القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
فهذه إطلالةٌ على نموذج من المحن والشدائد التي نزلت يوماً من الدهر بالمسلمين، وهذه لمحة خاطفةٌ عن بعض أحداث غزوة أُحد، ما أحرانا بتأملها، والاستفادة مِن عِبرها! ألا مَا أحوجنا في هذه الظروف إلى قراءة كتاب الله، بشكل عام، وإلى قراءة ما نزل تعقيباً على هذه الغزوة الكبيرة في تاريخ المسلمين، بشكل خاص!.
إخوة الإيمان: ونحن نقف على نهاية أيام عام هجري يؤذِن بالانصرام حريٌّ بنا أن نتأمّل ونتفكّر في أحداثه، وعِبره، وقد اشتمل على مسرّاتٍ وأحزان، وتوفّرت فيه الصحة لأقوام، وأقعد المرض آخرين، وفيه مَن شارف على الهلكة ثمّ متعه الله إلى حين، وفيه من فاجأته المنية، واخترمه ريب المنون، فيه قدّر ربّك الغنى لقوم، وأقنى الآخرين، وفيه أضحك ربّك وأبكى، وأمات وأحيا، وعليه النشأة الأخرى.
كما اشتمل العام على قتل فئام من الناس، وتشريد آخرين، وإيذاء طوائف من المسلمين، لا ذنب لهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [البروج:10].
أيها المسلمون: لا غرابة أن يقع هذا وغيره، فما هذه الديار بدار قرار، وليست خلواً من المنغصات والأكدار، ويعلم العارفون أن هذه الدنيا لا يدوم على حالٍ لها شأن، وأنها متاع الغرور، وأنها دار امتحان وابتلاء، ويخطئ الذين يغترّون بزينتها، فيفرحون بما أُوتوا وإن كان من حتفهم، ويأسون على ما فاتهم وإن كان خيراً لهم، وكذلك يوجه القرآن.
وما أسعد من يفقه توجيه القرآن! (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد:22-23].
إن المصائب والمحن في هذه الحياة الدنيا ليست قصراً على جيلٍ دون آخر، وليست خاصّةً بأمّةٍ دون أُخرى، بل هي عامةٌ في الأولين والآخرين من بني الإنسان، وتشمل الصالحين والطالحين، قال الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4]، وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].
ولكن الذي يختلف فيه الناس أسلوب التعامل مع مصائب الدنيا ونكدها، فإذا امتاز المؤمنون بالصبر والمصابرة، والرضا والتسليم بأقدار الله الجارية، مع بذل الجهد في تحصيل الخير وتحقيق العدل، ودفع المكروه والشر، ورفع الظلم في الأرض، فإن سواهم يضيق به الصدر، وتنقطع أوصاله من الحزن والقلق، ويُصاب بالضيق والإحباط، وربما ارتكب من الفواحش والآثام مازاد في ألمه، وضاعف مصائبه، وربما أودى بحياته تخلّصاً مما هو فيه، فانتقل إلى نكدٍ مؤبّد، وإلى عذابٍ دائم (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور:40].
إخوة الإيمان: واقرؤوا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمؤمنين معه، وستجدون أنهم نالوا من المصائب والمحن ما نالهم، ومنهم أزكى البشرية وأتقاها، وجيلهم خير أجيال المسلمين، وأنقاها، كلّ ذلك حتى يُمتحَن المؤمنون، ويعلمَ اللهُ الصابرين، ويكشف زيف المنافقين، وحتى يعلمَ هؤلاء، وتعلم الأمةُ من ورائهم قيمة الثبات على الحق، والصبر على الشدائد، حتى يأذن الله بالنصر والفرج.
وإذا كان الناس في حال الرخاء يتظاهرون بالصلاح والتقى، ففي زمن الشدائد يميز الله الخبيث من الطيب، ويثبت الله المؤمنين، ويلقي الروع في قلوب آخرين.
قفوا، معاشر المسلمين، عند غزوة أُحد، واقرؤوا بشأنها قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144]، وقوله: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [آل عمران:153]، وقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) [آل عمران:166-167].
ولقد كانت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تدرك هول المعركة وشدتها على الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين وهي تقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل مرّ عليكَ يومٌ كان أشدَّ عليكَ من يوم أُحد؟.
والواقع يشهد أن المسلمين حين خالفوا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واختل ميزان المعركة، أُسقط في أيديهم، وتساقط الشهداء منهم في ميدان المعركة، وفقدوا اتصالهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وشاع أنه قُتل، وفرّ مَن فرّ منهم، وأصابت الحيرة عدداً منهم، وآثر آخرون الموت على الحياة.
وخلص المشركون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجرحوا وجهه، وكسروا رباعيته، وهشّمت البيضة على رأسه، وكانت فاطمة -رضي الله عنها- تغسل الدم عن وجهه، وكان عليٌّ -رضي الله عنه-، يسكب عليها الماء، بالمحن، ولم يستمسك الدم حتى أحرقوا حصيراً، فلمّا كان رماداً ألصقوه بالجرح فاستمسك الدم، كما في الحديث المتفق على صحته.
وفي هذه الأجواء الصعبة، يثبت الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وينادي في المسلمين: إليَّ عباد الله! إليَّ عباد الله! قال تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ).
وفي ظل هذه الظروف العصيبة، يتنادى المسلمون، وتثبت طائفةٌ من شجعان المؤمنين، وتقاتل قتال الأبطال دفاعاً عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويخلص بعض المشركين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو في سبعةٍ من الأنصار ورجلين من قريش، فيقول -عليه الصلاة والسلام-: "مَن يردهم عنّا وهو رفيقي في الجنة؟"، فقاتلوا عنه واحداً واحداً حتى استشهد الأنصار السبعة.
ثم قاتل عنه طلحة بن عبيد الله قتالاً مشهوراً حتى شلت يده بسهم أصابها، وقاتل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه، وهو من مشاهير الرماة- بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يقول له: ارم، فداك أبي وأمي. وأبو طلحة الأنصاري الذي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: بأبي أنتَ وأمي، لا تشرفْ على القوم يصبك سهم من سهامهم، نحري دون نحرك!.
وهكذا يكون حال المؤمنين، حين تعصف بهم المحن، الصبرَ والثباتَ، والجهاد والتضحية حتى يأذن الله بالنصر أو يفوزوا بالشهادة، فينال المغنم في الدنيا، ويحظى بالدرجات العلى في الأخرى.
وهاك -فوق ما سبق- نموذجاً واعياً للثبات على الإسلام حتى آخر لحظة، والوصيّة للدفاع عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، حتى آخر رمق، يمثِّله الصحابي الجليل أنس بن النضر -رضي الله عنه- الذي كان يحث المسلمين على الجهاد ويقول: الجنة، ورب النضر! إني أجد ريحها ن دون أُحُد.
وعندما انجلت المعركة وُجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة ورمية وطعنة، ولم يعرفه أحد إلا أخته (الربيع)، عرفته ببنانه، وحين أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت ليتفقّدَه، وجده وبه رمق، فرد سلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: أجدني ريح الجنة، وقل لقومي من الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفيكم شفر يطرف. ودمعت عيناه.
وهاكم نموذجاً آخر، تمثّله النساء، وليست البطولات قصراً على الرجال، فالسُّمَيراء بنت قيس، يُصاب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحد، فلما نُعوا لها قالت: فما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: خيراً يا أمّ فلان، هو -بحمد الله- كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، حتى إذا رأته واطمأنت على حياته قالت كلمتها العظيمة: كل مصيبة بعدك جلل! أي: صغيرة. ألا إنه الوعي!.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، يحكم ما يشاء ويختار، لا معقّب لحكمه ولا رادّ لقضائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اللهم صلّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه إطلالةٌ على نموذج من المحن والشدائد التي نزلت يوماً من الدهر بالمسلمين، وهذه لمحة خاطفةٌ عن بعض أحداث غزوة أُحد، ما أحرانا بتأملها، والاستفادة من عبرها! ألا ما أحوجنا في هذه الظروف إلى قراءة كتاب الله، بشكل عام، وإلى قراءة ما نزل تعقيباً على هذه الغزوة الكبيرة في تاريخ المسلمين، بشكل خاص!.
وقد نزل حول أحداث غزوة أُحد ثمان وخمسون آية من سورة آل عمران، ابتدأت بذكر أوّل مرحلة من مراحل الإعداد لهذه المعركة: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) [آل عمران:121]، وتركت في نهايتها تعليقاً جامعاً على نتائج المعركة، وحكمتها، والله يقول: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران:179].
أجل، لقد تميز الناس على حقيقتهم في غزوة أحد، فكانوا ثلاث طوائف سوى الكفار، وإذا كان مر معنا طائفة من المؤمنين، ثبتت حول النبي -صلى الله عليه وسلم-، تحوطه، وتدافع عنه حتى استشهد من استشهد منهم، وجرح من جرح، فثمّة طائفة أخرى من المؤمنين، حصل منهم ما يحصل من توَلٍّ وفرار، واستنزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا؛ لكنّ اللهَ عفا عنهم؛ لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضاً، فعفا الله عنه، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران:155].
فعادت شجاعة الإيمان إلى مركزها ونصابها، وكذلك ينبغي أن يكون سلوك المؤمنين إذا وقعوا في الخطأ، وذكروا تذكروا فإذا هم مبصرون، واستغفروا لذنوبهم، وعادوا إلى قافلة المؤمنين؛ أما الذين يستمرئون الخطأ، ويبصرون على المعاندة، وإيذاء المؤمنين، مع علمهم بالحق وأهله وبالباطل وجنده، فأولئك في قلوبهم مرض، وسيكشف الله أضغانهم، وسيفضحهم في جوف بيوتهم.
إخوة الإيمان: أما الطائفة الثالثة التي أراد الله لها أن تتكشف على حقيقتها في غزوة أُحد، فهي طائفة المنافقين، وللإمام ابن القيّم، رحمه الله، كلام جميل في الفصل الذي عقده للحِكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد.
ومما قاله بشأن المنافقين: ومنها أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهراً مَن ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله -عز وجل- أن سبّب لعباده محنةً ميّزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلّموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخبآتهم، وعاد تلويحهم تصريحاً.
وانقسم الناس إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدوّاً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرّزوا منهم، قال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاء) [آل عمران:179]، أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما ميزهم بالمحنة يوم أحد، وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز به هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يريد أن يميزهم تميزاً مشهوداً، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادةً، وإن كان مَن يجتبي من رسله يطلعهم على ذلك. اهـ.
إخوة الإسلام: وكذلك ينبغي أن تكون الشدائد والمحن في كل زمان فيصلاً لتمييز المؤمنين، وفضح المنافقين.
ومن الحكم الجليلة التي ذكرها ابن القيم، رحمه الله، لهذه الغزوة، وهي صالحة للاستفادة منها في كل نازلة ومحنة تقع بالمسلمين: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيما يحبون ويكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقاً وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والعافية.
ومن هذه الحكَم أن اللهُ -سبحانه- إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها -بعد كفرهم- بغيهم وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم.
وقد ذكر -سبحانه وتعالى- ذلك في قوله: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:139-141].
ألا ما أعظم هذه الحكم! وما أحوج المسلمين إلى تذكّر هذه العبر! وقد وردت روايات تفيد الصلاة على شهداء أحد لكنها لا تقوى على معارضة أحاديث نفي الصلاة عليهم، فكلها متكلّم فيها، وقد دفن الاثنان والثلاثة في قبر واحد، وحمل بعضَ الشهداء أهلوهم ليدفنوهم في المدينة فأمرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدفنهم في أماكن استشهادهم بأحد.
ولما انتهى من دفن الشهداء صفّ أصحابه، وأثنى على ربه فقال: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللتَ، ولا مضلّ لمن هديتَ، ولا معطي لما منعتَ، ولا مانع لما أعطيتَ، ولا مقرّب لما باعدتَ، ولا مباعد لما قرّبتَ.
اللهمّ ابسط علنيا من بركاتك، ورحمتك، وفضلك، ورزقك، اللهمّ إني أسألك النّعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهمّ إني أسألك النعيم يوم العيلة (أي الفاقة)، والأمن يوم الخوف، اللهم عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعت.
اللهم حبِّبْ إلينا الإيمان وزيِّنْه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهمّ توفّنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أُوتوا الكتاب. إله الخلق!". ثم ركب فرسه ورجع إلى المدينة.