المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لست بمستكثر إطالة الحديث عن حصائد الألسن؛ وذلك لكثرتها في واقع الناس من جانب، وغفلتهم عن آثارها من جانب آخر، ولأن اللسان -غالباً- ترجمان للجوارح، فمن كان قلبه طاهراً نقيًّا لم يتفوه لسانه إلا بخير، ومن كان قلبه دون ذلك كشفه لسانُه، وفضحه على رؤوس الأشهاد، مثل فضيحة يوم المعاد، وهكذا الشأن في العينين والأذنين واليدين والرجلين، فهي ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره...
إخوة الإسلام: لست بمستكثر إطالة الحديث عن حصائد الألسن؛ وذلك لكثرتها في واقع الناس من جانب، وغفلتهم عن آثارها من جانب آخر، ولأن اللسان -غالباً- ترجمان للجوارح، فمن كان قلبه طاهراً نقيًّا لم يتفوه لسانه إلا بخير، ومن كان قلبه دون ذلك كشفه لسانُه، وفضحه على رؤوس الأشهاد، مثل فضيحة يوم المعاد، وهكذا الشأن في العينين والأذنين واليدين والرجلين، فهي جوارح متحركة، واللسان معبر عن حركاتها.
وحيث سبق الحديث عن أنواع من آفات وحصائد الألسن، فنستكمل اليوم آفات أُخَر.
ومن تلك الآفات كثرة المزاح والمداومة عليه، لأنه نوع من الغفلة عن الآخرة، وتزجية للوقت بما لا ينفع، فضلاً عن كونه مفضياً لكثرة الضحك، وكثرة الضحك تميت القلب، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" متفق عليه.
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قَلَّ حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.
وليس بغائب عن ذهنك -يا أخا الإسلام- أن قليل المزاح مشروع، بل هو سنة من سنن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، لكن بقدر وبضوابط الشرع؛ فالصدق شرط للمزاح، والعفة هي الأخرى قيد في المزاح، فمن الناس من يبيح لنفسه –حال المزاح- فعل المحرم إما بقول أو فعل، وكل ذلك لا يجوز شرعاً، ولا يسوِّغه كون صاحبه مازحاً.
والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يمزح أحياناً ويداعب الآخرين، لكنه لا يقول ولا يفعل إلا الحق، وربما هدف من مزاحه إلى إدخال السرور على مَن يُمازِح، وأحياناً يهدف من مزاحه إلى الدعوة للإسلام، والترغيب في الإيمان، وهاك نموذجاً يؤكد ما أقول:
فقد روى الطبراني في الكبير بسندٍ رجاله ثقات: أن خوات بن جبير الأنصاري -رضي الله عنه- كان جالساً إلى نسوة من بني كعب بطريق مكة، فطلع عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أبا عبد الله، ما لك مع النسوة؟"، فقال: يفتلن ضفيراً لجمل لي شرود.
قال: فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجته، ثم عاد، فقال: "يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟"، قال: فسكتُّ واستحييت، وكنت بعد ذلك أتفرر منه كلما رأيته حياءً منه، حتى قدمت المدينة، فرآني يوماً في المسجد أصلي، فجلس إليّ فطوّلت، فقال: "لا تطوّل فإني أنتظرك"، فلما سلَّمتُ قال: "يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟"، قال: فسكت واستحييت فقام.
وكنت بعد ذلك أتفرر منه حتى لحقني يوماً وهو على حمار -وقد جعل رجليه في شقّ واحد فقال: "يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟"، فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلمت، فقال: "الله أكبر! الله أكبر! اللهم اهد أبا عبد الله" قال: فحسُن إسلامه وهداه الله.
وهذا يدلك على كريم خلقه -صلى الله عليه وسلم- وطيب معشره، وممازحته لأصحابه، وليس ذلك إلا نموذجاً من نماذج مزاحه -عليه الصلاة والسلام-، وهي مُشعرة بأن هذا الدين لا تعقيد فيه ولا تعبيس، ولا يراد لأتباعه أن يكونوا متبلدي الإحساس، ثقال النفوس، ولكنها مشعرة في الوقت نفسه بضوابط وحدود المزاح.
ومن أعظم ما ينبغي التنبيه عليه في المزاح التفوه بكلمات بذيئة سيئة يريد صاحبها إضحاك القوم بها، فهذه ينبغي الحذر منها، والإنكار على قائلها، وتذكيره بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد يتكلم بالكلمة ما يتبين فيها -يعني يتفكر في أنها خير أم لا- يزِلّ بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب" متفق عليه.
وينبغي كذلك ألا يزيد المزاح عن الحدّ فينقلب إلى الضد، وألا يتجاوز القول الحقّ إلى القول المنكر، أو يتجاوز اللسان كثيراً إلى بقية الجوارح والأركان، فذلك كله مدعاة للتنافر والبغضاء وجالب للحزازات والقطيعة بين الأخِلّاء.
أيها المؤمنون: ومن حصائد الألسن السخرية والاستهزاء، وتلك قاصمة الظهر، مثيرة الأحقاد، ومدعاة للمخيلة والاحتقار، وما يدريك أيها المستهزئ أن من استهزأت به خير مقاماً منك عند الله وأرفع ذكراً؟ وهلا وقفت أيها المستهزئ متأملاً في كتاب الله، ومستمعاً إلى توجيه الله، وهو يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) [الحجرات:11].
فإن كنت أقل ممن استهزأت به، أفلا يكفيك التأمل في عيوب نفسك وإصلاحها قبل انتقاد الآخرين والاستهزاء بهم؟ وإن كنت خيراً فما ذاك صنيع الشاكرين، ولستُ بآمَن أن يسلخك الله ما أعطاك، ويمنح غيرك ما كان بك من نعمة، فاشكر الله على النعماء، وإياكَ إياكَ والسخريةَ والاستهزاءَ! وتفطَّن دائماً وأبداً لحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات-، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" رواه مسلم. قال الإمام النووي: ما أعظم نفع هذا الحديث! وأكثر فوائده لمن تدبره!.
ولا يفوتك -أخي المسلم- أن الاستهزاء ربما كان بكلمة، أو نظرة، أو محاكاة، أو إشارة أو إيماء، والأصل في ذلك كله ما يجول في القلب، فطهِّرْ قلبك من احتقار المسلمين والتقليل من شأنهم، وإياك والعجب بنفسك! فإن العجب مهلكة، وجاهد نفسك على فعل الخير ودفع الشر ما أمكنك ذلك.
إخوة الإسلام: ومن حصائد الألسن الوعد الكاذب، إذ اللسانُ سبَّاقٌ إلى الوعد والنفس ربما لا تسمح بالوفاء، فيصير الوعد خلفاً، وذلك من أمارات النفاق، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" متفق عليه.
وما أكثر ما يتسامح بعض الناس بالوعود، ويخلفون الميعاد دون عذر شرعي يخولهم لذلك، وتلك آفة، بل مرض خليق بالمسلم أن يعالج نفسه عن الوقوع فيه، وهو مَدْعَاةٌ لضياع الحقوق أحياناً، ولضياع الأوقات على الآخَرِينَ أحياناً أخرى، ومُوجب للسخط والبغضاء في أحيان ثالثة.
وهل علمتَ -أيها المسلم- أن الوفاء بالعقود من صفات المؤمنين؟ والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1]، وهَل علمتَ أن الوفاء بالوعد كرم ومروءة، وأن الخلف في المواعيد بخل بالجاه أو بالمال أو بالوقت، وكلُّها مذمومة، وهو استخفاف بالآخَرين لا مبرر له.
وإليك نموذجاً من الوفاء لو لم تستطع الكرماء الوفاء به إلا على فراش الموت لفعلوا، فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- حين حضرته الوفاة قال: إنه كان خطب إليّ ابنتي رجلٌ من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، فوالله! لا ألقى الله بثلث النفاق، أشهدكم أني قد زوجته ابنتي.
إخوة الإيمان: وثمة آفة من آفات اللسان ينبغي التنبه لها، ألا وهي كثرة المدح في الوجه، وهي مهلكة للمادح والممدوح، خاصة إذا كان الممدوح أقلّ مما امتدح به، أما المادح فهي تفضي به إلى الكذب، وقد قال خالد بن معدان -رحمه الله-: من مدح إماماً أو أحداً بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه.
وقد يفضي به المدح الكاذب إلى الرياء، فإنه بالمدح مظهر للحب وقد لا يكون معتقداً لكل ما يقوله، فيصير بذلك مرائياً منافقاً، إلا أن يكون لذلك ضرورة أو مقصد شرعي طيب، فتلك تقدر بقدرها.
والمدح الكاذب له أثره السيئ على الممدوح، فقد يؤدي به إلى الكبر والعجب، وقد يقعد به عن العمل والتشمير في الجد؛ ولهذا قال عليه -الصلاة والسلام- لرجل مدح رجلاً عنده: "ويحك! قطعت عنق صاحبك؛ لو سمعها ما أفلح!" متفق عليه ، وفي لفظ: "ويلك! قطعت عنق صاحبك؛ مَن كان منكم مادحاً أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلاناً والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه" متفق عليه.
ولما في المدح من آفات، قال أبو حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: المدح هو الذبح؛ وذلك لأن الممدوح هو الذي يفتر عن العمل، والمدح يوجب الفتور، أو لأن المدح يورث العجب والكبر، وهما مهلكان كالذبح؛ فلذلك شُبه به.
ومن هنا قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب" رواه أحمد ومسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (...وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام:152].
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه... اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأصل بكم معشر الإخوة بعد ذكر عدد من آفات وحصائد الألسن إلى آفة عظيمة هي في عداد قبائح الذنوب، وفواحش العيوب، ألا وهي الكذب الذي سرى في هذا الزمان سريان النار في الهشيم، وابتُلِيَت به العامة والخاصة إلا من رحم الله، وأصبحت له مؤسسات وأجهزة تنشره وتصبغ الناس بصبغته، وتصيبهم من أثره، ألا وهي وسائل الإعلام، ووكالات الأنباء التي يمتلك الجزء الأكبر منها أمم وشعوب كافرة، لا تصدّر للأمم المسلمة من الأخبار إلا ما تريد، فتتلقفها الوكالات الأخرى غافلة عن مصدرها، ومتأثرة في الغالب بما جاء بما جاء فيها، فتختلط الحقائق بالأباطيل، ويروج الكذب، وتذوب القيم، ويمدح الفجار، وتعلى مكانتهم، ويشهّر بالأخيار، ويوصمون بالنقيصة والتطرف أو غيرها من رديء العبارات، وسيء الألقاب، وما ربك بغافل عما يعملون.
حتى لقد سئم الناس هذه العبارات، وربما أدرك بعضهم السرّ من ورائها، وعلموا أنها وسيلة لإطفاء نور الله، وتعبير عن الحسرة التي قطعت قلوب الكفار والمنافقين، وهم يرون الإسلام ينتفض من جديد، ويرون المسلمين يعودون إلى ربهم في كل صقع من أصقاع المعمورة، وهو نور الله يملأ الوجود، وهل تستطيع قوة أن تطفئ نور الله؟ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32]، ألا إنها الحماقة والسفَه، ليس إلا!.
إخوة الإسلام: للكذب آثاره وغوائله السيئة، وقد خطب أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقامي هذا عام أول ثم بكى، وقال: "إياكم والكذب! فإنه مع الفجور، وهما في النار" رواه ابن ماجة والنسائي وإسناده حسن.
والكذبة يعذبون في قبورهم قبل يوم القيامة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رأيت كأن رجلاً جاءني فقال لي: قم، فقمت معه، فإذا أنا برجلين، أحدهما قائم والآخر جالس، بيد القائم كلوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله، ثم يجذبه فيلقمه الجانب الآخر فيمدّه، فإذا مدّه رجع الآخر كما كان، فقلت للذي أقامني: ما هذا؟ فقال هذا رجل كذاب، يعذب في قبره إلى يوم القيامة" رواه البخاري.
إخوة الإسلام: ما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحذر من الكذب حتى جعله طريقاً إلى النار، وقال: "إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكْتَبَ عند الله كذَّاباً".
ولهذا، وغيره من آثار الكذب السيئة، لم يكن شيء أشد على صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكذب، كما تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "ما كان من خلق أشد على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكذب، ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلع على الرجل من أصحابه على الكذب فيما ينجلي من صدره حتى يعلم أنه قد أحدث توبة لله عز وجل منها". رواه أحمد وغيره.
فاحذروا الكذب معاشر المسلمين، واصدقوا التوبة مما بدر منكم يغفر الله لكم.
واعلم -أخي المسلم- أن الصدق أمانة، والكذب خيانة، واحذر أن تحدث أخاك المسلم بحديث هو لك به مصدق وأنت به كاذب، فقد جاء في الخبر: "كبرت خيانةً أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وأنت له كاذب" رواه البخاري في الأدب المفرد وأحمد والطبراني.
ولا تحقرن من الكذب شيئاً، ولا تعودن لسانك حتى على اليسير منه، وهل علمت أنك إذا استدعيت غلامك أو جاريتك، وقلت: تعال أعطك، ولم تعطه شيئاً؛ كتبت عليك كذبة؟ فهذا عبد الله بن عامر -رضي الله عنه- يحدث ويقول: جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيتنا وأنا صبي صغير فذهبت لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله، تعال حتى أعطيك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمراً، فقال: "أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة" رواه أبو داود والحاكم.
وكلما تعاظم الكذب أو صدر مما لا ينبغي صدوره منه كان الوعيد أشد، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: "ثلاثةٌ لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" رواه مسلم.
أيها المسلمون: هناك نصوص كثيرة وآثار عظيمة تبين لك آثار الكذب، وتحذّر منه، يجدها في مظانها من أراد البحث عنها، وإنما أردت الإشارة إلى بعضها.
ويبقى الاستثناء في الكذب الذي أبيح للمسلم أن يفعله، وقد حدده الشرع المطهر كما في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين -أو قال بين الناس- فيقول خيراً، أو ينمي خيراً" متفق عليه.
وزاد مسلم عن أم كلثوم بنت عقبة -رضي الله عنها-، قالت: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: يعني الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل زوجته، وحديث المرأة زوجها".
قال الإمام النووي -رحمه الله-: فهذا الحديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة، وقد ضبط العلماء ما يباح منه، وأحسن ما رأيته في ضبطه ما ذكره الإمام الغزالي -رحمه الله-، فقد قال: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب ولم يمكن بالصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً، فإذا اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه... إلى آخر كلامه، وهو كلام نفيس. اهـ.
أخي المسلم: كما تحذر الكذب بنفسك فاحذر كذلك أن يروج عليك كذب الآخرين، وما أجمل ما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بأسماعنا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف. وفي رواية: فأما إذا ركبتم كل صعبة وذلول فهيهات! أخرجه مسلم.
وأراد بالصعبة والذلول: شدائد الأمور وسهلها، والمراد: أنه ترك المبالات بالأمور والاحتراز في القول والفعل.
فإذا كان ذلك في تلك القرون، فما ظنك أخي المسلم بالناس في هذه الأزمان والعصور؟ ألا فاحتاطوا فيما تقولون، وتريثوا وتثبتوا فيما تسمعون، والحق -تبارك وتعالى- يقول لكم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].
اللهم اعصمنا من الكذب، ووفقنا للصدق في القول والفعل...