البحث

عبارات مقترحة:

الحفيظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

الرمادة بين الماضي والحاضر

العربية

المؤلف سليمان بن حمد العودة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. الاستفادة من التأريخ .
  2. التعريف بالرمادة .
  3. نهج الفاروق عمر والمسلمين عام الرمادة .
  4. أحوال الأفغان .
  5. الدعوة لدعمهم وحمايتهم من التنصير .

اقتباس

وإذ سمعتم أن الفاروقَ -رضي الله عنه- يعتبرُ نفسَه مسؤولاً عن الدابةِ تموتُ في أرضِ العراق: لِمَ لَمْ يُمهِّد لها الطريق؟ فكيف بموتِ آلافٍ؛ بل ملايين من البشرِ المسلمين لا تصلُ إليهم حاجتُهم من الطعامِ أو الكساء، أو تصلُ إليهم بجهودِ اليهود والنصارى والمشركين فيسدُّون جَوْعةَ بطونهم، وتظلُّ قلوبُهم من الإيمانِ والإسلام جَوْعى؟!.

الحمدُ للهِ الذي أنزلَ على عبدِه الكتابَ ولم يجعلْ له عوجاً، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أغنى وأَقْنى، وأماتَ وأحيا، وإليه يُرجَع الأمرُ كلُّه في الآخرة والأولى. 

وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، أوصى بالفقراءِ واليتامى والمحتاجين خيراً، بل نزلَ عليه في القرآنِ إطعامُ الأَسارى من غير المسلمين: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان:8].

اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ النبيين والمرسلين وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين، والتابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

اتقوا اللهَ معاشرَ المسلمين، (وَمَن يتّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]، (وَمَن يتَّقِ الله يكفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ ويُعظِمْ لَهُ أَجْرَاً) [الطلاق:5]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1-2].

أيها المسلمون: لا غرابةَ ولا عجبَ أن تصيبَ المسلمين أو طائفةٍ منهم مِحنٌ وكوارثُ، ولكن الأمرَ المهمَّ كيف يتعاملُ المسلمون مع هذه المحنةِ أو تلكَ الكارثة... وسواءٌ في ذلك مَن وقعتْ عليهم أو من لم تَقَعْ وهم مسلمون يشعرون بحقوقِ أُخوّة الإسلام وواجبِ النُّصرةِ للمسلمين.

وإذا كنا -معاشرَ المسلمين- أُمةً لها تاريخُها ولها تجاربُها، وهذا التاريخُ محلُّ فخرٍ واعتزاز، وهذه التجارِبُ رصيدٌ يمكن أن يتأمَّلَه اللاحقون فيستفيدون من تَجرِبةِ السابقين.

إذا كنا كذلك فدعونا نقفْ عند صفحةٍ مشرقةٍ من تاريخِنا تحوَّلَتْ فيه المِحنُ إلى مِنَح، والبلايا إلى إحسانٍ وعطايا، استيقظ فيها الشعورُ الإسلامي، وهبَّ المسلمون في مشرِقِ الأرض ومغربِها يُغِيثون الملهوفين، ويُطعِمون الجائعين، وخليفةُ المسلمين يتقدَّمُ الصفوفَ، ويُلهِب مشاعرَ المسلمين، بل يُنفِق ويعملُ بنفسِه.

أجل، لقد كان العامُ السابع أو الثامنُ عشرة للهجرة موعداً لقدرٍ ربانِيٍّ لحصول مجاعةٍ وقحطٍ شديدٍ أصاب المسلمين في المدينةِ النبويةِ وما حولها، وسُمِّي ذلك العامُ بعامِ الرمادة، ويُعرِّفُ الإمام الطَّبَريُّ رحمه الله الرمادةَ بقوله: كانت الرمادةُ جوعاً أصابَ الناسَ بالمدينة ومَنْ حولَها، فأهلكهم، حتى جعلتِ الوحوشُ تأوي إلى الإنس، وحتى جعلَ الرجلُ يذبحُ الشاةَ فيعَافُها من قُبحِها وإنه لمُقفِرٌ.

إخوةَ الإسلام: بل تجاوزتِ المجاعةُ في عهدِ الفاروقِ عمرَ –رضي الله عنه- المدينةَ وما حولَها إلى أرضِ اليمن، فقد روى ابنُ سعدٍ: أن رجلاً من اليمنِ جاء إلى عمرَ وهو نائمٌ في المسجد، فنادى: واعُمَراهُ! فاستيقظ عمرُ مذعوراً وركضَ إلى الصوت، وإذا بأعرابِيٍّ ممسِكٍ بخِطَام بعيره، والناسُ من حولِه، فلما نظرَ إلى عمرَ قال الناسُ: هذا أميرُ المؤمنين، فقال عمرُ: مَن آذاك؟ وظنَّ أنه مظلومٌ، فقال أبياتاً من الشِّعر ذكرَ فيها الجَدْبَ، فوضعَ عمرُ يدَه على رأسِه، ثم صاح: تدرونَ ما يقول؟ يذكرُ جَدْباً وأستاتاً -يعني ضِيقاً وجوعاً- وأن عمرَ يشبعُ ويَرْوَى والمسلمون في ضيقٍ! ثم دعا الصحابةَ وقال: من يُوصِلُ إليهم المِيرةَ والتمرَ وما يحتاجون إليه؟ فوجَّهَ رجلين من الأنصار ومعهم إبلٌ كثيرةٌ عليها المِيرةُ والتمرُ، فدخلا اليمنَ وقسَّما ما كان معهما.

هكذا -إخوةَ الإسلام- كان عمرُ والمسلمون معه يتعاملون مع الكوارِثِ الواقعةِ على إخوانِهم المسلمين ولو كانوا بعيدينَ عن مركزِ الخلافةِ، أما تعاملُ عمرَ والمسلمين معه في مَجاعةِ الرَّمادةِ في المدينة وما حولها فالأمرُ أعجبُ.

لقد كشفتِ المجاعةُ الواقعةُ في عهدِ عمر عن قوَّةِ عمرَ وعدلِه، وعن نظرتِه للمسلمين وإنصافِه من نفسِه. كيف لا؟ والخليفةُ عمرُ يُقسِمُ أن لا يأكلَ سمناً ولا لحماً حتى يحيا الناسُ!.

ولقد كتبَ عمرُ -رضي الله عنه- إلى أمرائِه على الأمصارِ مستصرِخاً مستغيثاً ويقول: مِن عبدِ الله عمرَ أميرِ المؤمنين إلى فلانِ بن فلان، أما بعدُ: فإنَّ العربَ قد دفَّت إلينا ولم تَحمِلْهم بلادُهم، ولا بدَّ لهم من الغَوْثِ، الغوثَ، الغوثَ! حتى ملأَ الصحيفةَ، فربما كان في الصحيفةِ مائتا مرةٍ.

وكان أمراؤُه عندَ حسنِ الظنِّ بهم وعند حدودِ المسؤوليةِ المُناطةِ بأعناقِهم، وهذا يزيدُ بن أبي سفيان -وهو أحدُ الأمراءِ في الشام- يَردُّ على الخليفةِ بقوله: لُبِّيَت، لُبِّيتَ، يا أميرَ المؤمنين، أتاك الغوثُ، بعثتُ إليك عِيراً أولُها بالمدينةِ وآخرُها بالشام.

وما كان لعمرَ -رضي الله عنه- أن يستصرخَ الناسَ ويقعدَ بنفسِه عن العمل، وهذا أبو هريرة -رضي الله عنه- شاهدُ عِيانٍ لمشاركةِ عمرَ في الإغاثة إذ يقول: لقد رأيتُه -عامَ المجاعةِ- وإنَّه ليحمِلُ على ظهرِه جِرابينَ وعُكَّةَ زيتٍ في يدِه.

بل زاد الفاروقُ من اهتمامِه بالمحتاجين فلم يكتفِ بحملِ الطعامِ وصُنعِه لهم، بل رأى من واجبِه أن يرى الفَرْحةَ تَغمُرُ أطفالَهم بعد أن خيَّمَ الحزنُ عليهم، وأقَضَّ البكاءُ مضاجعَهم.

ودونَكم هذه الروايةَ -عند الطبريِّ- يرويها زيدُ بن أسلمَ عن أبيه ويقول: خرجتُ مع عمرَ بنِ الخطاب –رضي الله عنه- إلى حَرَّةِ واقمٍ، حتى إذا كنا بِصِرَار، إذا نارٌ تُؤرَى. فقال: يا أسلمُ، إني أرى هؤلاءِ ركباً قَصَّر بهم الليلُ والبردُ، انطلِقْ بنا، فخرجْنا نهروِلُ حتى دنونا منهم، فإذا امرأةٌ معها صِبيانٌ لها، وقِدْرٌ منصوبةٌ على النار، وصبيانُها يتضاغَوْنَ، فسلَّمَ واستأذن: ما بالُكم؟ قالت: قَصَّر بنا الليلُ والبرد، قال: فما بالُ هؤلاءِ الصبيةِ يتضاغَوْنَ؟ قالت: الجوع، قال: وأيُّ شيءٍ في هذه القِدْر؟ قالت: ماءٌ أُسكِّتهم به حتى يناموا، اللهُ بينَنا وبينَ عمر! قال: أيْ رحمَكِ اللهُ، وما يُدري عمرُ بكم؟! قالت: يتولَّى أمرَنا ويَغفُلُ عنا؟.

قال أسلمُ: فأقبل عليِّ عمرُ وقال: انطلقْ بنا، فخرجنا نهرولُ حتى أتينا دارَ الدَّقيقِ، فأخرج منه طعاماً، وقال: احمِلْه عليَّ، فقال أسلمُ: أنا أحملُه عنك، فردَّ عمرُ: بل احمِلْه عليَّ، فلمّا كرَّر عليه أسلمُ القولَ غضب عمرُ وقال: أنت تحملُ عني وِزْري يومَ القيامة؟ لا أمَّ لك، فحمله عليه.

ثم انطلقا حتى وصلا المرأةَ وأطفالَها، فبدأَ عمرُ يصنعُ لهم الطعامَ حتى رُئي الدخانُ يخرجُ من خَلَلِ لحيتِه الكثيفةِ، ولم يزلْ كذلك حتى نَضِجَ الطعامُ وأفرغَ للمرأةِ وصبيانها فأكلوا حتى شَبِعوا حتى شكرتْ له المرأةُ صنيعَه -وهي لا تعرفه- وقالت: أنت أَولى بهذا الأمرِ من أميرِ المؤمنين، فردَّ عليها عمرُ: قولي خيراً، وإنك إذا جئتِ أميرَ المؤمنين وجَدْتِّني هناك.

يقول أسلمُ: ثم تنحَّى عنهم ورَبَضَ مربِضَ السَّبُع، فجعلتُ أقول له: إن لك شأناً غيرَ هذا؟ وهو لا يكِّلمني، حتى رأيتُ الصبيةَ يصطرعون ويضحكون ثم ناموا وهدؤوا، فقال وهو يَحمَدُ الله، ثم أقبل عليَّ فقال: يا أسلمُ، إن الجوعَ أسهرَهم وأبكاهم، فأحببتُ أن لا أنصرفَ حتى أرى ما رأيتُ منهم.

عجباً لك يا ابنَ الخطابِ! فلقد كنتَ في الجاهلية نموذجاً للغِلْظةِ والشدة حتى تدفنَ ابنتَك وهي حية وهي تنفُض الترابَ عن لحيتك، ثم أنت في الإسلامِ يُقلقُ مضجَعَك بكاءُ الجوعى لا من بيتِك وعائلتِك؛ بل من أبناءِ المسلمين وخارج المدينة، ولا تكتفي بحملِ الطعام وصُنعِه؛ بل تنتظرُ حتى تتبدَّلَ مشاعرُ الأسى بالفرحةِ والأُنس.

إنه الإسلامُ، جعل منكَ عظيماً في كل شيءٍ، وليس إغاثةُ الملهوفِينَ إلا جزءاً من هذه العَظَمة، حتى أشفقَ الصحابةُ على عمرَ من شدَّةِ اهتمامِه بالمسلمين، ويقول الصحابةُ المعاصرون له: لو لم يرفِع اللهُ المَحْلَ عامَ الرمادة لظنَنّا أنَّ عمرَ يموتُ همًّا بأمرِ المسلمين.

بل تتجاوزُ الَعظمةُ في شخصيتِك، وتصلُ بك نُبْلُ المشاعرِ وبواعثُ الرحمةِ، على أن تتجاوزَ بني الإنسان إلى الرأفةِ بالحيوان، ويؤثَرُ عنك القول: واللهِ! لو أنَّ بغلةً سقطتْ في العراقِ لكان عمرُ مسؤولاً عنها: لِمَ لمْ تمهِّدْ لها الطريقَ يا عمرُ؟!.

الله أكبرُ! إنها نماذجُ للرحمةِ والإيثارِ والعطفِ على الحيوانِ فضلاً عن بني الإنسانِ، يحثُّ عليها الإسلامُ ويتمثَّلُها المسلمون كلَّما استيقظَ واعظُ القرآنِ في النفوس: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان:8].

وإذا شَمِلَ الإطعامُ غيرَ المسلمين، فالأَسرى حين نزولُ الآياتِ من غيرِ المسلمين –كما أكَّد على ذلك العلماء- فالمسلمون من باب أَوْلى.

وأين المسلمون من هَدْيِه -عليه الصلاةُ والسلام- وقد سُئِلَ: أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟ فأجاب: "تُطعِمُ الطعامَ وتقرأُ السلامَ على مَن عرفتَ ومَن لم تَعرِفْ" رواه البخاريّ.

الخطبةُ الثانية:

الحمدُ لله ربِّ العالمين مالكِ يومِ الدين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ ولِيُّ الصالحين، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه إمامُ المتقين، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ النبيين.

أيها المؤمنون: ومن مجاعةِ القرنِ الأول الهجريِّ وكيف تجاوزَ المسلمون مِحنةَ الرمادةِ، أتحدَّثُ إليكم عن مجاعةِ القرنِ الخامسَ عشرَ الهجريِّ، والكارثةِ الواقعةِ والمتوقَّعة في بلادِ الأفغان، وليس يخفى أنَّ البلاد، وطوالَ ما يقرُبُ من ربعِ قرنٍ تعيش حرباً متواصلة، فَقَدَ فيها عددٌ من الأُسرِ عائلَها، وهاجرتْ أعدادٌ أخرى من مساكنِها، وأصبح عددٌ ثالثٌ لا يملكُ من الحياةِ إلا خيمةً لا تكادُ تتوفَّرُ فيها عددٌ من ضَرُورياتِ الحياة فضلاً عن كماليّاتِها، وأصبح -مع الأسفِ- عددٌ من هذه الأُسَر فريسةً لمنظَّماتٍ تنصيرية جاءتْ إلى أفغانستانَ تحت عباءةِ الإغاثةِ الإنسانية!.

لقد عانى الشعبُ الأفغانِيُّ كثيراً في جهادِه ضدَّ المحتلِّين الرُّوس، ولكن انتصارَه في النهايةِ على الروس –وبدعمٍ من العالم الإسلامي- أنساه بعضَ معاناتِه، لكنه عادَ من جديدٍ يتحمَّل ويلاتِ الحرب ويتجرَّعُ بكلِّ مرارةٍ الصراعَ بين الفصائلِ الأفغانية بعد طردِ الروس.

ولم يكدْ يَذُقْ طعمَ الاستقرار بعد إزاحةِ هذه الفصائلِ وتوحيدِ معظم البلاد على يدِ (طالبان) حتى قُرعَت طبولُ الحربِ الأمريكية ومعها الحلفاءُ ضدَّ هذا البلدِ المسلم.

أجلْ، لقد أكلتِ الحروبُ السابقةُ الأخضرَ واليابس، ثم جاء الجفافُ ليضربَ كلَّ ما تبقَّى، ويتركَ الأسرةَ الأفغانية مجرَّدة من معظمِ أسباب الحياة، إلا إيمانَها وتوكُّلَها وتقشُّفَها وصبرَها، ولا يعلم إلا اللهُ ما مصيرُها وما حالُ هذه الأُسر في حال نشوبِ حربٍ جديدةٍ تُستخدَمُ فيها الآلاتُ الحربيةُ المدمِّرةُ من قِبَل الحلفاءِ!.

إن المراقبين يتوقَّعون نزوحَ ملايينِ اللاجئينَ على حدودِ أفغانستانَ؛ بل إنهم استَبَقُوا الأحداثَ وشاهد الناسُ نماذجَ لهؤلاء اللاجئين المهاجرين وهم يتدفَّقونَ بحثاً عن الملجَأ والغذاءِ، وكم هي مأساةٌ حين تَعجِزُ دولُ الحدودِ عن استيعابِ هؤلاءِ المهاجرين فتمنعُهم من الدخول إلى أراضيها! وهم لا يَجِدُون ما يأكلون أو يستظلُّون به في بلادِهم، فيكون الموتُ الجماعيُّ وحَتْفُ الأنفسِ مصيراً بائساً لعددٍ من هؤلاءِ المهاجرين اللاجئين المسلمين.

والمأساةُ أعظمُ حين تَنشَطُ المؤسَّساتُ الإغاثيةُ التنصيرية لاستقبالِ هؤلاء فتُؤوِيهم وتدعمُهم باليدِ وتُنصِّرُهم، أو على الأقل تُفسِدُ عليهم إسلامَهم باليد الأخرى، وقد سمع العالَمُ عن عددٍ من هذه الهيئاتِ بدأتْ تستعدُّ للإغاثة في أعقابِ الحرب، وعجباً لهذا التناقضِ! فالذي يضربُ ويُحدِثُ الأذى وينشئ الفقراءَ هو الذي يطعمُ ويُؤْوي ويَظهرُ في أعين البسطاء وكأنه المنقذُ من المأزق، والمتقدِّمُ حين تأخَّرَ الآخرون!.

إن المسلمين أَوْلى بإخوانِهم المسلمين في حالِ السِّلْم أو في حالِ الحرب إذا ما وُجِدَت الحاجةُ عند أحدٍ من إخوانِهم المسلمين بشكلٍ عامّ، فكيف إذا اشتدَّتِ الحاجةُ للمساعدة؟.

إنَّ التقاريرَ تقولُ: إنَّ أعلى معدَّلٍ لوفياتِ الأطفال في أفغانستانَ وسيراليون وموزمبيق، ووَفْقاً لتوقُّعاتِ مسؤولين بمكاتبِ الأممِ المتحدةِ في إسلام آباد فإن ما بين خمسةِ إلى ستةِ ملايين أفغانِيٍّ معرَّضين لخطرِ المجاعة، ونِسَبُ الأطفالِ فيهم عالية، بل إن ثُلثَ الأطفال دون سنِّ الخامسة معرضون لها.

وتُشيرُ التقارير كذلك إلى أن مخزونَ الغذاءِ والدواء في حالِ حدوثِ ضربةٍ لأفغانستان لن يكفيَ الشعبَ الإفغاني إلا لأسبوعٍ فقط، وسواء صحَّت هذه التقاريرُ أو لم تصحَّ فنحن على ثقةٍ بأن الله هو الرزّاقُ ذو القوةِ المتينُ، وأنه المُحْيي والمميتُ.

لكن؛ يا أُمةَ القرآن، ماذا نقولُ لربِّنا إذا سألَنا عن موتِ هؤلاء الأطفالِ المسلمين ونحن قادرونَ على إغاثتِهم؟ هذا في الآخرة؛ أمَّا في الدنيا فماذا سيقولُ العالَم عنا -معاشرَ المسلمين- ونحن نتركُ هؤلاءِ الأطفالَ يموتون حتفَ أنفهم، ولربما سبقتْ إلى استبقاءِ حياة بعضِهم مؤسَّساتٌ لا تَمُتُّ للإسلامِ ولا للمسلمين بأدنى صِلَة.

إن أمريكا أرادت أن تُحرِجَ العالمَ بضربتِها العسكرية، وذلك حين بدأتْ تجمعُ التأييدَ من دولِ العالم -بما في ذلك العالَمِ الإسلاميّ- لضربِ أفغانستان، وهي تُصِرُّ بل ترضى اشتراكَهم بأيِّ شكلٍ من الأشكال، وهي اليومَ تُحرِجُهم في التقدم لإغاثةِ اللاجئين والمهاجرين الأفغان، إذ تُعلِنُ الأُممُ المتحدة من توجُّهِها لجمع 584 مليونَ دولارٍ من المساعداتِ لمنعِ وقوع كارثةٍ إنسانيةٍ في أفغانستان، وقد وعدَتْ أمريكا بتقديمِ حِصَّتِها من هذه المساعدات، وأعلَنتِ اليابانُ عن تحمُّلِها عشرين بالمائة 20% من المبلغ المعلنَ من قِبَل الأمم المتحدة.

وكأنَّ أمريكا أرادت أن تُشرِكَ العالمَ كلَّه بمُصابِها، وباسمِ محاربةِ الإرهاب وتحقيقِ العدالة. وأين جِدِّيّتُها في هذه الدعوى في منعِ الإرهاب اليهوديِّ في فلسطين؟ وأين عدالتُها في التعاملِ مع قضايا المسلمين؟ وهي التي صنعتْ ما صنعت في (تيمورا الشرقية) في أندونيسيا، وما نسيَ العالمُ العربِيُّ والإسلاميُّ ضربَها لمصنعِ الأدويةِ في السودان، وما نسوا مواقفَها المُشينةَ مع الصِّرب النصارى في (البوسنةِ والهرسكِ) حين أقامتْ لهم دولةً مستقلةً رغمَ وحشيَّتِهم، بينما تركتِ المسلمين يُحكَمون بالمندوبِ السامي.

وما نسيَ العالمُ مأساةَ (هيروشيما ونجازاكي) ولا الضربَ الأمريكيِّ لـ(فيتنام) إلى غير ذلك من حوادثَ ووقائعَ تقومُ بها أمريكا بنفسِها أو تقيمُ غيرَها بالوكالة، ولذا فثَمَّةَ أصواتٌ عاقلةٌ في أمريكا بدأتْ تدعو لمراجعة النظرِ في السياسةِ الأمريكية في الخارج، ويقولون: إن هذه الضربةَ الأخيرةَ رَجْعٌ للصَّدى، وإعادةٌ للبضاعةِ المُزْجاةِ على أصحابها.

ومع ذلك، فنصيحتي للمسلمين عموماً، كِباراً أو شباباً، بضَبْط النفسِ والتعاملِ مع الأحداث بهدوءٍ وروِيَّةٍ ووَفْقَ توجيهاتِ الكتاب والسُّنة، حتى لا يتصرفَ أحدٌ اليومَ تصرفاً يندَمُ عليه غداً، وأن تظلَّ أحكامُنا مرتبطةً بميزانِ القرآن، من مثلِ قوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة:217].

معاشرَ المسلمين: إننا في صددِ الحديثِ عن إغاثةِ الشعبِ الأفغانِيِّ نذكرُ دعمَ المملكة بمبلغِ عشرةِ ملايين دولار، ونأملُ أن يكونَ لهذا الدعمِ ما بعدَه، وأن يتحرَّكَ المسلمون حكوماتٍ وشعوباً لدعم إخوانِهم في أفغانستان، بل وفي كلِّ مكان يحتاجُ فيه المسلمون إلى دعمٍ ومساندة.

وإذ سمعتم أن الفاروقَ -رضي الله عنه- يعتبرُ نفسَه مسؤولاً عن الدابةِ تموتُ في أرضِ العراق: لِمَ لَمْ يُمهِّد لها الطريق؟ فكيف بموتِ آلافٍ؛ بل ملايين من البشرِ المسلمين لا تصلُ إليهم حاجتُهم من الطعامِ أو الكساء، أو تصلُ إليهم بجهودِ اليهود والنصارى والمشركين فيسدُّون جَوْعةَ بطونهم، وتظلُّ قلوبُهم من الإيمانِ والإسلام جَوْعى؟!.

إنكم معاشرَ المسلمين تُدعَوْنَ اليومَ للإنفاق، وتُمتحَنون في أموالكم، وكما تُسألون: من أين اكتسبتُموها؟ فتسألون: وفيمَ أنفقتُموها؟

وهنا أَلِفت النظرَ إلى حكمٍ شرعيٍّ يقضي بتقديمِ الزكاة عند وجودِ الموُجِبِ لذلك، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميّةَ -رحمه الله-: وأما تعجيلُ الزكاةِ قبل وجوبِها بعد سببِ الوجوبِ فيجوزُ عند جمهورِ العلماءِ كأبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ.

وليس يخفى حاجةُ المسلمين الأفغانِ من قبلِ الحصارِ ومن بعدِه، وسواءٌ وقعتِ الضربةُ أم لم تقعْ، فأَرُوا اللهَ من أنفسِكم خيراً، وانصُروا إخوانكم، ولا يَسبِقنَّكم غيرُ المسلمين.

اللهمَّ أغْنِ فقراءَ المسلمين، وسُدَّ حوائجَهم، وثبِّتْ على الحقِّ أقدامَهم، وانصُرهُم على القومِ الكافرين.

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ...