الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إنها قصة شعيب -عليه السلام- مع قومه أهل مدين، وهم قبيلة عرب كانوا يسكنون أرض معان من أطراف الشام، وهذا الموقع في دولة الأردن حاليًا، وهذه الأرض كان أهلها مؤمنين صالحين، فتغير بهم الحال، ومرت بهم السنون، وطال بهم الأمد حتى ظهر الفساد في أهلها، وانتشر الشرك في جبلها وسهلها، وأظلمت القلوب واسودَّت النفوس، وتدنّس الناس بدنس ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- في السر والعلانية، فتقوى الله والخوف منه هي النجاة في الدنيا والآخرة.
عباد الله: في القرآن الكريم ذكر الله والذي به تطمئن القلوب، في هذا الكتاب العظيم عدد من القصص العظيمة، رأيت أن نعيش مع واحدة منها في هذا اليوم للتذكرة والعظة ثم الدروس العظيمة التي نستفيد منها، إنها قصة شعيب -عليه السلام- مع قومه أهل مدين، وهم قبيلة عرب كانوا يسكنون أرض معان من أطراف الشام، وهذا الموقع في دولة الأردن حاليًا، وهذه الأرض كان أهلها مؤمنين صالحين، فتغير بهم الحال، ومرت بهم السنون، وطال بهم الأمد حتى ظهر الفساد في أهلها، وانتشر الشرك في جبلها وسهلها، وأظلمت القلوب واسودَّت النفوس، وتدنّس الناس بدنس المعاصي، وارتموا في أوحال الذنوب والشهوات.
فلما جلّ الخطب -أي كبر وعظم الشر- وفدح الأمر وعظم الفعل، أرسل الله -عز وجل- إليهم شعيبًا -عليه السلام-، وآزره بالمعجزات وأيده بالبينات.
فدعاهم -أول ما دعاهم- إلى تصفية العقيدة وتحقيق التوحيد لله -عز وجل- وإعلان العبودية لله وحده لا شريك له، ثم حذرهم من الذنوب التي تواطؤوا وتعوّدوا عليها، وصارت من عاداتهم وطبائعهم، ونهاهم عن المعاصي التي درجوا عليها، ألفتها نفوسهم وارتضتها قلوبهم، حتى أصبحت جزءًا من حياتهم، وشيئًا من كيانهم، بل أصبح إنكارها هو المنكر، وهي ذنوب مؤذنة بفسادهم ومعلنة باستحقاقهم أن يدمرهم الله -عز وجل-، ثم ذكَّرهم بنعم الله عليهم، وحدّثهم عن وجود المولى الله -عز وجل- عليهم، وانطلق في مسيرته الدعوية والقيام بواجبه الإصلاحي في يسر وترفُّق معهم ولين وتلطُّف، بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة؛ قال الله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف58 : 86].
وقوم شعيب هم أصحاب الأيكة، حيث كانوا يعبدون الأيكة؛ وهي غيضة تنبت الشجر.
عباد الله: في هذه الآية تتجلى أعظم المنكرات التي كان يقع فيها قوم شعيب حتى صارت هي الغالبة عليهم وهي:
أولاً: الشرك بالله تعالى وعبادة غيره معه.
ثانيًا: عدم إيفاء الكيل والميزان في البيع والشراء، أي الغش فيما بينهم مع ما جاءهم من البينات والمواعظ والنصح، فقد كانوا إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون -أي ينقصون الميزان-، وهذا من الذنوب العظيمة التي توعّد الله أصحابها بالويل والهلاك، والتي هي واقعة إلى يومنا هذا.
ثالثًا: بخس الناس أشياءهم، والبخس: النقص، وانظروا إلى روعة كلمة (أشياء)، فليس شرطًا أن يكون ذلك البخس للحقوق المادية فقط، بل تتنوع مظاهر بخس الناس أشيائهم وهضم حقوقهم، سواء كان ذلك في الأمور المادية أو في الأمور المعنوية، وبخس الناس قد يكون بالعيب للسلعة أو التزهيد فيها، أو تنقيص قيمتها، أو المخادعة لصاحبها أو الاحتيال عليه، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل.
رابعًا: تعمُّد الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وتعمد إفساد أهلها، وإبعادهم عن دينهم، وجرهم إلى الرذيلة، ودعوتهم إلى الخطيئة، وكانوا يتوعدون من يخالفهم من الناس بالعذاب، ويقصدون من يذهب إلى شعيب -عليه السلام-، أو يستمع إليه، ويتبعه ويؤمن به.
خامسًا: القعود في وجه الدعوة إلى الله والحرب على أنصارها وأتباعها، والحملة الجادة للصد عن سبيل الله والسلوك بالناس والحياة الطريق الأعوج، والبعد عن الطريق المستقيم، فقد جمعوا أسوأ المعاصي وأخطر الآثام، وأقبح الذنوب: الشرك بالله، والصد عن سبيله، وأكل حقوق عباد الله، وبخس الناس أشياءهم.
وقد سلك شعيب -عليه الصلاة والسلام- مع قومه كل السبل لدعوتهم والتأثير في نفوسهم بقلب مشفق عليهم ونُصح مترفق بهم، وذكَّرهم بالله ومعجزاته الصادقة، وبيّن لهم أنه واحد منهم، وأن الرائد لا يكذب أهله، وابن العشيرة لا يخون عشيرته، وذكَّرهم بنعم الله عليهم، وأنهم كانوا قليلين مستضعفين في الأرض لا قوة لهم ولا قيمة ولا حول ولا طول، فكثرهم وآزرهم ونصرهم وذكرهم بمصارع الأمم السابقة قبلهم، وحذّرهم أن يصيبهم ما أصابهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ)[هود:89].
فهذه الأمم أهلكهم الله -عز وجل- بسبب كفرهم وشركهم وعدم إيمانهم بالله وعمل المعاصي العظيمة، وآخرهم والأقرب إلى قوم شعيب -أي الذين قبلهم بوقت ليس بكثير- أهلكهم الله وقد كانوا قريبين أيضًا من قوم شعيب في البحر الميت حاليًا -والله أعلم-، بين فلسطين والأردن حاليًا، وهم قوم لوط.
ثم أمرهم بالاستغفار، بل بكثرة الاستغفار؛ لأن الاستغفار أمر عظيم، ودعاهم إلى التوبة إلى الله من الذنوب والمعاصي، وبيّن لهم أن الله تعالى رحيم ودود وسعت رحمته كل شيء، فلم تنفع فيهم الدعوة ولم تثمر فيهم الموعظة، ولم تُجْدِ فيهم النصيحة، قال تعالى: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا)[الأعراف:88]، فهذا رد المتكبرين المتغطرسين، ويسير وراءهم الغوغائيون، فوقفوا في وجه شعيب واستهزؤوا بقوله وسخروا منه ومن قوله، وتهكموا به فقالوا ما معناه: إن دعوتك وعبادتك وصلاتك لن تكون مهيمنة على أعمالنا وسلوكياتنا، وإننا سنعامل الناس بما نشتهي، ولن ندع ما تعودنا عليه، ومن ذلك تكثير أموالهم بطرق غير مشروعة، وهي غش الناس وأكل أموال الناس بالباطل من ربا ورشوة وغش وغيرها، فهذه الأمور خبيثة في ذلك الزمان وفي كل زمان، ومع كل ذلك تحمل شعيب -عليه السلام- جفوة قومه وصبر على آذاهم وقال لهم: إنه لن ينتهي عن دعوتهم إلى الخير، ولن يكرههم على اتِّباعه، ولن يفعل ما ينهاهم عنه، ولا يريد منهم جزاءً على ذلك، قال تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88].
فلما وعظهم وأحسن موعظتهم وجادلهم فأحسن جدالهم، وأظهر لهم فساد اعتقادهم، وبيّن لهم عاقبة ظلمهم، وخوّفهم من بأس الله تعالى وعذابه، وأيده الله -جل وعلا- بالحجة البالغة والآيات البينة والبرهان الساطع، لجؤوا إلى المراوغة في القول، ومدافعة الحجة بالشتم والبينة بالسباب والتمرد على الموعظة بالمغالطة؛ قال تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) [هود:91].
فهم يقولون له: لا سبيل لكلامك إلى قلوبنا، ولا ينفذ إلى عقولنا، وأنت مستضعف ذليل بيننا، ولم يمنعنا من إلحاق الأذى بك إلا مكان عشيرتك منا وحرمة قبيلتك.
هذا هو ردهم عليه، وللحديث بقية في الخطبة الثانية -إن شاء الله- لبيان عاقبتهم المشينة.
أسأل الله أن ينفعنا بهدي كتابه الكريم، وسنة وهدي خاتم رسله -صلى الله عليه وسلم-، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأسأل الله أن أكون وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واشكروه على نعمه وآلائه، واخشوا الله وراقبوه، واقرؤوا كتاب الله وافهموه وتدبروه واعملوا به، ففيه مع سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- النجاة والفوز بالجنة، والنجاة من النار -بمشيئة الله تعالى-.
واستكمالاً لحديثنا عن قصة شعيب نبي الله -عليه السلام- مع قومه نقول كما جاء في كتاب الله -بالمعنى- أن شعيبًا -عليه السلام- لم يضعف أمام قومه، بل دافع عن الحق وكان واثقًا بمعية الله -عز وجل-، ورد عليهم قائلاً كما جاء في قوله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) [هود:92]، ولم يقل عزمه، بل تحداهم ودعاهم إلى أن يبذلوا كل ما يستطيعون لإيصال الشر إليه، واستمر قومه في الكفر، وتمادوا في الضلال والسخرية من شعيب وأتباعه، وهددوه بالرجم والطرد من البلاد، فقال الله تعالى عنهم: (وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء186 :187].
ثم حلّت بهم العقوبة، وجاءتهم النقمة، فابتلاهم بالحر الشديد، فكان لا يروي ظمأهم ماء، ولا تمنعهم ظلال، ولا تقيهم المنازل، ففروا هاربين من الحر، وخرجوا مسرعين من الجحيم، ولم يعلموا أنهم إنما فروا إلى حتفهم وخرجوا إلى هلاكهم، فقد تجلّت لهم سحابة في السماء فظنوا أنها واقية لهم من الشمس دافعة للحر، فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها ويستروحوا، ويستبشروا بغيثها الهنيء المريء، حتى إذا تكامل عددهم، واجتمعوا كلهم، رمتهم بشرر وشهب، وأمطرتهم بعذاب وسخط، وجاءتهم صيحة من السماء، وأحسوا الأرض تتزلزل تحت أقدامهم، فاشتد خوفهم وعظم قلقهم، وطاشت عقولهم وذعرت نفوسهم، وخارت أقدامهم، وجاءتهم الصيحة وأخذتهم الرجفة، فعلا صياحهم، وضج بكاؤهم، وارتفع نحيبهم، فدمرت أجسادهم، وزهقت أرواحهم: (فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ)[هود:67]، وقال الله تعالى عنهم: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:92] .
فلما رأى شعيب ما حل بقومه أعرض عنهم، وأثقله الحزن على ما أصابهم، وتذكَّر كفرهم وعنادهم واستهزاءهم به وإساءتهم إليه، ثم تولى عنهم وقال كما قال الله تعالى عنهم: (وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) [الأعراف:93].
وقد وردت قصة شعيب مع قومه في عدد من سور القرآن الكريم بتفصيلات مختلفة ومنها: سورة الأعراف وهود والشعراء والعنكبوت لمن أراد زيادة في التفصيل.
أسأل الله أن نكون ممن يتأثر ويتعظ، ويستمع ويعي قلبه، وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم رسل الله، المنزل عليه كتاب الله القرآن الكريم ومثله معه، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.