العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لقد تعدَّدت أساليب التربية النبوية إلا أن الهدف كان واحداً، وهو استخراج الخير من النفوس وإذاعته، واستئصال الشر منها وإزالته، على أن القدوة الصالحة كانت هي رأس أمر التربية النبويَّة، فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- آيةٌ من آيات الله، طاقة من النور الباهر الفيَّاض، تعلقت به القلوب وأحبَّتْه، اجتمعت في شخصه الكريم شخوصٌ متوازنة متكاملة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبصرة وذكرى لأولي الألباب، والصلاة والسلام على نبي الرحمة الذي بعث في الأميين ليعلمهم الحكمة والكتاب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه خير الآل والأصحاب، ومن تبعهم واهتدى بهديهم إلى يوم المآب (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ) [الرعد: 29)].
عباد الله: إن أعظم مربي عرفته البشرية هو نبي الرحمة وسيد الخليقة نبينا محمد -صلى اله عليه وسلم-، وجدير بنا أن نقف طويلاً مع شيء من الموقف التربوية، وبيان أساليبها ومجالاتها.
يقول الله -تبارك وتعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران : 164]، ويقول: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة : 2]، ولا شك أن التزكية والتعليم هما من أعظم دعائم التربية النبوية وأفسح مجالاتها.
يقول أحد الدكاترة الغربيين وهو أستاذ بجامعة المكسيك، فهداه الله للإسلام: "كنت مُولَعاً بقراءة الشخصيَّات العظيمة المؤثرة في التاريخ، ومما شدَّني في النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، أنه كان أميَّاً، لكنَّه علَّم الأمَّة كلَّ شيء، مع قدوة صالحةٍ يُقْتَدَى بها في كلِّ شيء".
لقد شدَّت التربية النبوية هذا العالم المكسيكي لدرجة أنْه أسلم، وشدَّهُ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد علَّم الأمَّة كلَّ شيء رغم أمِّيَّتِه، ومما لفت انتباهه في شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- هو القدوة فقال: "كان قدوةً صالحةً في كل شيءٍ".
ومما لا شكَّ فيه أنَّ وسائلَ تربويَّةً أخرى آزرت تلك الوسيلة ودعَّمتْها؛ فما هي تلك الوسائل التربوية النبويَّة التي جعلت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يصيب كلَّ ذلك النَّجاح الخالص الخالد؟ والتي جعلت القرآن الكريم فعَّالاً، يزيد عروة رباط القلوب بالله تعالى قوَّةً واستحكاما، يؤثر في العقل والوجدان، حتى تبيَّن في العقول، وتمكَّن في الصدور؟.
يقول الرسول الكريم، -صلى الله عليه وسلم-، لعائشة -رضي الله عنها-: "إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنِّتاً، ولكن بعثني مُعلِّماً مُيَسِّراً" [مسلم (1478)].
ولا ريْب في أنَّ التيسير يقتضي تعدُّد وسائل التربية، والدارس لسيرة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، يجد أنه قد استخدم كل الوسائل التربويَّة الإيجابية، فتنوُّع الوسائل أدفَعُ للمَلَل، وأنْفَعُ وأنْجَعُ للعِلَل، وأنجح للعمَل، وأنسبُ للأحوال، فلكلِّ مَقامٍ مَقال، ولكلِّ موضعٍ مَجال, ولقد ظلت تلك الوسائل تقوِّي القلوب، وتقوِّم العقول، وتيسِّر التكاليف، وتفسِّر القرآن.
فبجانب القدوة الصالحة تجد النبيَّ الكريم قد اهتمَّ بالموعظة الحسَنَة، التي تأتي في شكل نصح وإرشاد، أو في شكل قصَّة؛ والقصص النبوية كثيرة، كقصة أصحاب الأخدود، ومَفادها أن غلاما ظلَّ يختلف إلى راهب يتعلم منه، حتى أخبره الراهب أنه قد صار أفضل منه، ثم ظهرت كرامات للغلام كإبراء ما لا يبْرأ من الأسقام، فذاع أمره، وكان الملكُ يدَّعي الألوهية، فقتَل الراهب، وأراد أن يقتل الغلام، فأمر أعوانه بإلقائه من جبل، فقال الغلام: "اللهم أكْفِنيهم بما شئت"، فرجف بهم الجبل.
وجاء الغلام يمشي للملك، فأمر بإلقائه في البحر، وتكرر الأمر، وجاء يمشي إلى الملك، ثم إنه أرشده إلى الطريقة التي تُميته، بأن يجمع الناس ويطلق سهمه قائلا: "باسم ربِّ الغلام"، فلمَّا فعل ومات آمن الناس أجمعين، فحفر الأخدود وألقاهم في نار فيه، ثم إن امرأةً من المؤمنات تردَّدت في اقتحام النار، فخاطبها طفلها الرضيعُ بأنْ تُقْدِم، إذ هي على حقّ.
ولا تخفى فوائد تلك القصة، من الاعتناء بالأطفال، فإن الفج اليوم هو الناضج غدا، ومن تقريظ الراهب لتلميذه بأنه صار أفضل منه، والناس تحتاج لمثل هذا التشجيع، حتى تبتدئ الأعمال من حيث ينتهي الآخرون, وفي القصة يتبين صدق الالتجاء إلى الله: "اللهم اكفنيهم بما شئت"، والإصرار على الدعوة، "فجاء يمشي إلى الملك"، وتبنِّي عامة الناس المذهب الصحيح، إذ لا يستطيع طغيان أن يقف أمامهم، وتبيين معنى الانتصار، وهو انتصار المبدأ، وإلا لما أرشد الغلام لطريقةٍ يُقْتَلُ بها، وفيها التضحية للمصلحة العامة, والثبات على الحق المتمثل في صورة الأم مع طفلها.
إن أسلوب الثناء والتشجيع الذي استخدمه الراهب مع الغلام، من أساليب التربية الفاعلة، ولقد استخدمه الرسول الكريم، -صلى الله عليه وسلم-، تأمل قوله لأبي هريرة وقد سأله عن شفاعته: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث" [البخاري (99 )].
إن أبا هريرة -رضي الله عنه- قد نال دفعة معنوية كبيرة بهذا الثناء والتشجيع النبوي، ستدفعه لمزيد من الحرص والاهتمام.
كما أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس بالتدرُّج؛ تنميةً للعادات، وإرساءً للعبادات، يقول جندب بن عبد الله -رضي الله عنه-: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا" [ابن ماجة (61)].
كما حرص -صلى الله عليه وسلم- على تفريغ طاقة المؤمنين في الخير، وملء أوقات فراغهم؛ فقد مر النبي -صلى الله عليه وسلم- على نفَر من أسلم ينتضلون، فقال لهم: "ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان" قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما لكم لا ترمون؟". قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ارموا فأنا معكم كلكم" [البخاري (2899 )].
ولا يخفى أيضا ما في الحديث من الإيحاء، وهو أسلوب تربوي، وذلك بالإشارة لأبيه إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام-، ففي هذا التذكير دافعٌ للاجتهاد, كما نلحظ المشاركة البدنية والوجدانية للنبي الكريم لهم.
وإذا تأمَّلنا قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت عن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" [البخاري (2623 ) مسلم (1620)].
إذا تأمَّلنا فسنجد أن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، قد استغلَّ الحدَث، واستغلال الأحداث بالطَّرْق على الحديد ساخناً؛ يسهِّل تشكُّله، ويظلّ أثره باقياً، كما أن النبيَّ الكريم استخدم أسلوب التمثيل، والمثَل أنفذُ للعقل، وأمَسُّ للوجدان، وأبْقى في الذاكرة.
وإذا تأملنا سؤال الرسول الكريم للشاب الذي طلب منه أن يأذن له بالزنا قال له: "أتحبه لأمك؟" والشاب يقول: لا فيقول له: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم", ثم يعدد له لابنتك؟ لأختك؟ لعمتك؟ لخالتك؟، ثم يدعو الله له بغفران ذنبه، وتطهير قلبه، وتحصين فرجه، فلم يعد الشاب بعد ذلك يلتفت إلى شيء. [أحمد (22641 )]. فنجد النبي الكريم قد استخدم أسلوب الإقناع العقلي.
وفي قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" [البخاري (220 )]، وهنا يتجلَّى سبيل الترفُّق، ومراعاة الطباع، والتدرّج في التعليم.
إن الناس تختلف أمزجةً وطباعاً، وتتباينُ تحمُّلاً واستعداداً، فالبعض تكفيه الموعظة، والبعض يتأثر بالقدوة، وهناك من الناس مَن لا تردعه إلا العقوبة، ولقد استخدم الرسول الكريم، -صلى الله عليه وسلم-، كل وسائل التربية التي أقامت ذلك المجتمع الصالح الفريد، فتجده يخاطب عقلَ هذا بالمنطق، ووجدان ذاك بالثناء، وجسد ذاك بالعقاب، وفي الحديث: "أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بسكران، فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده، ومنا من يضربه بنعله، ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم" [البخاري (6781)].
لقد تعدَّدت أساليب التربية النبوية إلا أن الهدف كان واحداً، وهو استخراج الخير من النفوس وإذاعته، واستئصال الشر منها وإزالته، على أن القدوة الصالحة كانت هي رأس أمر التربية النبويَّة، فالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- آيةٌ من آيات الله، طاقة من النور الباهر الفيَّاض، تعلقت به القلوب وأحبَّتْه، اجتمعت في شخصه الكريم شخوصٌ متوازنة متكاملة، روحٌ شفيفة دفَّاقة، وقوَّة حيويَّة دفَّاعة، فهو رجل سياسةٍ وحرب، وهو الصديق الرفيق والأب، وهو المعلم مرشد، والعابد المتحنِّث المتبتِّل، لقد كان خلقه القرآن.
محمد صفوة الباري ورحمته | وبغية الله من خلق ومن نسَمِ |
سناؤه وسَناه الشمسُ طالعة | فالجرم في فلك والضوء في علم |
إن الشمائل إن رقت يكاد بها | يغرى الجماد ويغرى كل ذي نسم |
ونودي اقرأ تعالى الله قائلها | لم تتصل قبل من قيلت له بفم |
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : 128].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، رحمة للعقول، رحمة للأرواح، رحمة للأبدان، كان رحمةً للعقول بأن أمرها بأن تفكِّر وتتزوَّد بالعلم والحكمة، ونهاها عن أن تخوض في الأمور التي لا تقدر عليها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "تفَكَّروا في خلق الله، و لا تفكروا في الله" [الإبانة الكبرى لابن بطة (317 )]، وقد غضب لما رأى الناس يتكلمون في القدر، وقال لهم: "مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم" [أحمد (6668 )].
كان رحمة بأرواح الناس وأبدانهم، بحيث أمر بأن يُعْطَى كلُّ ذي حقٍّ حقّه، بحيث لا يطغي جانب على آخر، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو: "يا عبد الله بن عمرو! بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل. فلا تفعل، فإن لجسدك عليك حظا، ولعينك عليك حظا، وإن لزوجك عليك حظا. صم وأفطر, صم من كل شهر ثلاثة أيام, فذلك صوم الدهر". قلت: يا رسول الله! إن بي قوة. قال: "فصم صوم داود -عليه السلام- صوم يوما وأفطر يوما". فكان يقول:"يا ليتني أخذت بالرخصة" [مسلم (1159)].
أيها الإخوة المؤمنون: كانت هذه مواقف من السيرة النبوية العطرة بيَّنت بعض ملامح سبل التربية النبويَّة، وموضوعاتها، والحديث عن هذا الأمر واسعٌ وكبير, وإذا كنا نريد لهذه الأمة رشاداً، فعلينا اتخاذ التربية النبوية سبيلاً، وانتهاجهاً هادياً.
وصل اللهم وسلم وبارك على المصطفى القائل: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" [المعجم الكبير للطبراني (618 )].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.