الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
وإنما كان حبُّهم دينًا وإيمانًا وإحسانًا -يا عباد الله-؛ لأنه امتِثالٌ لأمر الله وأمر رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، ولأنهم نصَروا دينَ الله، وجاهَدوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبذَلوا في ذلك الدماءَ والأموالَ والأرواحَ؛ فكان لهم على الأمة في أعقاب الزمن -مع كمال المحبَّة لهم- دوامُ العناية بسِيَرهم، للإسفار عن وجهِ جمالِها وجلالِها، وما حفلَت به من مناحي السمُوِّ والشرَف والرِّفعة، ومعالِم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أعزَّ أولياءَه، وجعل لهم في قلوب الخلائق وُدًّا، أحمده -سبحانه- القاهرُ فوق عباده والأعزُّ جُندًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولم يتَّخِذ صاحبةً ولا ولدًا، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله أتقَى الخلق طُرًّا وأسخاهم يدًا، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبِه صلاةً وسلامًا دئمَين أبدًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واعبُدوه واشكُروا له وأنيبُوا إليه، واعلموا أنكم مُلاقُوه، فأعِدُّوا لهذا اليوم عُدَّتَه: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
أيها المسلمون: إن آثار الإيمان الصادق والعمل الصالح الذي يُبتغَى به وجهُه -سبحانه-، ويُقتدَى فيه بنبيِّه -صلوات الله وسلامُه عليه- لتربُو على العدِّ، وتجِلُّ عن الحصر، وإن من حُلو ثمار الإيمان وطِيب غِراسِه ما يجعلُ الله لأهله في قلوبِ خلقِه من محبَّةٍ راسِخةٍ، ووُدٍّ مكينٍ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم: 96].
وأعظمُ ما في هذا الوُدِّ -يا عباد الله- أنه آيةٌ بيِّنة على حبِّ الله تعالى، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما -واللفظُ لمُسلم رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن اللهَ إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحبُّ فلانًا فأحِبَّه"، قال: "فيُحبُّه جبريل، ثم يُنادي في السماء فيقول: إن اللهَ يحبُّ فلانًا فأحِبُّوه، فيُحبُّه أهلُ السماء، ثم يُوضعُ له القبولُ في الأرض، وإذا أبغضَ عبدًا دعا جبريلَ فيقول: إني أُبغِضُ فلانًا فأبغِضه، فيُبغِضُه جبريلُ، ثم يُنادِي في أهل السماء: إن اللهَ يُبغِضُ فلانًا فأبغِضُوه"، قال: "فيُبغِضُونَه، ثم يُوضَع له البغضاءُ في الأرض".
ويقول التابعيُّ الجليلُ زيدُ بن أسلم العدويُّ -رحمه الله-: "من اتَّقى اللهَ أحبَّه الناسُ ولو كرِهوا".
أي: أن لا تجِدُ في الناس إلا مُحبًّا له، مُثنِيًا عليه، مادِحًا له، ولو أراد بعضُهم أن يُبغِضَه لم يستطِع إلى ذلك سبيلاً.
ولا عجبَ، فهذه عاقبةُ الإيمان والتقوى التي أورثَت أهلَها منزلةَ الولاية التي بشَّرهم بها ربُّهم، وأخبرَ أنهم لا يخافُون ما يستقبِلون من أهوالٍ يوم القيامة، ولا يحزَنون على ما ترَكوا خلفَهم في الحياة الدنيا: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس: 62، 63].
كما بلغَ من كريم مقامِهم عند مولاهم -سبحانه- أن جعلَ من ناصبَهم العداءَ مُحارِبًا له -عز وجل-، كما جاء في الحديث الذي أخرجَه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ...". الحديث. أي: أعملُ به ما يعملُه العدوُّ المُحارِبُ. والمقصودُ: أنه تعرَّض بهذه المُعاداة لإهلاك الله إياه.
وفيه -كما قال أهل العلم-: تهديدٌ شديدٌ؛ لأن من حاربَه الله أهلكَه.
وإذا ثبتَ هذا في جانب المُعاداة، ثبتَ في جانب المُوالاة أيضًا؛ فمن والَى أولياء الله أكرمَه الله.
وإن من أعظم من تجبُ محبَّتُه ومُوالاتُه -يا عباد الله-، ويجبُ الحذرُ من مُعاداته: صحابةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين اختارَهم الله لصُحبة نبيِّه -عليه الصلاة والسلام-، وجعلَهم نَقَلَة دينه، وحمَلَة كتابه، ورضِيَ عنهم وأفاضَ في الثناء عليهم وتزكيتِهم، فقال -عزَّ اسمُه-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
وقال -سبحانه-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا...). الآية [الفتح: 29]، وقال -عز وجل-: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح: 18]، وقال تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد: 10].
ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سبِّ أحدٍ منهم، مُبيِّنًا أنه لا يبلغُ أحدٌ من المُسلمين مبلغَهم في المنزلة والفضل ولو أنفقَ ما أنفقَ من ماله، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تسبُّوا أصحابي؛ فلو أن أحدَكم أنفقَ مثلَ أُحدٍ ذهبًا ما بلغَ مُدَّ أحدهم ولا نصيفَه". أخرجه الشيخان في صحيحيهما.
وفي الصحيحين أيضًا من حديث عمران بن حُصين -رضي الله عنه- أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلُونَهم، ثم الذين يلُونَهم". قال عمران: فلا أدري أذَكَر بعد قرنِه قرنَيْن أم ثلاثة.
وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخُدري -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "يأتي على الناس زمانٌ فيغزُو فِئامٌ من الناس، فيقولون: هل فيكم من صاحبَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فيقولون: نعم، فيُفتحُ لهم. ثم يأتي على الناس زمانٌ فيغزُو فِئامٌ من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحبَ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فيقولون: نعم، فيُفتَحُ لهم. ثم يأتي على الناس زمانٌ فيغزُو فِئامٌ من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحبَ من صاحبَ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فيقولون: نعم، فيُفتَحُ لهم".
وبيَّن رسولُ الهُدى -صلوات الله وسلامه عليه- أن حُبَّ الأنصار من علامة الإيمان الصادق، وأن بُغضَهم من علامات النفاق، فقال -صلوات الله وسلامه عليه-: "آية الإيمان حبُّ الأنصار، وآية النفاق بُغضُ الأنصار". أخرجه الشيخان في صحيحيهما.
ومن ثَمَّ كانت هذه النصوصُ الصحيحة الصريحة مُستنَد أهل الحقِّ في موقفِهم من صحابة خير الورَى -صلوات الله وسلامه عليه-، فقال الإمام الطحاويُّ -رحمه الله-: "ونحبُّ أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا نُفرِطُ في حبِّ أحدٍ منهم، ولا نتبرَّأُ من أحدٍ منهم، ونُبغِضُ من يُبغِضُهم وبغير الحقِّ يذكُرهم، ولا نذكُرهم إلا بخيرٍ، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبُغضُهم كفرٌ ونفاقٌ وطُغيان".
وإنما كان حبُّهم دينًا وإيمانًا وإحسانًا -يا عباد الله-؛ لأنه امتِثالٌ لأمر الله وأمر رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، ولأنهم نصَروا دينَ الله، وجاهَدوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبذَلوا في ذلك الدماءَ والأموالَ والأرواحَ؛ فكان لهم على الأمة في أعقاب الزمن -مع كمال المحبَّة لهم- دوامُ العناية بسِيَرهم، للإسفار عن وجهِ جمالِها وجلالِها، وما حفلَت به من مناحي السمُوِّ والشرَف والرِّفعة، ومعالِم الأُسوة والقُدوة.
والإمساكُ عن الخوض فيما شجَرَ بينهم، والكفُّ عن الحديث عما وقعَ بينهم، واعتقادُ أنهم مُجتهِدون مأجورون في كل ذلك، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم عن الإسلام وأهلِه خيرَ ما يجزِي عبادَه الأبرارَ المُتقين الأخيار.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه.
أما بعد:
فيا عباد الله: جاء عن الصحابيِّ الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قولُه: "من كان منكم مُستنًّا فليستنَّ بمن قد ماتَ؛ فإن الحيَّ لا تُؤمنُ عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، كانوا أفضلَ هذه الأمة، وأبرَّها قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، قومٌ اختارَهم الله لصُحبة نبيِّه وإقامَة دينِه، فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتَّبِعوهم في آثارهم، وتمسَّكوا بما استطعتُم من أخلاقِهم ودينهم؛ فإنهم كانوا على الهُدى المُستقيم".
وجاء عنه -رضي الله عنه- أيضًا قولُه: "إن اللهَ تعالى نظرَ في قلوبِ العباد، فوجدَ قلبَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- خيرَ قلوبِ العباد، فاصطفاهُ لنفسِه، وابتعثَه برسالتِه، ثم نظرَ في قلوبِ العباد بعد قلب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، فوجدَ قلوبَ أصحابِه خيرَ قلوب العباد، فجعلَهم وُزراءَ نبيِّه، يُقاتِلون على دينِه".
فاتقوا الله -عباد الله-، واعرِفوا لهؤلاء الصحبِ الكرام حقَّهم وفضلَهم وسابِقَتهم، فلَمُقام أحدهم ساعةً مع النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يقول حبرُ الأمة عبد الله بن العباس -رضي الله عنهما-: "لمُقامُ أحدهم ساعة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- خيرٌ من عمل أحدِكم أربعين سنة". وفي رواية: "خيرٌ من عبادةِ أحدِكم عُمُره".
واذكُروا على الدوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خير الورَى، فقال -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.