الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | خالد بن سعود الحليبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
للابتلاء حِكَم كثيرة ظهر لنا منها كثير، والله أعلم بباقيها؛ فليس مثل الابتلاء وسيلة في كشف باطن الإنسان، وما يدعيه من إيمان وصدق وزهد وصبر، ففي حال الرخاء كلٌ يدعي الإيمان ويتظاهر بالعبادة، ولكن حين تضطرب الدنيا وتقع ..
الحمد لله المنفرد بالبقاء والقهر، الذي خلق الموت والحياة ليبلو عباده أيهم أحسن عملاً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله بعثه الله للجن والإنس رحمة ورسولاً.. أما بعد.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها الإخوة المؤمنون: إن لله في خلقه سننًا ثابتة تجري وفق قضائه وقدره، يتعرض لها عامة الخلق في حياتهم على تطاول الأزمنة، يمكن التعرف عليها بالتأمل في الحوادث للوصول إلى أسبابها، وبالنظر في السماوات والأرض للوقوف على أسرار خلقها، يستلهم منها العاقل العبرة، ويأخذ منها الموفقُ الدرسَ لما تتصف به من الثبات والتكرار والاطراد.
قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً) [الأحزاب: 38].
ومن تلك السُّنَن سُنّة الابتلاء التي أجراها الله في خلقه على أشكال متعددة، ومقادير مختلفة ليس الإنعام فيها دليل تكريم، ولا عدمه دليل مهانة، كما بيّن الله تعالى في كتابه فقال سبحانه: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن) [الفجر: 15-16].
وإنما لِيُظهِرَ اللهُ بها علمه، ولِيميزَ بها بين عباده، وليُظهِر الصادقين منهم من الكاذبين، وهي ظاهرة من الظواهر السننية التي يتعرض لها الإنسان في حياته وبعد مماته، فيقابلها بالتسليم؛ إذ لا حيلة له ولا اختيار، ويختلف موقفه منها في الحياة الدنيا على قدر إيمانه.
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حُلوة خَضِرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء».
فهذه طبيعة خلق الحياة الدنيا، تجعل من المستحيل أن يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه، وشدائد تحل بساحته؛ فكم يُخفق له من عمل! أو يخيب له من أمل! أو يموت له من حبيب! أو يمرض له من بدن! أو يفقد له منه مال!
حتى قال الشاعر يصف الدنيا:
جُبِلَت على كَدَر وأنت تريدها | صفوًا من الآلام والأكدار |
ومكلّف الأيام ضد طباعها | متطلّب في الماء جذوة نار |
وإذا علمت أخي المسلم طبيعة الدنيا فإنك لن تحزن على شيء يفوتك منها حزن اعتراض، ولن تفرح بشيء يأتيك منها فرح بطر وخيلاء.
ولعل سائلاً يسأل لماذا الابتلاء؟!
أليس الله عليمًا بعباده؟ والجواب: بلى، فالله سبحانه يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء وبعده، ولكن الابتلاء يكشف للناس ما هو معلوم عند الله تعالى، مغيّب عن علم البشر؛ ليحاسبهم على ما يقع من أعمالهم، لا على مجرد علمه عنهم، وهو فضل من الله تعالى وعدل، لقوله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 3].
والابتلاء -أخي المسلم- أنواع؛ فمنه ما يُفضي إلى البلاء المطلق في الآخرة كالكفر والمعصية وسوء الخُلُق، ومنها ابتلاءات دنيوية؛ كالفقر والمرض والخوف.
ولعل أكثر الناس يتبين له ابتلاء الشر ويصبر عليه، ولكنه يخفى عليه ابتلاء الخير فتزل قدمه عنده.
فمن صور الابتلاء بالشر: أن يُبتلَى المؤمن بفقد عزيز عليه؛ أبيه وأمه أو أخيه أو ولده أو صديقه، فإذا صبر فماذا أعد الله له إذا صبر، روى البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة».
أو أن يبتلى بفقد جزء من جسمه؛ كذهاب بصره أو سمعه، أو رجله أو يده، فماذا أعد الله له إذا صبر؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته الجنة يريد عينيه» والحديث أخرجه البخاري.
أو أن يُبتلى بمرض عضال أو فتاك فييأس منه أهل الطب، فماذا أعد الله له إذا صبر؟ سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها: «أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد» أخرجه البخاري.
وفي حديث آخر أن امرأة سوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرَع وإني أتكشف، فادعُ الله لي، قال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيك»، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها. أخرجه البخاري ومسلم.
إلى غير ذلك من الصور الكثيرة التي يبتلى بها المسلم كما جاء في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155].
غير أن أعظم ما يُبتلى به المؤمن من صور الابتلاء بالشر: مصيبةُ الدين، فإنها القاصمة المهلكة، ونهاية الخسران الذي لا ربح معه، تكون في الكفر بعد الإيمان، والحرمان الذي لا طمع معه، يكون في استصغار الذنوب والإصرار على المعصية، وهو ما انتشر اليوم بين الناس فإن كثيرًا من المسلمين يعلم أنه عاصٍ لله بعدد من المعاصي، ومع ذلك يستمر عليها وتسجل عليه السيئات تترى، ولا يسمع الناصح ولا المنْكِر، ولو كان يعاقب عليها في الدنيا لارتدع، وكفَّ عنها. وهذا من نقص الإيمان بالله واليوم الآخر. رد الله النافرين عن حماه إليه، إنه سميع مجيب الدعاء.
إن مصاب الدين لا فداء له، فهو أعظم من مصاب المال والنفس؛ لأن مصاب المال يخلفه الله تعالى، وهو فداء للنفس، والنفس فداء للدين، وأما الدين فلا يكون فداء لشيء.
وكان مما علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نقول في دعائنا، بل قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا» والحديث رواه الترمذي وحسنه الألباني.
اللهم عافنا من كل ابتلاء، وصبّرنا عند كل بلاء، واغفر لنا خطايانا التي تقودنا إلى البلاء.. إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أهل الثناء والمجد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد.. فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه.
تلك صور من الابتلاء بالشر، فما صور الابتلاء بالخير؟ إن الله تعالى يبتلي عباده المؤمنين بالخير؛ ليظهر مدى اعترافهم بفضل الله تعالى عليهم، ومدى خوفهم من جحود نعمة الله، أو زوالها عنهم بسوء أعمالهم.
ومن صور ذلك أن يبتلى العبد بالغنى وكثرة العَرَض، قال صلى الله عليه وسلم: «فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم» رواه البخاري.
أو أن يبتلي العبد بزينة الدنيا وزهرتها يقول الله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ) [آل عمران: 14].
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني مما أخاف عليكم من بعدي: ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها».
أو أن يبتلى العبد بحب الرياسة والجاه؛ فيطلبها ويحرص عليها ويذل نفسه في سبيلها، ويعصي الله بالكذب والتزوير والتفويت والواجبات من أجل الحصول عليها، أو الحفاظ على زَبَدهما، فإذا حصل عليهما، تحكَّم وظلم وجامل على حساب دينه، وضيَّع دينَه ودنياه.
وإذا أراد الله به خيرًا هداه لحبله المتين، فاستعصم به من مضلات الهوى، وسخّر نعمة الرياسة والجاه في نفع المسلمين، وحافظ على ما أمره الله به من سائر الواجبات، وانتهى عند سائر المناهي.
والمؤمن كيِّس فطن لا تفوته خيرية الابتلاء بالحالين ممن شملهم وصف النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» رواه مسلم.
أيها المؤمنون الصابرون المصابرون... إن للابتلاء حِكَمًا كثيرة ظهر لنا منها كثير، والله أعلم بباقيها؛ فليس مثل الابتلاء وسيلة في كشف باطن الإنسان، وما يدعيه من إيمان وصدق وزهد وصبر، ففي حال الرخاء كلٌ يدعي الإيمان ويتظاهر بالعبادة، ولكن حين تضطرب الدنيا وتقع المحنة تظهر الحقيقة، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحـج:11].
والابتلاء يخلّص النفوس من كل الشوائب التي تكدّر صفو الإيمان، ومن كل رياء يُفسد القلوب، وتستنفر المحنة قوى المبتلين، وتشحذ طاقاتهم، وتفتح في قلوبهم منافذ ما كان ليعرفها المؤمن إلا تحت مطارق الشدائد وضغط الأحداث؛ فتثبت النفوس في مواجهة أعداء الله من شياطين الإنس والجن، وشهوات النفوس ونزغات الهوى.
كما أن المبتلى إذا صبر على المصيبة نال ثناء الله تعالى عليه عند ملائكته، واستحق الرحمة، وفاز بالثواب من غير حساب، قال تعالى: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) [البقرة: 155 - 157].
وفي الحديث الصحيح؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « فما يزال البلاء بالعبد حتى يدعه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» رواه البيهقي في الشعب وصححه الألباني.
وأخرج الترمذي وحسنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يود أهل العافية يوم القيامة -حين يُعطى أهل البلاء الثواب- لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض» وقال بعض السلف: «لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس»!!
وماذا يُنتظر من الدنيا؟ إنها دار المحن والابتلاءات فإذا استحكمت الأزمات، وتعقدت حبالها وترادفت الضوائق وطال ليلها، فالصبر وحده يشع للمسلم النور العاصم من اليأس.
ينظر المبتلى يمنة فهل يرى إلا محنة؟
ثم ينعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة؟
وإنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى بموت محبوب، أو حصول مكروه، وإن شرور الدنيا –مهما اشتدت- أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا ساءت دهرًا، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً، وما ملأت دارًا فرحةً إلا ملأتها عَبْرة.
ولكن المسلم يهون شدة البلية بتلمح سرعة زوالها؛ فإنه لولا كرب الشدة ما رجيت ساعات الراحة، والمؤمن في الشدة ينبغي له أن يتفقد أحوال نفسه، ويراقب جوارحه؛ مخافة أن يبين من لسانه كلمة تسخُّط، ومن قلبه قنوط، فإن الشدة ما تفتأ أن تزول، ويلوح مخبر السلامة، وأن لا يستطيل زمن البلاء، ويتضجر من طول الرجاء؛ فإن المؤمن متعبد بالدعاء، وليتأس بيعقوب عليه السلام الذي كان يدعو فيقول: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 83]؛ فما فتئ أن جمع الله له شمله في ملك وغنى وهناءة.
اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.