التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
من ينظر إلى حياة الأفراد والشعوب والمجتمعات والدول يجد أنها بنت ملاجئ مثل الكهوف تحت الأرض لتحمي أفرادها من الفتن والحروب والصراعات.. ولأن حياتنا اليوم تعصف بها الكثير من الفتن والصراعات والحروب، ويعتريها الهمّ والقلق، ونحتاج بسبب ذلك كله إلى كهف نجد من خلاله النجاة، فقد أمرنا ديننا يوم الجمعة من كل أسبوع بقراءة سورة الكهف؛ لأن فيها طوق نجاة، وقد تطرقت لأسباب الكثير الاختلالات في دين وسلوك الإنسان وحياته...
الخطبة الأولى:
الحمد للَّه رب الأرض ورب السماء، خلق آدم وعلمه الأسماء وأسجد له ملائكته وأسكنه الجنة دار البقاء، نحمده -تبارك وتعالى- على النعماء والسراء، ونستعينه على البأساء والضراء، ونعوذ بنور وجهه الكريم من جهد البلاء ودرك الشقاء وعضال الداء وشماتة الأعداء..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ليس له أنداد ولا أشباه ولا شركاء.. وأشهد أن سيدنا محمدًا خاتم الرسل والأنبياء وإمام المجاهدين والأتقياء، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجلاء وعلى السائرين على دربه والداعين بدعوته إلى يوم اللقاء ما تعاقب الصبح والمساء ومادام في الكون ظلمة وضياء.
أما بعد: عباد الله: لا شك أن الحياة الدنيا على رغم اتساعها وامتدادها كهف مظلم موحش ومخيف، وفيه من التعب والكدح، والفتن والمصائب والابتلاءات، والمعاناة النفسية والجسدية ما لا يُطاق، ولا تستطيع أن تتحمله النفوس، ولولا نعمة الإيمان بالله ورحمته بعباده وتفضله عليهم ولطفه بهم وصبره وإمهاله وعفوه لكثير من ذنوبهم ومعاصيهم لهلك الإنسان وانتهت الحياة، فكان الإيمان بالله ومعرفته وإقامة دينه واتباع رسله بمثابة النور الذي يهدي في ظلمات الكهف قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122].. وقال سبحانه: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)[سورة الحج: 30]..
وهذا الإيمان يثمر العمل الصالح الذي يضيء لصاحبه ظلمات الحياة الدنيا والآخرة.. قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور: 39-40].
ومن ينظر إلى حياة الأفراد والشعوب والمجتمعات والدول يجد أنها بنت ملاجئ مثل الكهوف تحت الأرض لتحمي أفرادها من الفتن والحروب والصراعات.. ولأن حياتنا اليوم تعصف بها الكثير من الفتن والصراعات والحروب، ويعتريها الهمّ والقلق، ونحتاج بسبب ذلك كله إلى كهف نجد من خلاله النجاة، فقد أمرنا ديننا يوم الجمعة من كل أسبوع بقراءة سورة الكهف؛ لأن فيها طوق نجاة، وقد تطرقت لأسباب الكثير الاختلالات في دين وسلوك الإنسان وحياته.. قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين" (صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 736).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من فتنة الدَّجال" (صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة582).. وعن أبي الدرداء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال، وفي رواية من آخر سورة الكهف" (رواه مسلم).
أيها المؤمنون: عباد الله: لقد عالجت سورة الكهف بما فيها من توجيهات ربانية وقصص وأخبار غيبية وأحداث وقعت في الدهور الغابرة أعظم أنواع الفتن التي تصيب الإنسان والتي نعيشها في واقع حياتنا اليوم، وهي فتنة الدين، وفتنة المال، وفتنة العلم، وفتنة السلطة والمنصب والسلطان، وسنتحدث عن جميع هذه الفتن بشيء من التفصيل والتوضيح تربيةً لنفوسنا وتزكية لأخلاقنا وتثبيتا لإيماننا وتأصيلاً للقيم ودرءاً للفتن..
وحديثنا اليوم هو عن فتنة الدين وهي من أعظم الفتن وأخطرها.. قال كثير من المفسرين والمؤرخين وغيرهم عن أصحاب الكهف أنهم: كانوا في زمن ملك يقال له دقيانوس، وكانوا من أبناء الأكابر، واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم، فرأوا ما يتعاطاه قومهم من السجود للأصنام والتعظيم للأوثان، فنظروا بعين البصيرة، وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة، وألهمهم رشدهم، فعلموا أن قومهم ليسوا على شيء، فخرجوا عن دينهم، وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له (البداية والنهاية: 2/135)..
كانوا من أبناء الأكابر والأغنياء وجدوا انحراف قومهم عن الدين بعبادتهم الأصنام والأوثان والتعلق بالدنيا ونسيان الآخرة، فحاولوا إصلاح ما يمكن إصلاحه (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) [الكهف: 14 و15]، لكنهم تعرضوا لحرب شعواء واضطهاد فخافوا على دينهم وعقيدتهم التي هي رأس مالهم، فقرروا اللجوء إلى كهف مظلم موحش مخيف ضيق ليحفظوا دينهم.. تباً للحياة في القصور العالية بدون دين.. تبّاً للحياة بأموالها وكنوزها بدون دين.. تباً للحياة بمناصبها وسلطانها بدون دين.. تبّاً للحياة بأتباعها وجنودها بدون دين.... قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا* إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) [الكهف 9-10]..
إن حسن الظن بالله دفع الفتية أصحاب الكهف الذين خالفوا القريب والبعيد في سبيل مرضاته سبحانه، ففارقوا أقرب الناس فرارًا إلى الله وطلباً لرضاه وخوفاً على دينهم، من الشرك والفسوق والعصيان.. واستبدلوا لأجل مرضاته ضيق الكهف بسعة العيش الرغيد، فما كان إلا أن وسعه الله عليهم بما نشر لهم فيه من رحمته (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً) [الكهف: 16].
وتأملوا قوله تعالى: (يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته)، فيعلم العبد أن رحمة الله واسعة إذ بعضها أو قدر معلوم عند الله منها؛ يكفي ليجعل ذلك الكهف أو ذلك السجن أو تلكم الزنزانة جنة أو روضة من رياض الجنة.. وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة. فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم، ويهجرون ديارهم، ويفارقون أهلهم. ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة. هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم..كل ذلك لتبقى جذوة الإيمان والعقيدة متقدةً في القلوب وتظهر آثارها على الجوارح ومن خلالها تبنى الدنيا وتعمر الآخرة..
فكتب الله عليهم أن يناموا في هذا الكهف ثلاث مائة وتسعة أعوام، وتكفل بحفظهم حتى ذهب الملك الظالم والمجتمع الذي تلوث بالوثنية والكفر والإلحاد.. قال تعالى: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف 11-13].
عباد الله: لقد تعرض رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأصحابه لفتنة الدين بالالتزام به وتطبيقه في واقع الحياة والدعوة إليه، والعمل في سبيله، والجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، وفُتنوا في دينهم بالترغيب والترهيب، وعُرضت عليهم الأموال والمناصب والجاه والسلطان، وتعرضوا للعذاب والحصار والسجن والقتل والنفي من الأرض، وتركوا الأهل والأولاد، وثبتوا على ذلك، وعُرضت عليهم أنصاف الحلول بحيث يُعبَد الله عاماً وتُعبَد آلهتهم عاماً، فما كان إلا الثبات على الدين الحق رغم المعاناة والدماء والأشلاء.
وهاجروا بدينهم وفروا به من الظلم والكفر والطغيان، وبحثوا عن كهف النجاة، فهاجروا إلى الحبشة، ثم إلى المدينة تاركين كل شيء يتعلق بحياتهم منذ نعومة أظفارهم، وفارقوا القريب والبعيد ليحافظوا على دينهم وعقيدتهم، ولم يكتفوا بذلك بل ساحوا في الأرض يدعون الناس ويبلغونهم دين الله وواجهتهم الكثير من العقبات والصعاب فصبروا وثبتوا.. قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 173-174]..
لقد أراد الصحابي الجليل صهيب الرومي الهجرة إلى المدينة فراراً بدينه ولحاقاً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان تاجراً ذا مال وفير فتبعته قريش وقالوا: "والله لا ندعك تلحق بصاحبك، لقد أتيتنا صعلوكاً لا مال لديك، والآن تريد أن تهاجر، والله لن ندعك، فقال: يا معشر قريش أرأيتم إن أخبرتكم أين مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، فدلهم على ماله، وهاجر بدينه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه سلّم عليه وقال له: ربح البيع أبا يحيى.. ربح البيع أبا يحيى، وأنزل الله قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة:207]..
لما كانت ليلة الإسراء قال -صلى الله عليه وسلم- قال: وجدت رائحة طيبة فقلت: ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها، قلت ما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت: بسم الله: فقالت بنت فرعون: أبي؟ فقالت: لا ولكن ربي وربك ورب أبيك الله، قالت: وإن لك ربا غير أبي؟ قالت: نعم، قالت: فأعلمه بذلك؟ قالت: نعم، فأعلمته، فدعا بها فقال: يا فلانة! ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله الذي هو في السماء، فأمر بقدر من نحاس فأحميت ثم أخذ أولادها يلقون فيها واحدا بعد واحد، فقالت: إن لي إليك حاجة! قال: وما هي؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام أولادي في ثوب واحد فتدفنا جميعا! قال: ذلك لك لما لك علينا من الحق، فلم يزل أولادها يُلْقَوْن في القدر حتى انتهى إلى ابن لها رضيع، فكأنما تقاعست من أجله فقال لها: يا أماه! اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ثم ألقيت مع ولدها (رواه أحمد والبزار وابن حبان والحاكم وغيرهم).
إن عملها هذا جعل لها رائحة طيبة وذكرًا طيبًا في السماوات العلى... لقد كانت تستطيع أن تحول بينها وبين هذا العذاب وقتل أولادها وعذابهم.. بكلمة كفر تسمعها لفرعون أو حتى كلمة تجامله فيها.. لكنها علمت أن الجزاء من جنس العمل، وأن ما عند الله خير وأبقى.. وعلمت أن الدين لا يباع وأن العقيدة والقيم لا تشترى، وأن الباطل لا يمكن أن يصير حقّاً مهما علا ضجيجه وكثر أتباعه وأنصاره، وهكذا هو دين الله، وهكذا هم أتباعه في كل زمان ومكان يفتنون في دينهم فيثبتون عليه...
اللهم نور قلوبنا بالإيمان واشرح صدورنا بالإسلام وثبتنا عليه حتى نلقاك.. قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لقد حذر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من فتنة الدين فقال: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا؛ ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا" (مسلم: 169)..
وكيف يمسي مؤمناً ويصبح كافراً؟ وهل يعقل أن يبيع المرء دينه؟.. إن من صور فتنة الدين الشرك بالله واتخاذ أنداد من دون الله يعبدونهم ويتقربون إليهم، ويحلون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال.. عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ هذه الآية.. (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)[التوبة:31].. قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: "بلى! إنهم حرّموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم" (قال الألباني في تخريج الحلال والحرام ص20: حديث حسن).
ومن ذلك: الطواف بالقبور والأضرحة، وطلب النفع والضر من الأموات والاستغاثة بهم، وإتيان السحرة والمشعوذين وموالاة المشركين والملحدين والمنافقين، وعدم العمل بالقرآن وبالسنة وتطبيق أحكامهما في الحياة، وتكون فتنة الدين بمخالفته والاستهانة بأحكامه إرضاءً للنفس والهوى أو تحقيقاً لشهوة أو طمعاً في متاع أو تقرباً من فلان أو علان أو عصبية جاهلية لقبيلة أو حزب أو بلاد.. قال تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 62].
عباد الله: وقد تكون فتنة الدين بالسخرية والاستهزاء بأوامره وأحكامه، واعتقاد المرء أنها غير صالحة لزمانه ومكانه، وقد تكون بسوء فهمه، وتفسير أحكامه حسب الهوى، والتطرف والغلو فيه، والزيادة فيه ما ليس منه، وفصله وتحييده عن حياة الناس وسياستهم واقتصادهم ومعاملاتهم وسائر حياتهم، أو الأخذ منه ما يوافق النفس وترك ما خالف هواها...
وإن من أعظم فتنة الدين ارتكاب الكبائر والإصرار عليها واستحلالها، ومن أعظمها سفك الدماء واستباحت الأعراض والأموال.. وقد كَانَ الْحَسَنِ البصري يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: "يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، قَالَ: يُصْبِحُ الرّجُلُ مُحَرِّمًا لِدَمِ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ وَيُمْسِي مُسْتَحِلًّا لَهُ وَيُمْسِي مُحَرِّمًا لِدَمِ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ وَيُصْبِحُ مُسْتَحِلًّا لَهُ" (الترمذي 2198)..
وهو ما حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال في خطبة حجة الوداع: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" (متفق عليه).. وقد تكون فتنة الدين بالشحناء والبغضاء في القلوب لأنها الحالقة.. لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين..
فاحفظوا دينكم وأووا إليه فهو كهف النجاة من فتن الدنيا والآخرة.. وأقيموه في حياتكم وطبقوه في أعمالكم وسلوكياتكم، وأدوا ما فرض عليكم فيه من العبادات، واجتنبوا المحرمات وقوموا بالواجبات ووحدوا صفكم وتآلفوا فيما بينكم وبلغوا هذا الدين للعالمين، وكونوا خير قدوة..
واحذروا من سوء الفهم وسوء التطبيق لتوجيهات وأحكامه أو تفسيرها حسب الهوى والمصلحة، فما شرع الدين إلا ليطاع الله بما شرع، واتخذوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة في الالتزام والتطبيق والعمل ليكتب لكم السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، ويحفظكم كما حفظ أصحاب الكهف..
اللهم إنا نسألك إيماناً يباشر قلوبنا ويقيناً تستقيم به أحوالنا ورحمة تفرج بها كرباتنا واحفظ لنا ديننا حتى نلقاك.. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين..