا مقدار توكلهم وثقتهم بالله ..
أما موسى فشيء آخر تمامًا، وبسرعة يصحح موسى لقومه إيمانهم ويجدد الثقة بالله في قلوبهم (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62] كلا لن نكون مدركين، كلا لن نكون هالكين، كلا لن نكون مفتونين، كلا لن نكون ضائعين (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].
بهذا الجزم والتأكيد اليقيني إذا أغلقت أبواب الدنيا، فإن باب السماء مفتوح، وفي اللحظة الأخيرة يأتي النصر بإذن الله ويشع النور في ليل اليأس والكرب ويفتتح طريق النجاة من حيث لا يحتسبون، هذا هو لطف الله تعالى من حيث لا يحتسبون (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].
(فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء: 63] إنها العصا ذاتها التي كانت يوم من الأيام يهش بها على غنمه، إنها العصا ذاتها التي انقلبت بإذن الله حية تسعى فانقلب لهول منظرها من الكفر إلى الإيمان، بل وخروا سجدًا لله أجمعون .
إن الله تعالى قادر على شق البحر بدون عصا كما كان قادرًا على إسقاط الرُّطَب على مريم بلا هز منها لجزع النخلة، إلا أنها التربية على الحركة والمبادرة واتخاذ الأسباب ولو كانت المعجزات .
ولما ضرب موسى بعصاه البحر وقعت المعجزة وانفلق البحر على هيئة جدارين عظيمين من الماء قائمين يمينا وشمالا بطول الجبال الشاهقة وانكشف بينهما طريق يبس لا زلق فيه بإذن الخالق تبارك في علاه كما قال سبحانه (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى) [طه: 77].
واقتحم موسى وقومه الطريق الممهد وهم في سفح تلكم الجبلين العظيمين من الماء وأثناء ذلك يصل فرعون مسرعا ولكنه يقف مع جنوده عند البحر مشدوها بذلك المشهد الخارق ويرقب موسى مع قومه يسيرون في ذلك الطريق بلا ضرر .. والآن هل يجري ورائهم في ذلك الوادي العجيب ؟ وهل يضمن بقاء الجدارين الهائلين قائمين ؟ أما أنه يضعف وينقلب على عقابيه ويرجع ويعلن هزيمته ؟
وإذ بالكبر يحسم التردد فهناك خيار آخر أن يؤمن بالله تعالى ولكنه لم يخرج به، ويأمر فرعون جنوده بالاقتحام ورائهم ويهبط فرعون بجيشه الكبير بطن الوادي حتى إذا وصل موسى وقومه البحر من الجانب الآخر وخرجوا منه ناجين إذ بالأمر الإلهي للبحر بأن ينقض على فرعون وجنوده .
وهل للبحر إلا السمع والطاعة لمالك الملك، وينهمر الجداران الشاهقان من الماء على فرعون وجنوده ويحل به أمر الله تعالى ويحاول فرعون التوبة قبل فوات الأوان (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 90- 91].
هيهات هيهات للتوبة عند حلول البأس، قال تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) [غافر: 85]، إنه لا توبة عند البأس وحلول العذاب (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 136- 137].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه بر رءوف رحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن بتدبر القرآن يرتب المؤمن أولوياته واهتماماته ويعرف سر خلقه ووجوده ..
أيها الإخوة: إن الله تعالى إنما أنقذ بني إسرائيل بفضل عبده موسى عليه السلام في المقام الأول وبفضلهم في المقام الثاني، فعباد الله الصالحون المصلحون وعلى رأسهم الأنبياء هم بركة الشعوب وصمام أمنها من عذاب الله، ولقد قال الله تعالى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قد يدفع الله العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين ممن لا يستحق العذاب"، ثم استدل على كلامه هذا بقول تعالى: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا) [أي لو تميز الكفار عن المؤمنين وانفصل الفريقان عن بعض] لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح: 25].
فالصالحون بركة، ونحن عندما نتأمل في أحوال أمتنا وتسلط أعدائها عليها واستحرار القتل فيها فإنه يجب أن نربط بين ذلك وبين مستوى طاعتنا لربنا .. ليس في الصلاة والصيام فقط، بل في الحياة كلها يجب أن نراجع إيماننا وأعمالنا ..
أخي الكريم: إن متابعة الأحداث أمر مهم ولكن متابعة عملك اليومي أهم، وإن معالجة طاعاتك لربك أولى من التأسي والحزن على أحوال المسلمين؛ لأن معالجة الطاعة عطاء بالتوبة والعمل الصالح، أما الحزن فيبدأ وينتهي عند صاحبه ولا ينفع الأمة شيئًا .
نحن ننتظر لطف الله تعالى لإخواننا في سوريا، ولكن لطف الله أيها الإخوة يستلزم إصلاح ما بيننا وبين ربنا أولا، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ..