البحث

عبارات مقترحة:

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

الجواد

كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...

رمضان وتربية المجتمع على الصدق

العربية

المؤلف حسان أحمد العماري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الصيام
عناصر الخطبة
  1. ارتباط الصوم بالصدق سلوكاً وتربيةً .
  2. مفهوم الصدق وارتباطه بالإيمان .
  3. ثمرات الصدق وأثره في السلوك .
  4. آثار الكذب .
  5. مجالات الصدق .
  6. أثر الصدق في الدعوة. .

اقتباس

ولأهمية الصدق، وأثر الصوم في تربية المسلم عليه، فقد ربط صلى الله عليه وسلم بين صدق اللسان وسلامة المنطق وبين الصيام الحقيقي فقال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" ..

الحمد لله معطي الجزيلَ لمنْ أطاعه ورَجَاه، وشديد العقاب لمن أعرضَ عن ذكره وعصاه، اجْتَبَى من شاء بفضلِهِ فقرَّبَه وأدْناه، وأبْعَدَ مَنْ شاء بعَدْلِه فولاَّه ما تَولاَّه... مَنْ تعدّى حدوده وأضاع حقُوقَه خسِر دينَه ودنياه، ومن التزم حدوده وأطاعه وفّقه في الدنيا وحقق في الآخرة مناه. أحْمدُه على ما تفضَّل به من الإِحسانِ وأعطاه، وأشْكره على نِعمهِ وفضله وما أوْلاه، وعَد الصادقين بمغفرته وهداه، وتفضل عليهم بمحبته ورضاه. 

وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له الكاملُ في صفاتِهِ المتعالي عن النُّظَراءِ والأشْباه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه اختاره ربه على البشر واصْطفاه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ ما انْشقَّ صبحٌ وأشْرقَ ضِياه، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

عباد الله: إن من ثمرات الصيام وأهدافه أن يتربي المسلم على معاني الصدق في الأقوال والأفعال والنيات، فالصوم يغرس في نفسه هذه القيمة العظيمة لتكون سلوكاً في حياته، وصفة من صفاته؛ فالصائم يدع طعامه وشرابه وشهوته طاعة لله، ويستطيع أن يأكل ويشرب ويظهر لمن حوله أنه صائم؛ لكن منعه من ذلك الصدق مع الله.

وقد يمتنع الصائم عن الطعام والشراب وسائر المفطرات، وهذا لا يكفي حتى يسمى صائماً ويكون صومه صحيحاً؛ بل عليه -كذلك- أن يسعى لأن تصوم جوارحه، ومن يفعل ذلك يكون صادقاً مع الله، وصومه صحيح.

يقول الإمام ابن القيم الجوزية -رحمه الله-: والصائمُ هو الذي صامت جوارحُه عن الآثام، ولسانُه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنُه عن الطعام والشراب، وفرجُه عن الرَّفث، فإن تكلَّم لم يتكلم بما يجرحُ صومَه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومَه، فيخرج كلامه كلُّه نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله، فهي بمنزلة الرائحة التي يَشمُّها من جَالَس حامل المسك، كذلك مَن جالس الصائم انتفع بمجالسته، وأَمِن فيها من الزُّور والكذب والفجور والظلم، هذا هو الصومُ المشروع، لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب. ا.هـ.

ولأهمية الصدق، وأثر الصوم في تربية المسلم عليه، فقد ربط -صلى الله عليه وسلم- بين صدق اللسان وسلامة المنطق وبين الصيام الحقيقي فقال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" رواه البخاري.

وكم من محروم لم يدرك ثمرة الصوم وغايته في تهذيب النفوس وعلاج الاختلال في السلوك، فالله -سبحانه وتعالى- لا يحتاج منك إلى ترك الطعام والشراب وأنت لم تترك سوء الأخلاق التي منها الكذب وقول الزور وتحريف الكلام وطمس الحقائق. قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ، وَدَعْ عَنْكَ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ صَوْمِكَ وَيَوْمَ فِطْرِكَ سَوَاءً" رواه ابن أبي شيبة والبيهقي.

فما أحوجنا اليوم إلى أن نعود إلى خلق الصدق، ونستفيد من رمضان ومن عبادة الصيام في تربية النفوس عليه، في زمن أصبح هذا الخلق غريباً ومفقوداً في كثير من جوانب حياتنا، إلا مَن رحم الله.

والصدق هو قول الحق، والالتزام به، ومطابقة الكلام للواقع، وقد أمر الله -تعالى- بالصدق، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]، ووصف الله نفسه بالصدق، وكفى به شرفاً، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلَاً) [النساء: 122]، فلا أحد أصدق من الله قولا، ولا حديثاً ولا وعداً، قال تعالى على لسان عباده في الدنيا وهم يجدون صدق الله في وعده: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) [الأحزاب: 22]، وفي الآخرة يقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر74].

والصدق فيه النجاة في الدنيا والآخرة، وفيه الثناء والذكر الحسن عند الله وعند الناس، قال -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالصدق! فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدقَ حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب! فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا" رواه مسلم.

فمَن الذي يحب أن يُكتب عند الله كذاباً فيُفضَح عند أهل الأرض وعند أهل السماء؟ واللهُ -تعالى- يقول: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:60].

والصدق مرتبط بالإيمان؛ فقد سأل الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، أيكون المؤمن جبانا؟ قال: "نعم"، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: "نعم"، قيل له: أيكون المؤمن كذَّابا؟ قال: "لا" حديث صحيح.

وضمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيتاً في الجنة لمن يلتزم بالصدق في أقواله وأفعاله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة (أطرافها) لمن ترك المراء وإن كان مُحِقَّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقه" رواه أبو داود.

أيها الصائمون عباد الله: والصدق يكون مع الله في الالتزام بدينه، وتطبيق أحكامه، وتقديم حبه وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم- على كل حب؛ قال -تعالى-: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر:33]، ويكون بإخلاص الأعمال، والصدق في التوبة، والإنابة.

فالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وسائر العبادات، يجب أن تكون لله، في رمضان وغير رمضان، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، قال -تعالى-: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) [آل عمران:17].

والاستقامة على دين الله، والمحافظة على العبادات، وحب هذا الدين، والتضحية من أجله، شعار الصادقين، وسبيل المؤمنين، وسر نجاحهم، وقد أثنى الله على المؤمنين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصدقهم، وتحملهم، والتزامهم بهذا الدين، فقال -تعالى-: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر:8].

هذا عبدالله ذو البجادين -رضي الله عنه- مات أبوه وهو صغير فكفله عمه وأعطاه من ماله الشيء الكثير، فلما أصبح شاباً إذا به يسمع بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهجرته، فاشتاقت نفسه للإسلام ولرسول الإسلام، فاستأذن عمه للهجرة واللحاق برسول الله، لكن عمه وقومه غضبوا منه، وقال له عمه: والله! لئن اتبعت محمداً لا أترك بيدك شيئاً كنت أعطيتك إلا نزعته منك! وأخذ ماله وأغنامه وكل أمتعته، ثم التفت إليه عمه فوجده في ثياب حسنة فطلبها منه, ولم يتردد عبد الله ذو البجادين، بل خلع الثياب وردها على عمه حتى أصبح عارياً تحت حرارة الشمس وغبار الصحراء.

ولما رأت أمه ما حل به أشفقت عليه، فلم تجد سوى بجاد [أي: كساء] مخطط من صوف غليظ خشن، أعطته ولدها ليستتر به، فشقه نصفين، جعل نصفه إزاراً يستر به أسفل جسده، ونصفه ليستر به أعلى جسده، فلما وقف بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه الحالة فرح النبي، واستبشر بقدومه، وحسن إسلامه، وشارك مع النبي في غزواته.

ويوم تبوك في السنة التاسعة من الهجرة خرج مع جيش المسلمين، وفي ليلة من الليالي يحدثنا عنها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قمت في جوف الليل في تبوك، فرأيت شعلة نار في ناحية المعسكر، فاتبعتها أنظر إليها؛ فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزنيّ قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: "أدنيا إليّ أخاكما"، فدلياه إليه، فلما وضعه في لحده قال: "اللهم إني قد أمسيت راضياً عنه، فارض عنه".

يا لها من دعوة! ويا له من وسام! ويا لها من عظمة! يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "يا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة! ووالله! لقد وددت لو كنت مكانه، ولقد أسلمت قبله بخمس عشرة سنة". إنه الصدق مع الله الذي بلغهم هذه المنازل العالية.

عباد الله: ويكون الصدق في الأقوال، وفي الشهادة، وفي النصح والدلالة على الخير، والتحذير من الشر، فلا يكذب المسلم في حديثه مع الآخرين، وقد عدّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك من أكبر الخيانات، فقال: "كَبُرَتْ خيانة أن تحدِّث أخاك حديثًا، هو لك مصدِّق، وأنت له كاذب" رواه أحمد.

وحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكذب في الحديث، وعدّه من النفاق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" متفق عليه.

وحذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شهادة الزور، وقول الزور، وعدَّهُ العلماء من كبائر الذنوب.

وما أكثر ما تضيع الحقوق والأموال، ويرتكب الظلم، وتطمس الحقائق؛ بسبب قول الزور، وشهادة الزور!.

شكا أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص، وكان والياً عليها إلى عمر بن الخطاب، فقالوا: إنه لا يحسن أن يصلي بالناس. فقال سعد: "أما أنا، فوا لله! ما كنت أصلي بهم إلا صلاة رسول الله".

فأرسل عمر لجنة تحقيق إلى الكوفة يسألون الناس عنه وعن حكمه، فيثنون خيراً، إلا رجلاً يقال له أبو سعدة قال: أما إذا أنشدتمونا الله؟! فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسَّريَّة.

فقال سعد، وهو يرى هذا الزور والبهتان: "اللهم إن كان كاذبًا فأعْمِ بصره، وأطل عمره، وعَرِّضْهُ للفتن"، يقول أحد رواة الحديث: "فأنا رأيته بعد ذلك قد سقط حاجباه على عينية يتعرض للإماء والجواري في شوارع الكوفة، فإذا سئل: كيف أنت؟ يقول: شيخٌ كبيرٌ مفتونٌ، أصابتني دعوة سعد".

فالصدق في الأقوال يجب أن يكون واضحاً وجلياً في سلوك المسلم في أسرته، وفي تعامله مع أولاده وجيرانه، وفي وظيفته، ومع طلابه وزملائه؛ عن عبد الله بن عامر -رضي الله عنه- قال: دعتني أمي يومًا -ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا، فقالت: تعالَ أعطِك! فقال لها: "ما أردتِ أن تعطيه؟" قالت: أردتُ أن أعطيه تمرًا. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنك لو لم تعطِه شيئًا كُتِبَتْ عليك كذبة" أبو داود.

والله -تعالى- يقول عن إسحاق ويعقوب -عليهما السلام- مبيناً فضله عليهما: ( وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً) [مريم:50].

والمذيع والصحفي في جريدته لا ينبغي له أن يختلق الأقوال الكاذبة والأخبار الكاذبة ليجذب الناس إليه، فعليه أن يتحرى الصدق في ذلك.

والشاعر كذلك في قصيدته عندما يطيل المدح والثناء، ويصف بالكذب ما ليس في الواقع، فقد وقع فيما حذَّر منه الله، فقال -تعالى-: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء:224-227].

إن هذه الأمة أمة صدق، ومتى ما تخلى أبناؤها عن هذا الخلق ظهرت الخيانة، وضاعت من حياتهم الأمانة، وظهر بينهم التنازع والفشل، وتسلط عليهم العدو، وسقطوا من عين الله وعيون الناس.

فاللهم وفقنا لطاعتك وحسن عبادتك، وزكِّ ألسنتنا وأعمالنا بالصدق يا أرحم الراحمين.

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

عباد الله: ويكون الصدق في التعامل مع الآخَرين، فالمهندس والبنَّاء والعامل والتاجر وصاحب المصنع يجب أن يقوم كل واحد منهم بواجبه، فلا غشَّ، ولا خداع، ولا انتهازية؛ مَن صدق مع الله يجب أن يصدق مع خلقه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ‏"‏الْبَيِّعَان ِبِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا -أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا- فَاِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَاِنْ كَتَمَا وكذبا محقت بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا‏"‏‏ رواه البخاري.

‏‏والحاكم المسلم يجب أن يكون صادقاً مع أمته وشعبه، صادقا في حكمه وعدله، صادقا في رعايته لأمته وشعبه، فلا وعود كاذبة، أو مشاريع وهمية؛ بل يكون ناصحاً وأميناً وصادقاً في قوله وفعله، عند ذلك يسمع له ويطاع، وتحبه القلوب، وتلهج بذكره والثناء عليه الألسن، ويفتح الله له من توفيقه ورحمته ما يشاء.

وقد حذر -صلى الله عليه وسلم- من عدم الصدق في هذا المقام فقال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم، ولا يكلمهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم"، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "شيخٌ زانٍ، وملِكٌ كذَّاب، وعائل مستكبر" رواه مسلم.

أيها الصائمون عباد الله: إن الصوم يعلمنا الصدق بكل معانيه، فمَن صَدَقَ مع الله في عبادته فلا بُدَّ أن يصدق مع خلقه في سلوكه ومعاملاته، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وُصِف بالصدق حتى قبل البعثة، وكان دينه الصدق من أول يوم، وتربى أصحابه على ذلك، وحمل المسلمون هذا الخلق في فتوحاتهم وتجارتهم ورحلاتهم إلى بلاد الدنيا وأصقاع الأرض؛ فدخل الناس في دين الله أفواجاً.

إن الناس من حولنا والأمم والشعوب لا يحكمون علينا إلا من خلال تصرفاتنا وأفعالنا، فلنكن صادقين مع من حولنا، وذلك بتطبيق قيمنا وأخلاقنا كما جاء بها الإسلام.

منذ سنوات، انتقل إمام إحدى المساجد في بريطانيا إلى مدينة لندن، وكان يركب الحافلة دائماً من منزله إلى المسجد، وكان أكثر الأحيان يستقل نفس الحافلة، ويرى نفس السائق، وذات يوم دفع الأجرة وجلس, فاكتشف أن السائق أعاد له عشرين بنساً زيادةً عن المفترض من الأجرة، فكّر الإمام وقال لنفسه بأن عليه إرجاع المبلغ الزائد لأنه ليس من حقه، ثم فكّر مرة أخرى وقال في نفسه: إنسَ الأمر, فالمبلغ زهيد وضئيل، و لن يهتم به أحد.

توقفت الحافلة عند المحطة التي يريدها الإمام، ولكنه قبل أن يخرج من الباب، توقف لحظة ومد يده وأعطى السائق العشرين بنساً وقال له: تفضل, أعطيتني أكثر مما أستحق من المال! فأخذها السائق وابتسم وسأله: ألستَ الإمام الجديد في هذه المنطقة؟ إني أفكر منذ مدة في الذهاب إلى مسجدكم للتعرف على الإسلام, ولقد أ عطيتك المبلغ الزائد عمداً لأرى كيف سيكون تصرفك.

وعندما نزل الإمام من الحافلة شعر بضعفٍ في ساقيه، وكاد أن يقع أرضاً من رهبة الموقف! فتمسك بأقرب عمود ليستند عليه, ونظر إلى السماء، ودعا باكيا: يا الله! كنت سأبيع الإسلام بعشرين بنساً!.

لذا يجب أن يكون كلٌ مِنَّا مثَلاً وقدوة للآخرين، ولنكن دائماً صادقين، أمناء؛ لأننا قد لا نُدرك من يراقب تصرفاتنا، ويحكم علينا كمسلمين.

وهذه هي العظمة التي ينبغي أن نعيش بها ونحيا بها بين الأمم، ثم لنعلم أن الأجر عظيم، والمثوبة من الله لا حدود لها لمن صدق وتخلق بأخلاق الصادقين، وكان إماماً وقدوة في الخير، قال -تعالى-: (هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ) [المائدة:119].

ولنكثر من الدعاء: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) [الاسراء:80].

هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.