الأحد
كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن الصادق القايدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لقد حارب الإسلام العصبية، أيّ عصبية كانت، سواء كانت عصبية لقبيلة أم أسرة أم مال أم منصب أم لغة أم لون، وجعل الناس أمام ربهم سواسية، يتفاضلون بميزان واحد فقط وهو التقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). ولقد خطب الرسول في الناس فقال: "يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد". رواه أحمد، وقال في حديث آخر: "أنتم بنو آدم، وآدم من تراب". رواه أبو داود. فلماذا يتفاخر الناس؟! ولمَ يزهو بعضهم على بعض ما دام ..
أيها الإخوة المسلمون: لقد حارب الإسلام العصبية، أيّ عصبية كانت، سواء كانت عصبية لقبيلة أم أسرة أم مال أم منصب أم لغة أم لون، وجعل الناس أمام ربهم سواسية، يتفاضلون بميزان واحد فقط وهو التقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]. ولقد خطب الرسول في الناس فقال: "يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد". رواه أحمد، وقال في حديث آخر: "أنتم بنو آدم، وآدم من تراب". رواه أبو داود. فلماذا يتفاخر الناس؟! ولمَ يزهو بعضهم على بعض ما دام ربهم -سبحانه وتعالى- واحدًا وأصلهم جميعًا واحد وهو أنهم من تراب؟!
ولقد حارب الإسلام كلّ مظهر من مظاهر العصبية القبلية التي كانت منتشرة في الجاهلية، وأصبح القرآن الكريم والسنة المطهرة سدًّا منيعًا أمام من يحاول إظهار التعالي أو التفاخر بقبيلته وقوتها، فالعصبية تبعث على الحمية، والحمية من صفات الجاهلية، ولقد قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعوها فإنها منتنة". نعم والله، إنها لمنتِنَة وخبيثة تفرّق بين الناس، وتجعلهم طبقات، فتثور الأحقاد في النفوس، وتتحرّك الضغائن في الصدور، ثم يكيد الناس بعضهم لبعض، فأيّ أمة تتقدّم وأي إنجاز يتمّ والناس يكره بعضهم بعضًا، والحقد يحرق القلوب والأفئدة؟! وقد يدفع التعالي والافتخار بأيّ عصبية كانت يدفع بالبعض إلى أن يطعن بأنساب غيره، وما علم أن هذا من صفات الكفر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اثنان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت". رواه مسلم.
وتعجّب أشدَّ العجب عندما ترى من الناس من لا همّ له سواء كان في عمله أم متجره أم في مجلسه، لا همَّ له إلا أن يثير هذه القضية ويشد أنظار الناس إليها، وهي قضية العصبية، وهو بالطبع يقصد بذلك أن يظهر علو مكانته ورفيع منزلته وإشهار قبيلته، وهو بعمله هذا يحتقر مَنْ أمامه من المسلمين، وما درى المسكين أن رسول الله تبرأ منه ومن فعله القبيح هذا وهو الصادق المصدوق حيث قال: "ليس منا من دعا إلى عصبية"، رواه أبو داود، ويقول أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". رواه البخاري ومسلم.
ونحن نسمع كثيرًا من العبارات التي تؤدّي إلى النعرات القبلية والتنابز بالألقاب، فهذا يقول مثلاً: "يا بدوي"، وهذا يردّ عليه بـ"يا حضري"، وهذا يقول: "يا خضيري"، والآخر يقول: أصيل، وهذا نجدي، وهذا حجازي، وهذا سعودي، وذاك أجنبي، وهذا عربي، والآخر أعجمي، وتقال بطريقة يشمّ منها التنقيص من الطرف الآخر واحتقاره، وقس على هذه الأوصاف التي تثير العصبية التي يأباها الله ورسوله والمؤمنون.
فالنبي غضب على أبي ذر لما عيّر بلالاً الحبشي وناداه بأمه قائلاً له: "يا ابن السوداء"، فلقد غضب النبي على أبي ذر السيّد العربي لما سبّ بلالاً، وقد كان بلال هذا عبدًا حبشيًّا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية"، فما كان من أبي ذر -رضي الله عنه- إلا أن ذهب لبلال واستسمَح منه ووضع له خدَّهُ على التراب وطلب من بلال أن يطأ بقدمه على خده إمعانًا منه في الاعتذار له وتأديبًا للنفس الأمّارة بالسوء وترويضًا لها عن التطاول على الآخرين إذا نزع بها الشيطان حينًا.
والفاروق عمر -رضي الله عنه- لم يرض أن يهين ولد عمرو بن العاص قبطيًّا كافرًا، حيث ضرب ابن عمرو بن العاص هذا القبطيّ قائلاً له: خذها وأنا ابن الأكرمين، فاشتكي القبطيّ لعمر، فاستدعى عمر عمرو بن العاص وولده، ومكّن القبطي من القصاص من ابن عمرو، ثم قال كلمته الشهيرة التي سجّلها التاريخ بحروف من نور وبمداد من ذهب: "يا عمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!".
الله أكبر، هذا هو الإسلام، وهذه عدالته حتى مع غير المسلمين، وهذا هو الإسلام الذي يدخل فيه الناس أفواجًا.
أما الإسلام الذي يتقوقع على نفسه ويدعو إلى العصبية أو القومية منتقصًا المسلم المخالف لقوميته وقبيلته فهذا ليس هو إسلام محمد بن عبد الله الذي أمره الله بتبليغه، ولقد رفع الله بعض الناس على بعض كما قال: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيَّا...) الآية [الزخرف: 32]، وفي هذه الآية تنبيه على حكمة الله تعالى في تفضيل الله بعض العباد على بعض في الدنيا؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا أي: لِيُسَخّرُ بعضهم بعضًا في الأعمال والحرف والصنائع، فلو تساوى الناس في الغنى ولم يحتج بعضهم إلى بعض لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث صحيح يدل على اصطفاء الله له: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى هاشمًا من قريش، واصطفاني من بني هاشم"، وعلى الرغم من هذا الاصطفاء فإنه يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، بل قولوا: عبد الله ورسوله"، وحين دخلت عليه امرأة وخافت وارتبكت طمأنها وسكن روعتها وقال لها: "لا تخافي؛ إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد" أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-، وكان يقول: "يا معشر قريش: اشتروا أنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب: لا أُغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله: لا أُغني عنكِ من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد: سليني ما شئت من مالي لا أُغني عنكِ من الله شيئًا". رواه البخاري ومسلم.
فهؤلاء مع شرف نسبهم وقرابتهم من رسول الله لم ينفعهم ذلك دون أن يشتروا أنفسهم من عذاب الله بالتقوى والعمل الصالح، ولقد قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، وهنيئًا هنيئًا لمن جمع شرف النسب وشرف العمل، فذلك هو الفوز المبين والشرف العظيم، وأعظم من جمع كل ذلك سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو المصطفى المختار.
وإن من شرِّ من لم ينفعه شرف نسبه وعظمة حسبه وكثرة ماله عم رسول الله أبا لهب، فلما آذى النبي وأشرك بالله ولم يعمل صالحًا استحق أن يقول له الله -عز وجل-: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ) [المسد: 1-3].
وإن من خير من رفعه الله بصالح العمل وسابق الإيمان بلال بن رباح، وقد كان عبدًا مملوكًا محتقرًا وضيعًا، فرفعه إيمانه، فأصبح مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصعد -رضي الله عنه- بقدميه السوداوين سطح الكعبة، ورفع صوته مؤذنًا على مرأى من صناديد قريش وعظمائها يوم الفتح مناديًا بكلمة التوحيد: الله أكبر الله أكبر.
وكذلك من نفعه إيمانه وعمله الصالح فرفعه إلى أعظم حسب ونسب الصحابي الجليل سلمان الفارسي، الذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سلمان منا أهل البيت".
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أعز الطائعين برضاه، وأذل العاصين بسخطه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يضع من يشاء ويرفع من يشاء وهو العزيز الحكيم، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، سيد ولد آدم ولا فخر، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
إن هذه العصبية التي يأباها الإسلام ويحاربها هي التي أدت إلى نشوء التعصبات المذهبية والنعرات القبلية التي أودت بالمسلمين وأضعفتهم، ولو تتبعنا سير هذه التعصبات لوجدنا وراءها أعداء الله من يهود ونصارى، فلقد بدأت بالمنافق اليهودي عبد الله بن سبأ، واستمرت بأشكال متنوعة في العصر الأموي والعباسي، واتخذت منحى آخر نجح الأعداء في تأجيجه بين المسلمين، هذا عربي أصيل، وهذا بربري، حتى انهار الإسلام في الأندلس، وتمكن اليهود من بذر فتنة القومية والعصبية بين الشريف حسين وبين العثمانيين بأن الأشراف من أهل البيت وهم أحق بالخلافة من المسلمين الأتراك الأعاجم، حتى صدق الشريف حسين هذه المقولة وأعلن الثورة والعداء على إخوانه المسلمين الأتراك في السلطنة العثمانية التي حافظت على الإسلام قرابة ثمانية قرون، وهذا ما حدث في أفغانستان، وفتنة المذهبية والوهابية التي أتت إلى أفغانستان لتدمير المذهب الحنفي كما يدعون، وهذا ما يحدث اليوم في جميع أنحاء العالم الإسلامي من فتن هدفها التفريق بين المسلمين ليسهل ضربهم وتشتيتهم وذهاب ريحهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ووالله، إن أعظم وأشرف وصف ينبغي أن يعتز المسلم به ويفتخر هو عبوديته لله -عز وجل-، حينما اصطفى رسوله محمدًا خاطبه بوصف العبودية فقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) [الإسراء: 1]، ولو كان هناك وصف أعظم من العبودية لنادى به الله سبحانه خليله، وما أحلى قول الشاعر عندما يخاطب ربه -سبحانه وتعالى- قائلاً:
وممـا زادني شرفًـا وتيهًـا | وكدتُ بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي | وأن صيَّرت أحْمد لِي نبيًا |
فاللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين...