الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
إنَّ الدعوةَ إلى الله مُهِمَّةٌ منضبطةٌ جداً، ومقيَّدة بالخشية من الله تعالى، أما العالِم المتساهِل فلا يؤخَذ عنه في مسائل الحلالِ والحرام إلا بحذَرٍ شديدٍ جِدَّاً كما قرر أهل العلم، كابن تيمية وابن القيم وغيرهما، حتى لو كثر حزبه، وتحذلق، واشتهر ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المسلمون: إنَّ رمضان شهر عبادةٍ وتنسُّكٍ وقراءةِ قرآن، هذا طابعه، وهذه ميزته، شهرٌ يتغيَّرُ فيه الكونُ كلُّهُ، تُصفَّدُ فيه الشياطين، وتفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، ويُنادى فيه إلى فعل الخير كلَّ يومٍ من أيامه.
جاء في حديثه -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كانت أول ليلة من رمضان صُفِّدَت الشياطين ومَرَدَة الجنّ، وغُلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ! ويا باغي الشرِّ أقصر! ولله عتقاءُ من النار، وذلك في كل ليلة".
هذا التصفيد للشياطين ومرَدَة الجن، وفتْح أبوابِ الجِنان، وإغلاق أبواب النيران، والنداء الحنون لباغي الخير بأن يقبل، والنداء المعاكس لباغي الشر بأن يقصر، هذا النداء وهذا الحال الذي يجعله الله -عز وجل- في رمضان، إنما هو إعانة من الله -تعالى- لعباده للإقبال على الطاعة وإصلاح قلوبهم، هو إعانة لهم وتحفيز كي يقتنصوا هذه الفرصة الكبيرة.
فرصة كبيرة أمامهم، وهذه المنحة الربانية العظيمة يقتنصونها بالتخلي عن المعاصي ابتغاء الأجر والمغفرة، فالملائكة في هذا الشهر المبارك تحف الذاكرين، وتستغفر للتائبين، وتكتب أجور المحسنين، والكلِم الطيب يصعد له، والعمل الصالح يرفعه، والحسنات تبيِّض صحائف الصائمين، وتمحو عنها ما كدَّرَها طوال العام، في أيام وليالٍ بهيجة يُكرِم الله بها عباده كرما عجيبا، فيضاعف الحسنة الواحدة مئات ومئات، إلى سبعمائة ضعف، نسأل الله من فضله وكرمه.
لكن؛ في وسط هذا الجو الجميل، هذا الجو الإيماني الجميل الذي هيّأه الله تعالى لنا، تأبى شياطين الإنس إلا إفساده وإفساد جماله، وتصر على تعكير صفوه، وتعمل على إمالة الناس عنه ميلا عظيما، فينوبون عن شياطين الجن، وبنشاط وقوة غير عاديَّيْن، وغير معهودَيْن في غيره من الشهور.
فهؤلاء المفسدون قلوبهم قاسية، والقلوب القاسية لا تستشعر احترام الشهر في ذواتها، وإذا زادت قسوتها تجاوزت ذلك إلى الجرأة عليه، وإفساد روحانيته حتى على سائر الناس، لهو ولعب غير بريء، وتمثيل وسفور، وغناء وموسيقى تصم الأذان. هذا شأنهم، وهذا عالمهم، وهم في غفلة مخيفة، نسأل الله السلامة والعافية!.
لكن؛ ماذا عنا نحن؟ ماذا عن نسائنا وأولادنا؟ ماذا عنا نحن أبناءَ رمضان؟ أتنطلي علينا حيلهم؟ أنسير طواعية خلفهم؟ أنرضى بأن نكون ضحايا لإفسادهم وفتنتهم؟ ألا نملك الإرادة الإيمانية للصبر عن اغراءاتهم؟.
إنَّ الإسلام لا يمنع الترفيه إذا كان نظيفا محترما مراعيا لأحكام الشريعة، أما ما تعرضه الفضائيات التجارية اليوم فإنه بعيدٌ جدَّاً عن ذلك الانضباط، فينبغي الحذر من لصوص رمضان، فإنَّ أعزَّ شيءٍ يُحزَن على سرقته من أولئك اللصوص هو إشراقات القلب في هذا الشهر: الخشوع، التقوى، الإنابة، الخشية.
وإذا فقد القلب هذه الإشراقات انطفأ وأظلم، وإذا ذهب نور القلب وأظلم لم يعد يحسُّ بغفلته، ولا يتألم من ذنبه؛ بل على العكس، قد يستأنس بالذنب ويفرح به، والسبب في هذه العاقبة الوخيمة إدمان القلب، وإطلاق عنان النفس أمام الشهوة المحرمة.
فالذنوب المكتسبة من متابعة المنكرات في تلك الفضائيات كُلَّ ليلةٍ تتراكم على القلب، ذَنْبٌ فوق ذنبٍ فوق ذنبٍ، وفي السنن؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا أذنب ذنبا نُكِتَتْ في قلبهِ نُكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله -تعالى- في القرآن: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14]".
فرمضان شهر الخشوع والضراعة، ولن نصل إليهما ما لم نحذر من كيد شياطين الإنس، فالقلب هو موطن الخشوع، وهو الدافع إلى الضراعة، وإلى الدعاء، وإلى الرجاء، ولن يقوم القلب بدوره ما لم يرقّ ويضيء، ولن يرق ويضيء ويخشع ويلين لذكر الله ما لم نحفظه من الذنوب؛ ولذلك قال السلف: "القلب إذا قلَّتْ خطاياه؛ أسرعَتْ دُمُوعُه".
يخشع القلبُ ويرقُّ وينكسر أمام آياتِ الله إذا قلت خطاياه؛ فلنحفظ قلوبنا وقلوب أهلينا مِن شَرِّ الذنوب، لا سيما في هذا الشهر، فكلها أيام معدودات وتنقضي، إما على مغانمَ أعظمُها غفران الذنوبِ كُلِّها، نسأل الله من فضله، وإما على خسائرَ فادحةٍ، وقد جاء في الحديث أن جبريل قال: "بعُدَ مَن أدركَ رمضان فلم يُغْفَرْ له"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "آمين".
معاشر الإخوة: الحديث يجر أشباهه، فقد أقحمت إحدى الفضائيات نفسها في منزلق خطير كان وما زال أحد أحاديث المجالس والمنتديات، ذلك هو تمثيل شخصية أحد كبار الخلفاء الراشدين -رضي الله عنه-، ولن يكون كلامنا اليوم عن الحكم الشرعي لهذه المسألة، بقدر ما سيكون حول صحة المنهج الذي يربي عليه بعضُ الدعاة وطلبة العلم عامةَ الناس.
أيها الإخوة: لا يشكك عاقل في نية مَن ساهم في ولادة ذلك العمل من المشايخ، أولئك الذين استندت إليهم تلك الفضائية في الجانب الشرعي؛ لأن العمل له علاقة برمز كبير من رموز الإسلام، وإلا لما التفتَتْ إليهم أصلا؛ فإنها كانت -وما زالت- تعرض ألوانا من المنكرات في رمضانَ وغيرِ رمضان.
أقول: لا يشكك عاقل في نيتهم؛ لكن صلاح العمل لا يحكم عليه بالنية الطيبة فقط، بل يلزم أن يكون العمل على نور من الشرع، وليس ذلك فحسب؛ بل على منهج السلف الصالح كما وصانا -صلى الله عليه وآله وسلم- في حديثه المعروف: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". وفي حديثه الذي زكى به القرون الثلاثة الأولى: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
أما الانحراف عن منهج القرون المفضلة في الاستدلال والتلقي، والاعتماد على الذوق والفلسفة والاستحسان المجرد؛ لتمرير مسألة مثل هذه، فها هنا تكمن الخطورة، فالغاية -مهما كانت نبيلة- لا تبرر الوسيلة، وإن ما عند الله لا يُنال بسخطه، وطاعته -سبحانه وتعالى- لا تنال بمعصيته، فلا يجوز أن يرتكب الإنسان معصية من أجل أن يتوصل إلى طاعة.
مثال: يذهب ويُرابي من أجل أن يأخذ مال الربا يتصدق به! الله غني عن صدقته! أو يرتكب أمرا محرما لكي يدعو إلى الله تعالى! إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، لا يقبل إلا خالصا.
المسلسل، وإن كان فيه بعض المصالح، فيه أيضا من المنكرات ما لا يرضى عنه رب العالمين، فالمسلسل حتما سيأتي بمرحلة ما قبل الإسلام، وبالتالي سيُظهر الشرك، وفرقٌ بين الإخبار عن الشيء، وبين تقمص السلوك نفسه وذاته، فإظهار الشرك، كالسجود لصنمٍ أو دعائه من غير الله -ولو كان تمثيلا- لا يجوز.
والحلف باللَّاتِ والعُزَّى، أو التلفُّظ بسبِّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو التنقُّص منه في مرحلةِ ما قبل إسلام عمر -ولو كان تمثيلا- لا يجوز.
ناهيك عن السفور، والموسيقى، والفواصل الإعلانية التي يستغل المسلسل من أجل الترويج لها وبالتالي الكسب المادي للفضائية، وما تحتويه تلك الفواصل من مشاهد تبرُّج النساء وخضوعهن بالقول، حتى لو كانت لترويج شامبو أو عصير.
مَن يروّج لهذه المشاهد؟ عمر بن الخطاب! هل هذا من التقدير والإجلال؟ هل بهذا رفع لمقامه -رضي الله عنه-؟ هذا هو المقصود: عندما يكون المانع لهذا المسلسل أن فيه إنقاصاً لقدْرِه، وسخريةً من شخصيته؛ فالدور يُظهر مكارمَ أخلاقِه، ثم يضرب عن هذا كله بالموسيقى والسفور والفواصل الإعلانية!.
والمعروف عن عمر -رضي الله عنه- غَيْرَته الشديدة؛ ليس على الدين فقط؛ بل حتى على النساء، فكيف يَقْبَلُ بالسُّكُوتِ عن سُفُور النساء أمامه في ذلك المسلسل؟!.
والمعروفُ أنَّ التمثيلياتِ تستخدم عنْصَرَ التشويقِ، وبالتالي؛ فإن الوقوف في نهاية الحلقة على باطل، أو الوقوف على منكر من مواقف فترة الجاهلية المخزية بكل ما فيها، الوقوف هنالك، ثم انتهاء الحلقة عند ذلك الشر أو الباطل، من باب التشويق للحلقة القادمة، لا يجوز. لماذا؟ لأنه يجب البيان وإزالة الشك مباشرة.
هذا دين، وأهل العلم اتفقوا على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فهل سيلتزم المسلسل بهذا الواجب الشرعي؟!.
هذه بعض المآخذ الشرعية الواضحة التي دعت المجمع الفقهي الإسلامي، والأزهر، وهيئة كبار العلماء، أن يجتمعوا على تحريم تمثيل أدوار كبار الصحابة، ناهيك عن العشرة المبشرين بالجنة، وبالأخصّ: الخلفاء الراشدين.
والعجيب أن بعضهم يستدل بفيلم عمر المختار، وأنه كان له تأثير على الناس، وهو قياس مع الفارق؛ لأن سيرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من الدين. فهل نأخذ ديننا من مسلسلات وأفلام؟! وهل نأخذه عن ممثلين؟! والكُلُّ يعرف الوسط الفني اليوم الذين سيمثلون دور الصحابة، ثم غداً يمثلون أدواراً مغايرةً تماماً!.
فسيرته -رضي الله عنه- من الدين. لماذا هي من الدين؟ لأنه كان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبالتالي؛ مواقفه التي أُقِرَّتْ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي من الدين، ولأنه كان من الخلفاء، وبالتالي؛ فنحن مأمورون باتِّباع سنته، كما في الحديث السابق: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين".
أما عمر المختار فليس من ذلك في شيء، ولا أحد ينكر أثر الأفلام على النفوس؛ بل وعلى تشكيل المبادئ والقيم، لكن التأثر بما يسمى بالحبكة الدرامية وبالتعاطف مع الشخصية شيء، والتأثير الدعوي شيء آخر تماما.
ولم يُسلِم ممثل دوْر عمر المختار، ولم يسلم الذي مثَّل دور الجينرال الإيطالي، ولم ينصلح حال مَن مثل فيلم الرسالة، ولم ينصلح حال من مثل فيلم الشيماء، كلهم على ما هم عليه!.
أقول: نعم؛ قد يعجب الإنسان بشخصية بطولية حتى لو كانت خرافية وهمية في أي فيلم تجاري، وتبقى تلك القصة في ذاكرته دون أن تؤثر على واقعه، تبقى مجرد ذكريات ومواقف ومعلومات.
وعلى كل حال؛ حتى لو كان في هذا نوع من التأثير والفائدة فالداعية لا يهمه قوة التمثيل، ولا براعة الإخراج، ولا ضخامة الإنتاج، هذه نتركها لنُقَّاد الفن السينمائي ودنياهم.
الداعية يهمُّه الحكم الشرعي في المقام الأول، فإذا صحت الوسيلة شرعاً انتقل إلى فَنِّ الأثر الدعوي وأسلوب الدعوة.
أسأل الله تعالى ان يصلح الحال، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زال حديثُنا عن المنهج الدعويِّ الشرعيِّ الذي يُقَدَّمُ للناس اليوم، أحد أعضاء تلك اللجنة الشرعية قال: "ليس لنا شأن بإباحة المسلسل أو الدخول في مسؤولية الفتوى، وإنما مهمتنا هي النظر في صحة النص من الناحية التاريخية فقط".
فهذا الكلام -في الحقيقة- فيه التفاف وحيلة يلمحها المتأمل، فالكل يعلم أن مجرد دخول أولئك المشايخ في المقدمة وشيوع ذلك بين الناس يذكي المسلسل، ويُصبغ عليه الكِفاء الشرعي، فلا تنصل من المسؤولية، فالذين عارضوا المسلسل عارضوه للأسباب التي ذكرتها آنفا، وسدا لأبواب فساد أخرى مغلقة تنتظر من يفتحها، فالخطوة تجر أختها، ومن حام حول الحما يوشك أن يرتع فيه، ألا يجر هذا إلى ما هو أعظم؟ ألا يمكن أن يأتي غدا من يقول: تعالوا نجسد شخصية أم المؤمنين -عائشة- حتى نذب عنها؟!.
فاليوم عمر، وغداً نبيُّ الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن أنكر الغيورُ قالوا: المسألة خلافية ولا بأس! ألم يخشَ هؤلاء لما نابوا عن عمر -رضي الله عنه- في إباحة تجسيد شخصيته في تلك المؤسسة العلمية المعروفة بفسادها، ألم يخشوا أن يحاجهم عمر يوم القيامة فيصرخ في وجوههم: مَن وَكَّلَكُم؟ ومن سمح لكم؟ ألا يخشى هؤلاء؟.
أيها الإخوة: أعود وأقول: إن كل هذا الكلام ليس القصد منه ذات المسلسل، وإنما القصد منه تأصيل منهج المسلم حتى لا تزيغ بالمسلم الأهواء والأذواق وضغوط الفكر العقلاني البعيد عن ثوابت الكتاب والسنة في مسائلَ أخرى ستأتينا، فينحدر إلى ما هو أسوأ.
إنَّ الدعوةَ إلى الله مُهِمَّةٌ منضبطةٌ جداً، ومقيَّدة بالخشية من الله تعالى، أما العالِم المتساهِل فلا يؤخَذ عنه في مسائل الحلالِ والحرام إلا بحذَرٍ شديدٍ جِدَّاً كما قرر أهل العلم، كابن تيمية وابن القيم وغيرهما، حتى لو كثر حزبه، وتحذلق، واشتهر.
ولما سئل ابن عمر -رضي الله عنهما- عن شيء فقال: لا أدري، أتبعها بقوله: أدري، دون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسورا في نار جهنم تقولون: أفتانا ابن عمر بهذا!.
هكذا كان منهجهم -رضي الله عنهم-، ولذلك لما سأل عبدُ الله بن أحمد بن حنبل أباه الإمام أحمد: هل كان مع معروف الكرخي شيء من العلم؟ قال له: يا بني، كان معه رأس العلم، خشية الله تبارك وتعالى. (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28].
ثم إن مهمة الداعي إلى الله البلاغ والبيان، والتزام أمر الله في ذلك بلا معصية ولا شبه معصية؛ ولذلك شَيَّبَتْ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- آيةُ: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) في سورة هود [هود:112]، ونزل مثلها آيات أخرى تحذر من الميل عن المنهج: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [الشورى:15].
أما أمر هداية القلوب بعد ذلك فمرجعه إلى الله إلى مالك القلوب لا إلى الدعاة، فلماذا يورط الإنسان نفسه فيما لا يسأل عنه أصلا؟!.
وتأملوا في مثالٍ واحد مما أنزله الله -تعالى- من عديد من الآيات في هذا الأمر: قال -تعالى-: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) [البقرة:112]، أنت مكلف بالتبشير والإنذار فقط، وليس بهداية قلوبهم، ولا تسأل عن أصحاب الجحيم:لماذا لم تهتد قلوبهم؛ ولذلك قال بعدها مباشرة: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة:120].
هذا تحذير للنبي -صلى الله عليه وسلم-: التزِمْ بالعلم، ولا تتنازل عن منهجك من أجلهم؛ فإنهم لن يرضوا عنك حتى تتبع ملتهم، فاستقم في دعوتك ولا تتبع الهوى، فالهدى من عند الله، (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) [البقرة:120]، لا من عندك، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة:120].
أسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا الفتن، ما ظهر منها وما بطن...