المحيط
كلمة (المحيط) في اللغة اسم فاعل من الفعل أحاطَ ومضارعه يُحيط،...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إنه عندما استشرى الفساد في بني إسرائيل وفشا بينهم العصيان واضطرب فتيل الأمان، ولم تعد للرحمة مكان في نفوسهم ولا هيبة لأنبيائهم في قلوبهم، وأنكر أحبارهم وقراؤهم حق الله، وكذب ولاتهم رسل الله، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، استحقوا من الله أن يذيقهم العذاب الشديد، ولكنه سبحانه أعدل من أن يرسل على قوم العذاب قبل ..
الحمد لله يحي ويميت ويبعث من في القبور وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واحمدوه واشكروه.
عباد الله: أكثر الأمم التي تحدث عنها القرآن الكريم بني إسرائيل، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ما معناه: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج". وسنتحدث عنهم اليوم ونقول وبالله التوفيق.
إنه عندما استشرى الفساد في بني إسرائيل وفشا بينهم العصيان واضطرب فتيل الأمان، ولم تعد للرحمة مكان في نفوسهم ولا هيبة لأنبيائهم في قلوبهم، وأنكر أحبارهم وقراؤهم حق الله، وكذب ولاتهم رسل الله، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، استحقوا من الله أن يذيقهم العذاب الشديد، ولكنه سبحانه أعدل من أن يرسل على قوم العذاب قبل أن يرسل إليهم النذير، أو يعاقب طغاةً ظالمين قبل أن يبين لهم وجه الطريق.
وكان (أرمياء) نبيًّا من أنبيائهم، ورجلاً من أعز بيوتهم، فوقف بينهم يصيح بكلمة الحق، ويصدع بأمر الله، يحذرهم من عذاب الله وسخطه ومن أعمالهم، ويذكرهم بنعم الله عليهم، ومن ذلك أن كفاهم الله -عز وجل- من شر ملك بابل الذي يدعى (سنحاريب)، الذي حاول أن يضربهم في عقر دارهم، ولو تمكن من ذلك لأذهب جمعهم، ولكن الله رحمهم بنبيهم شعيا بن آموص.
فدعا الله يصرف عنهم السوء، فاستجاب الله دعوته، ورجع عدوهم مذمومًا مدحورًا بعد أن أهلك الله جنده ودبت إليهم الأمراض والأسقام.
ومع ذلك كان جزاءً شقيًّا أن أهانه بنو إسرائيل وخذلوه وقتلوه، فذهبت روحه إلى ربه مبررة مكرمة تشكو إلى الله منهم الطغيان، وتبرأ إليه من العقوق والنكران، ثم حذرهم من أعمالهم وأنذرهم فقال: لقد أوحى الله إليّ أن أدعوكم إلى الحق، وأنذركم العذاب والعقاب، فإن لم تستجيبوا لي فليبعثن الله عليكم قومًا أشداء، وجنودًا أقوياء، بأسهم وعزمهم حديد، لا تسكن الرحمة أو الرأفة في نفوسهم، يأخذون بناصيتكم، ويرغمون أنوفكم، ثم يجوسون الديار، فإذا قصوركم قد استحالت خرابًا ودمارًا، ويخربون حدائقكم وحقولكم ومعابدكم، وينتهكون حرماتها، ثم تصبحون حرمًا مستباحًا، وكلأً مباحًا، وأنتم بعد ذلك بين أسير وقتيل، وقد نصحت لكم ما وسعني النصح وأنتم بعد ذلك مفوضون في الطريق الذي تسلكون، فكذّبوه، فكيف وهم شعب الله المختار -على حد قولهم- يعذبهم الله على يد كفار لا يعبدون إلا النار!! فقال لهم أرميا: إنما يرسلهم الله إليكم معذبين، ويرميكم بهم معاقبين، كما يرسل الطاعون الجارف أو السيل العارم.
وما الفرق بين أن يصيبكم الله بدويهة تقطع دابركم، أو يظهر عليكم ملك كافر يذل ناصيتكم ويمزق أوصالكم؟! وأشهد الله عليهم أنه نصحهم ولم يغشهم وعليهم الاختيار، فكذبوا وقالوا: جادلتنا فأكثرت الجدال، وبالغت في الملام، وما نرى إلا أن تُغَلَّ وتُصَفَّدَ رجلاك، وتُرْمَى في سجن عميق، أو تُنفى إلى مكان سحيق، وطلع الصباح، وإذا بأرميا مُلقى في سجنه مصفدًا مغلولاً.
وتلفتوا إلى الشرق يومًا فإذا بالغبار يعلو حتى بلغ عنان السماء، ويتكاثف حتى يملأ الأرض ظلامًا، ثم ينقشع هذا الغبار ويفتضح عن أشوس مقدام -أي جريء- يقود جيشًا كالغمام كلهم رجال شديدون في القتال.
كان هذا بختنصر، زحف عليم من بابل يريد بهم الشر والهلاك، وهو نقمة من الله أرسلها، فمن الذي يستطيع صده؟! فتسألوا: أهذا الذي خوفنا به أرميا؟! إن كان هو فقد حلت بنا الداهية ووقعت الكارثة.
ولم يمهلهم بختنصر في حدسهم، بل انقض على المدينة وحشًا كاسرًا مخربًا هدامًا، فهدم منازلهم، وأخفى رسوم طرقهم، وانتهك حرمات بيت المقدس، وأسقط شرفاته، وعطل العبادة في جنباته، وأحاط القوم قتلاً وذبحًا وأسرًا وسبيًا وتشريدًا، ثم فرقهم في الأرض بددًا، وترك ديارهم خرابًا يبابًا.
ومرت أعوام وتصرمت أجيال وقطعت أسباب من الحياة، وتولى عرش بابل ملك خافض الجناح، ورأى بني إسرائيل يرشفون في أصفاد الذل والهوان، فسأل: ما خطبهم وما أسباب هوانهم؟!
قالوا: إنهم أسلاف يعقوب وأحفاد داود، وكانوا يقيمون في الشام، وبلادهم كثيرة الخيرات، وإن أباك قد أذلهم وفرقهم في البلاد، وضرب عليهم ما تراه من ذل وهوان، فوجدت منه هذه الكلمات قلبًا رحيمًا، فنادى فيهم أن اجمعوا شملكم وعودوا إلى بلادكم، فرجعوا إلى بلادهم ورد الله الكرة عليهم وأمدهم بالأموال والبنين، قال الله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) [الإسراء4 :8].
وكان من واجبهم أن يعتبروا بما كان، وأن يقابلوا النعمة بالشكران، ولكنهم طبعوا على الشر والميل عن الصلاح، فضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة:61].
عباد الله: هذه قصة من القصص التي حدثت لبني إسرائيل، وذكرت في كتاب الله القرآن الكريم. أسأل الله أن ينفعنا بهدي كتابه الكريم وسنة خاتم رسله، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: لنا وقفة أخرى مع قصة عزير مع بني إسرائيل، الذي قال الله تعالى عنه: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:259].
وقال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة:30]. آية البقرة تحدثت عن نبي من أنبياء بني إسرائيل هو عزير -عليه السلام- الذي تفكر في سر الكون وعظمة الوجود، ضل به السير واضطرب أمامه الطريق واشتبهت عليه معالم الجهات، وإذا هو في قرية خربة تحدث عن قوم أخذتهم المنايا، فرأى رسومًا دارسة، وأطلالاً عافية، وعظامًا نخرة، وأجسادًا بالية.
وكان راكبًا على حماره فنزل عنه فربطه، وأسند ظهره إلى جدار حتى يجمع نفسه ويسترجع قوته، ثم طاب له المكان وأخذ يفكر في هذه القرية وما فيها من أموات وكيف تنشر تلك الأجساد وكيف تبعث بعد أن أصبحت ترابًا، ثم استحال تفكيره إلى وجوم، ثم أُغمضت عيناه ودخل في نوم طويل، وكأنه لحق بمن في القبور، ومرت على نومه مائة عام كاملة تهرم فيها الأطفال وتفنى الأعمار وتتقوض الصروح، وعزير ملقى في مكانه جسدًا بلا روح، وعظامه ممزقة الأوصال مهشمة المفاصل، حتى أذن الله -عز وجل- أن يفصل في قضية حار الناس في أمرها، فجمع الله عظامه وسوى خلقه ونفخ فيه روحه، فإذا هو قائم مكتمل الخلق منبه من نومه يبحث عن حماره ويفتش عن طعامه وشرابه.
وجاء الملك من الملائكة يسأله: كم تظن أنك لبثت في رقدتك يا عزير؟! قال دون أن يفكر أو يتروى: لبثت يومًا أو بعض يوم، قال: بل لبثت مائة عام، تسكن مع هذه الأجداث ومع هذه السنين الطويلة والأزمان المتعاقبة، فإذن طعامك ما زال سليمًا، وشرابك لم يتغير بقدرة الله، ولكن انظر إلى حمارك تراه مفرق العظام، والله -عز وجل- سيريك كيف ينشرها ويحييها ويبعث الحياة فيها، لتطمئن نفسك بالبعث ويزداد إيمانك بيوم المعاد، ويجعلك آية للذين تخرجهم من ظلمات الشك، وتوضح لهم ما استعجم عليهم من مذاهب الإيمان، وتلفّت عزير فإذا حماره بعلاماته وسماته التي يعرفها قائم على أربع أرجل، تجري فيه شرايين الحياة، عند ذلك قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:259].
وأخذ حماره وشرع يتعرف الطريق إلى بيته، وقد تبدلت المعالم وتحولت المنازل وبدأ يسترجع ماضيه وكأنه يتذكر في حلم بعيد، حتى انتهى إلى منزله، فإذا عجوز ذوى عودها ولكنها لا تزال باقية حية على مر الليالي والأيام وتعاقبها، وقد عشي بصرها، كانت هذه أمته التي خلفها في ربيع حياتها وأيام شبابها، سألها: أهذا منزل عزير؟! قال: نعم، فبكت وقالت: ذهب عزير ونسيه الناس، وما رأيت من سنين مَنْ ذَكَرَ عزيرًا إلا الآن، قال: أنا عزير، أماتني الله مائة عام، وها قد بعثني إلى الوجود وردّني إلى الحياة، فاضطرب أمر العجوز، وأنكرت عليه في بداية الأمر دعواه ثم قالت: إن عزيرًا كان رجلاً صالحًا مستجاب الدعوة، ما دعا لمريض إلا شفاه الله، فادع أن يصح جسمي ويرد بصري، فدعا الله فإذا هي ذات بصر حديد، ووجه وضيء، فقبّلت يديه ورجليه ثم ذهبت من ساعتها إلى القوم من بني إسرائيل وفيهم أبناؤه وأحفاده، منهم من بلغ الثمانين، ومنهم من بلغ الخمسين، وفيهم أترابه وقد برى الدهر عظامهم وبلغهم من الضعف ما بلغ، وصاحت فيهم: إن عزيرًا الذي فقدتموه منذ مائة عام قد ردّه الله رجلاً غص الإهاب، يخطر في مطارف الشباب.
وطلع عليهم عزير رجلاً وافر القوة مستوي الخلق، فأنكروا صفته وأعظموا فريته، ولكنهم أرادوا أن يمتحنوه بالرأي والبرهان، فقال أحد أبنائه: إن لأبي شامة في كتفه كان يتميز بها ويعرف بصفتها، وكشفوا عن كتفه فإذا العلامة كما عرفها أبناؤه، وكما سمع عنها أحفاده، ولكنهم أرادوا أن تطمئن قلوبهم وتستيقن نفوسهم ويذهب شكهم، فقال كبير منهم: لقد حدثنا أنه منذ زحف بختنصر على بيت المقدس، ومن وقت أن أحرق التوراة لم يكن على الأرض من يحفظ التوراة إلا قليل، ومنهم عزير، فإن كنت عزيرًا فاتل علينا ما كنت تحفظه منها، فقرأها لم يترك آية ولم يحرف جزءًا ولم يخرم لفظًا، فصافحوه مصدقين وأقبلوا عليه مباركين، ولكنهم لشقوتهم ما ازدادوا إيمانًا بل ازدادوا كفرًا وقالوا: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ).
غلوا في تعظيمه مثلهم مثل النصارى أيضًا عندما قالوا: المسيح ابن الله دون دليل ولا برهان، بل ضلالاً منهم كما ضل من قبلهم من الأمم.
نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ونسأل الله أن يكون ما ذكرناه وكتبناه عن هذه القصة صحيحًا ولم نقل إلا حقًّا.
وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.