المقيت
كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...
العربية
المؤلف | عبدالله بن صالح القصير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - فقه النوازل |
إن جماع السياسة العادلة، والولاية الصالحة؛ إقامة الدين ونشره في العالمين، وحفظ حرمات وحقوق المسلمين، ففي القيام بهذه الأمور من ولاة الأمور أداء حقوق الله تعالى، وحقوق عباده التي كلفهم الله بها وائتمنهم عليها. وفيما يلي أشير إجمالاً إلى جملة هذه الحقوق الواجبة على الأئمة للدين والأمة، بدلالة الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح من الأمة ..
عباد الله: إن جماع السياسة العادلة، والولاية الصالحة؛ إقامة الدين ونشره في العالمين، وحفظ حرمات وحقوق المسلمين، ففي القيام بهذه الأمور من ولاة الأمور أداء حقوق الله تعالى، وحقوق عباده التي كلفهم الله بها وائتمنهم عليها.
وفيما يلي أشير إجمالاً إلى جملة هذه الحقوق الواجبة على الأئمة للدين والأمة، بدلالة الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح من الأمة:
أولاً: إقامة الدين وحفظه: فإن مما يجب على الأئمة: إقامة الدين وحفظه على الأصول التي أجمع عليها السلف الصالح، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى:13].
وإقامة الدين تتحقق بما يلي:
أولاً: نشر العلم بما بعث الله تعالى به نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من الهدى ودين الحق، وغيره من أنواع العلوم النافعة في المجتمع بإقامة دروس العلم، وحِلَق الذكر في المساجد، ودور العلم، ومؤسسات التعليم العام والخاص وغيرها؛ بحيث يتحقق بواسطة مناهجها ومقرراتها ومُدرِّسيها: تعليم عوام المسلمين ما لا يسعهم جهله من دين الإسلام، كالطهارة والصلاة ومهمات من أحكام الزكاة والصوم والحج، والمعاملات، وحقوق ذويهم عليهم.
وكذلك تنشئة الصغار على حب العلم الشرعي ومعرفة فضله وحسن عاقبته في العاجلة والآجلة، وفضل التوسع فيه وعلو منزلة أهله، ومقامهم في الدين وبين المسلمين، وعند رب العالمين يوم القيامة.
أيضًا اختيار طائفة من الأمة تتأهل لحمل أمانة العلم بحفظه والعمل به وتعليمه، بحيث يكونون مراجع للأمة في التعليم والإفتاء والقضاء والاجتهاد في بيان أحكام النوازل والأمور المستجدة.
كذلك توفير أعداد كافية من المتخصصين في العلوم المهنية المتنوعة، وفنون العلوم التجريبية التي تحتاجها الأمة.
ثانيًا: إظهار شعائر الملة، وإقامة أركان الإسلام الظاهرة.
ثالثًا: بناء المساجد وعمارتها بالصلاة والذكر، وتعليم العلم الشرعي، وربط الناس بها، وأن يقوَّم الناس ويقدروا حسْب تعلقهم وارتباطهم بها.
رابعًا: العناية بالدعوة إلى الله تعالى بين المسلمين، وتقوية جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمعهم، ودعوة العالم إلى الإسلام ببيان مزاياه ومحاسنه، وقواعد ومقاصد شريعته، وحِكَم أحكامه وحسن نظامه، ودلالته على كل خير وسعادة في العاجل والآجل، وتأهيل طائفة يحصل بها مقصود الحسبة والدعوة وإعانة المحتسبين والدعاة، بما يكون سببًا في نجاحهم في مهماتهم، وحصول المقصود من تكليفهم، قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بلغوا عني ولو آية".
خامسًا: إقامة الحدود، والقصاص، وأنواع التعزيرات، فإن زاغ ذو شبهة عنه بُيِّنت له الحجة وأُوضح له الصواب، فإن قبل ورجع وإلا أخذ بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروسًا من التحريف والخلل، والأمة ممنوعة من الانحراف والزلل.
ثانيًا: الحكم بما أنزل الله: ومما يجب على الأئمة الحكم في الرعية بما أنزل الله وبما لا يخالف الشرع المطهر، ونبذ كل ما يعارض الإسلام من القوانين الوضعية والأعراف والعادات العشائرية، والأنظمة البشرية الجائرة، فإن العدل بين الناس من أسباب استقامة أحوال الرعية واستقرار الدولة، فإن الدولة تدوم مع العدل ولو كانت كافرة، ولا تبقى مع الظلم ولو كانت مسلمة، ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، وقال سبحانه: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58].
ثالثًا: الرفق واللين في التعامل: ومما يجب على الإمام: سياسة الرعية باللين والرفق، وأن يجتهد في قضاء حوائج العباد وإيصال الخير إليهم، وكف الشرِّ وإبعاد الضرر عنهم، ورعاية مصالحهم، والاهتمام بشؤونهم، والنصيحة لهم في جميع الأحوال.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "من ولي من أمر أمَّتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه، ومن ولي مِنْ أمر أمَّتي شيئًا فَرَفَقَ بهم فَارْفُقْ بِهِ"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ شرَّ الرِّعاء الْحُطَمَةُ"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِنْ عبدٍ يَسْتَرْعِيهِ الله رعيَّةً يموتُ يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيَّتِهِ إلَّا حرَّم الله عليه الجنَّة".
رابعًا: تعيين الأكفاء والأمناء: ومما يجب على الإمام: نصب وتولية الأكْفَاء الأمناء النصحاء، من القضاة والمفتين، وأمراء الجهات، وبقية أهل الولايات الذين يقومون خير القيام فيما يفوضه الإمام إليهم من ولايات وأعمال، وفيما يكِلُه إليهم من الأمانة والأموال؛ لتكون الأعمال مضبوطة، والأمانات والأموال محفوظة.
خامسًا: جباية الصدقات واستثمار الثروات وتنمية التجارة: ومما يجب على الإمام: جباية الفيء والصدقات، وتنمية استثمار المعادن والثروات، وتنظيم التجارة في الأمة، وفيما بينها وبين الأمم الأخرى على النحو الذي جاء به الشرع نصًّا أو اجتهادًا، من غير عسف ولا خسف.
سادسًا: ضبط المصروفات ودفعها لمستحقيها: ومما يجب على الإمام: تقدير العطاءات والرواتب والمصروفات العامّة والخاصّة من بيت المال؛ من غير سَرَف ولا تقصير فيه، ودفعه إلى مستحقه وجهته في وقته من غير تأخير ولا مماطلة.
الخطبة الثانية:
عباد الله: الأمر السابع: توفير الأمن والاستقرار: ومما يجب على الإمام: توفير الأمن في المدن والقرى، وكافة جهات البلد، وتأمين الطرق والمرافق العامة وأموال الناس وسائر حرماتهم، وتأمين الضعفاء من الأقوياء، والأخيار من الأشرار، وذلك بتوفير كافة وسائل الأمن، وجهاد أهل البغي، وقطَّاع الطرق، وكل من تسوِّل له نفسُه العبث بأمن البلد وحرمات الأمة، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في العرنيين بتنفيذ حكم الله تعالى في المحارِبين الذين سعوا في الأرض فسادًا؛ منعًا لأهل الإجرام والجسارة مما يريدون من الفساد بهيبة السلطان وبارقة السيف والسنان.
ثامنًا: إعداد القوة اللازمة وإقامة عَلَمَ الجهاد: ومما يجب على الإمام: تجييش الجيوش وتجهيز الغُزاة بالقوة الكافية الرادعة، والقيام بكل ما يحتاجونه من بيت المال، وجهاد أهل الكفر بعد دعوتهم إلى الإسلام، وبيان محاسنه وما لهم منه وما لله من حق عليهم فيه؛ لإعلاء كلمة الله، وكفِّ شرِّ أعداء الله، وتحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة النافعة الرادعة، حتى لا يظفر الأعداء بغفلة ينتهكون فيه الحُرَم المحترمة، أو يسفكون بها الدماء المعصومة، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال:60]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إنَّ القوَّة الرَّمي، ألا إنَّ القوَّة الرَّمي، ألا إنَّ القوَّة الرَّمي".
تاسعًا: متابعة أمور البلاد بنفسه: ومما يجب على الإمام: متابعة أمور البلاد بنفسه، وذلك بأن يباشر الإمام الأعظم بنفسه مُشَارَفَة الأمور، ويتتبع الأحوال ليطلع على سير الأمور وأداء ذوي الولايات والعمَّال؛ اشتغالاً بسياسة الأمة وحراسة الملة وتحقيق الأمانة، ولا يعوِّل على تفويض الأمور إلى غيره تفرغًا لعبادة أو تشاغلاً بلهوٍ أو لذة، فقد يُخَوَّن الأمين، ويُغَشَّ الناصح، ويفرِّط القادر، فلا بد من متابعة ذوي الولايات ومسؤولي الجهات، للاطمئنان على قيامهم بوظائفهم، وأدائهم لأماناتهم، وحسن سياستهم وعدلهم في رعيتهم على أكمل وجه؛ فمن أحسن شَكَرَه وكافأه وأعانه، ومن قصَّر أو عجز أو خان أو فرط عزَلَه وحاسبه، وولَّى خيرًا منه مكانه، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون وأتباعهم يهتمون بأمر العمال وذوي الولايات، فيجتهدون في اختيار الأكفاء، ويحاسبونهم على التقصير والتفريط أو الاعتداء.