القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
يا عجبًا لهؤلاء الذين ركبوا دابة السفر!! يفرون من ديارهم ديار التوحيد والإيمان إلى ديار الكفر والطغيان، يهربون من ديار ملؤها الأمن والأمان إلى بلاد تتزايد فيها نسب الجرائم والقتل، يتولون عن ديار طاهرة مباركة يدوي فيها الأذان وتعج بالتكبير إلى ديار خواء تصلصل فيها أجراس الكنائس كل ذلك في رحلات عابثة كلها إسراف وتبذير.. وليت هؤلاء حين رحلوا، رحلوا دعوةً إلى الله تعالى وتبليغًا لدينه، وليت هؤلاء يوم أن أنفقوا، أنفقوا نصرةً للمجاهدين أو سدًّا لحاجة المعوزين أو إغاثةً للاجئين، ولكنهم - وللأسف - رحلوا وسافروا وساحوا...
الحمد لله يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ)، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله دلكم على ما تحبون وحذركم مما تكرهون صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون أينما كنتم (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
وهكذا وضعت الاختبارات أوزارها، وانتهى همّ ليبدأ هم آخر همّ الإجازة والفراغ، ومع الإجازة وشدة حر الصيف اللافح وأجواء الشمس تبدأ قوافل المسافرين في كل اتجاه، فحجوزات تؤكد وتذاكر تُقطع، وحقائب تُجهز وأحزمة تُربط، وأموال تُرصد، وديون ترهق كل ذلك في سبيل الترويح والسياحة.
وإنما الهموم على قدر الهمم، فطائفة تشد الرحال وهي تستشعر عبوديتها لله ومسئوليتها تجاه هذا الدين، وتدرك أنها بسلوكها تبشّر أو تنفّر، وتدعو للدين أو تصد، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يطلعون في كل اتجاه دون مراعاة للرقيب ولا الحسيب، ودون استشعار أنهم ينهون عن الدين كما أنهم ينأون عنه.
وأمام تلك القوافل المتأهبة للسفر أقف هذه الوقفات السريعة لعل قلوبًا تتذكر أو تخشى..
فأولا: ديننا ليس دين التحجر ولا الانغلاق، فهو دين يراعي مشاعر النفس الإنسانية، ويلبي رغباتها، ويحقق حاجاتها الروحية والنفسية والبدنية والذهنية، لكن لابد أن نعلم أنه ليس دين التفلت والعبث والفوضى الأخلاقية، إنه دين اليسر ودين القوة والعزيمة، إنه دين السلام ودين الجهاد، إنه دين الرحمة ودين الحزم..
لا ريب أن دين الإسلام دين الواقع والحياة، يعامل الناس على أنهم بشر لهم أشواقهم القلبية وحظوظهم النفسية وطبيعتهم الإنسانية، فلم يفترض فيهم أن يكون كل كلامهم ذكرًا، وكل صمتهم فكرًا، وكل تأملاتهم عبرة، وكل فراغهم عبادة... وإنما اعترف الإسلام بكل ما تتطلبه الفطرة البشرية من سرور وفرح، ولعب ومرح ومزاح ومداعبة.. بشرط أن تكون في حدود ما شرعه الله، وفي نطاق أدب الإسلام.
إن دينكم يا مسلمون لم يضع عليكم قيودًا، وإنما وضع لكم حدودًا، إن الرحلات جزء من الترويح المباح، بل هو ترويح مشروع إذا ضُبطت بضوابط الشرع، وقابلها تفكر في آلاء الله وتأمل في ملكوت الله وشكر لنعم الله، وهي عمل مشروع حينما تكون إيناس للأهل والأولاد وتحقيقًا لرغبة الوالدين وإدخالا للسرور على قلوبهم.
وثانيا: إنه لمن المحزن المبكي أن أصبحت السياحة والسفر إلى بلاد الكفار موضع افتخار بعض المخدوعين من المسلمين، فهذا يفتخر أن ابتُعث للدراسة هناك، وذاك يباهي أن له ولدًا يدرس هناك، وهذا يتبجح بقضاء الإجازة كل عام متنزهًا بين شواطئ أوروبا وسهولها وجبالها دون تفكير في النتائج أو تقدير للعواقب.
ثم إن هؤلاء إذا ذهبوا إلى بلاد الكفار فلبسوا لباسهم واقتدوا بآثارهم حتى النساء المسلمات يخلعن ثوب الستر والعفاف ليلبسن لباس الكافرات والتائهات، فلماذا نعطي الدنية في ديننا ويستبدل المسلم الذي هو أدنى بالذي هو خير ، وكيف يتنازل من علياء إيمانه إلى حضيض ومزبلة الكفر !!
يا عجبًا لهؤلاء الذين ركبوا دابة السفر وامتطوا ثبج السياحة؟! يفرون من ديارهم ديار التوحيد والإيمان إلى ديار الكفر والطغيان، يهربون من ديار ملؤها الأمن والأمان إلى بلاد تتزايد فيها نسب الجرائم والقتل، يتولون عن ديار طاهرة مباركة يدوي فيها الأذان وتعج بالتكبير إلى ديار خواء تصلصل فيها أجراس الكنائس كل ذلك في رحلات عابثة كلها إسراف وتبذير..
وليت هؤلاء حين رحلوا، رحلوا دعوةً إلى الله تعالى وتبليغًا لدينه، وليت هؤلاء يوم أن أنفقوا، أنفقوا نصرةً للمجاهدين أو سدًّا لحاجة المعوزين أو إغاثةً للاجئين، ولكنهم - وللأسف - رحلوا وسافروا وساحوا للهوى والشيطان إن أنفقوا فعلى لذة رخيصة وشهوة وضيعة، وإن جلسوا وساحوا فعلى شواطئ وأماكن يُجاهر فيها بمعصية الله، فلماذا الإصرار على السياحة في ديار الكفر والتثليث والإلحاد والإباحية دونما حاجة أو ضرورة أو مصلحة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من امرئ يقيم بين ظهراني المشركين"، وقد استثنى العلماء من ذلك المجاهد في سبيل الله، والداعية إلى الله، والمسافر للعلاج أو لدراسة ما ينفع المسلمين أو للتجارة.. كل ذلك مشروط بأن يكون مظهرًا لدينه قادرًا على إقامة شعائره قوي الإيمان وللضرورة حينئذ أحكامها.
إن السفر إلى الخارج لا يجوز أن يظل هاجسًا حوليًا يظهر كل عام لدى من كان يؤمن بلقاء الله ويسعى في رضاه بعد أن عرف خطورة السفر على عقيدة الولاء والبراء وضرورة مفارقة الكفار جسدًا وروحًا, وفكرًا ومعتقدًا!!
وثالثا: أنت يا من تهوى السياحة والسفر والترحال لا تنس حينما تدعوك المصلحة للسفر إلى ديار الكفار أو غيرها أنك سفير فوق العادة؛ تمثل دينك وبلادك وأخلاق مجتمعك، فأنت تحمل مسؤولية عظيمة وهي أمانة تمثيل الإسلام..
تذكر أنه بحسن التعامل والتمسك بالدين دخل الإسلام بلاد وانتشر فيها، وكم من إنسان كان سببًا في إعراض ونكسة أقوام عن هذا الدين شعر أم لم يشعر، حينما تلبس بالانهزامية وتخلى عن معالم دينه وتشبه بأعداء الله وجَبُن من إظهار شعائر الله، فاحمل دينك بقوة وأظهره بشجاعة قال تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12]، (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) [الأعراف: 145]، (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) [الزخرف: 43].
كن عزيزًا بإسلامك مفتخرًا بدينك مستعلنًا بشعائره، متجنبًا لخوارم العزة من الهزيمة النفسية والاستسلام للواقع، والرضا بحياة الذل والهوان، والانبهار بقوة الأعداء المادية وحضارتهم الزائفة، والخجل من الانتماء إلى الإسلام، والحياء من إظهار شعائر الدين وأحكامه، والتردد في إنكار المنكرات والأمر بالمعروف، والتشبه بأعداء في لباسهم وتقاليدهم ونظم حياتهم «فمن تشبه بقوم فهو منهم»..
إن طائفة ممن يسافرون وللأسف الشديد يشوّهون صورة الإسلام بسوء أفعالهم وتصرفاتهم، يشوهونه عند من لا يعرف حقيقته، ويصدون عنه مَنْ يتطلع إليه ويريد الدخول فيه، ونتيجة لذلك خرج الكفار والغرب بوجه أخص خرجوا بصورة قاتمة عن الإسلام والمسلمين وأن الإسلام قمار وخمر وغانية ولهو وإسراف! لأنه ظن أن هؤلاء يمثلون الإسلام وهم سفراؤه فيا هؤلاء كونوا لدينكم وبلادكم خير السفراء.
ورابعا : وأنت تسمع عن مآسي إخوانك وفجائعهم وترى ما يفعله الطاغوت النصيري بهم هل فكرت أن تستقطع جزءًا من نفقات سفرك عونًا لإخوانك ودعمًا لجهادهم وتنفيسًا لكربتهم ليجتمع لك أجر إسعاد أولادك وثواب نصرة إخوانك، فإن فعلت فإنك إذًا من الشاكرين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين..
أما بعد: فخامس الوقفات أيها المسلمون: أعيش فيها مع فئة من المنفّرين عن الدين في أسفارهم والمشوهين لتشريعاته وأحكامه..
كم تحزن وتأسى وأنت ترى أبناء الرافضة وشبابهم في كل إجازة يشدون الرحال يتدربون ويستعرضون بطولتهم في الخنادق في طهران، بينما فئة من شبابنا بل ومن كبارنا، بل ومن بعض المحسوبين على خيارنا يشدون الرحال يتهربون ويستعرضون فحولاتهم في الفنادق في كل مكان تحت غطاء من متعة مقننة ألصقوها زورًا باسم النكاح بنية الطلاق.. مشوهين بذلك شريعة الله منفّرين الناس عن دين الله، راسمين صورة مشوهة عن أهل هذه البلاد، مخلّفين مآسي ومشاكل اجتماعية وأخلاقية يندها لها الجبين..
بأي مذهب يجوز للإنسان أن يشد الرحال من بلده قاصدًا أن يتلهى بنساء مسلمات متنقلاً من امرأة لأخرى بعقود صورية وشروط وهمية.
إنه إذا أجاز بعض العلماء النكاح بنية الطلاق بشروط وضوابط لمن خاف على نفسه وأطال البقاء في بلاد غير بلاده خائفًا من الوقوع في الحرام متخيرًا المحصنات المؤمنات، فهل ما نراه اليوم متوافقًا مع هذه الضوابط؟!
كيف يكون هذا الزواج صحيحًا وهو مفتقد لأهم أركانه، وهي رباط السكن والمحبة والذي لا يأتي إلا بالاستقرار ونية بناء البيت الصالح.
كيف يحتج من يفعل ذلك بآراء الفقهاء على فعل نفسه ولا يحتج بها على فعل غيره أن أراد آخرون الزواج بشقيقته أو ابنته مثلاً بنفس الطريقة؟! وهل تطمئن نفس المؤمن وقلبه لنكاحٍ يخدع فيه المرأة، ويبدي لها فيه صدق المودة والمحبة وهو يضمر الفُرقة والطلاق خلال أيام أو حتى أسابيع؟
إن الفقهاء الذين أجازوا هذا النكاح لم يجيزوه بالصورة التي نراها اليوم حيث يقصد الواحد منهم السفر لهذه الغاية، ويستقبله مكاتب العقود بجوار مكاتب تأجير السيارات ويتنقل من زواج لزواج في سفرة واحدة، والزوجة تعرف مصيرها وربما كانت في ذمة زوج آخر، فالقضية لم تعد زواج وإنما تجارة في الأعراض والأخلاق!!
إن من أجاز هذا النكاح من القدامى إنما أجازه في عصر له ظروفه الخاصة وحاجاته التي تختلف عن عصرنا، ومن المؤسف أن ما يفعله الناس اليوم جعل كثيرًا من هؤلاء البنات الضحايا يتحولن لداعرات بسبب هذه الزيجات المتكررة وهن في سن صغيرة بحثًا عن وهم الاستقرار أو جمع المال.
إن هذه الفئة في أسفارها تنفّر من الدين وتشوّه صورة بلاد الحرمين وأهلها، وتخلف مشاعر الكره والحقد والبغضاء على بلادنا وأهلها، فهل أدرك هؤلاء عظيم فعلهم؟!
وأخيرًا: هذه رسالة أبثها إلى الذين عقدوا العزم على السفر هنا أو هناك ترويحا على النفس وتسلية للفراغ..
لا أحد يحول بينك وبين رغبتك، ودين الإسلام لا يعارض مطالب متى ما انضبطت بميزان الشرع، والسفر مطلب وحكمه باعتبار مقاصده وأهدافه، ومهما يكن الأمر فإني أذكرك وأنت أهل للذكرى وما يتذكر إلا من يخشى (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الرعد: 19].
أذكركم يا معشر المسافرين أن السفر في الإسلام ليس انفلاتًا من القيود ولا تعديًا للحدود، السفر في الإسلام تفكر في آلاء الله ومخلوقاته واعتبار بمن مضى (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الروم: 9].
السفر في الإسلام وسيلة عبادة ودعوة وسياحة أمة الإسلام الجهاد بالنفس والمال والكلمة، السفر في الإسلام ترويح عن النفس، وتنويع في العمل وتجارة واطلاع على تجارب الآخرين، ولكن كم تفضح الرحال بعض المسلمين وهم يتحللون من مبادئهم ودينهم ويتخلون عن شعائر ربهم حينما يسافرون أو يتنزهون أو يغادرون هذه الديار.
كم من صلوات ضُيعت، وشهوات مُورست، ومحرمات ارتُكبت، كم من محجبة خلعت حجابها، ومحصنة أذهبت حيائها وعفافها، ألا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!
إني أذكر كل عازم على السفر أنه من عباد الله، وأن العبودية لله والخوف على شريعته لا يحدها زمان ولا مكان، فالخائف التائب هنا لا بد أن يستمر خوفه وحرصه في كل أرض..
والمراقب لله المستحي منه عند أهله وعشيرته وفي بلده لا بد أن يستمر معه هذا الشعور أينما حل وحيث ما نزل فـ «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك» واتق الله حيثما كنت فهو يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون.
يا أهل السياحة والسفر تجنبوا بلاد الكفر، واحذروا من السفر إلى ديارهم فإن سفركم لهم دعم لاقتصادهم وعون لهم على حرب الإسلام وأهله، وإن كل ريال تنفقه هناك إنما هو رصاصة تستقر في صدر أخ لك مسلم.
وكم يؤلم قلبك أن تعلم أنما أنفقه الخليجيون في العام السابق على السياحة في البلاد الكافرة زاد عن أكثر من سبعة مليارات دولار ستصب في جيوب اليهود المجرمين والنصارى الحاقدين !! فاستشعر أخي ولاءك وضحِّ بشهواتك إرضاءً لربك ولنصرة لإخوانك.
يا أهل السياحة والسفر: إن من أسباب انحراف الأسر والأبناء غفلة الأولياء عنهم بطول أسفارهم وتداول رحلاتهم فلا تكن ممن يغلب شهوته على صلاح أهله وذريته، فـ «إن لأهلك عليك حقًّا» و«كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يعول»..
سافر أخي كما شئت وأينما أردت ولكن قبل أن تسافر وبعدما تسافر وأثناء سفرك اجعل الله عليك رقيبًا، واتق الله لا تجعله أهون الناظرين إليك، واحذر أن يراك الله حيث نهاك أو يفتقدك حيث أمرك، أو أن يأتيك الموت على حال لا تسرك.
اجمع مع سفرك الدعوة إلى الله، فما أجمل مع متعة السفر لذة إنقاذ ضال، وإرشاد تائه وتعليم جاهل، ومع الترفيه لا تنس النصح والتوجيه، فلا تعارض بين مطالب النفس ومطالب الروح، خذ بأسباب السلامة وأعقلها، وتوكل على الله والزم الرفق والتأني «فما كان الرفق في شيء إلا زانه» والعجلة قرينة الندامة.
حفظك الله في سفرك وإقامتك ووفقك لطاعته وبره..