العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
بعد أن وهب الله عز وجل المُلك لداود عليه السلام على بني إسرائيل، يحكم بينهم، ويدلون بحججهم عنده، وهو يفصل بينهم بما آتاه الله من علم وحكمة، وهبه الله -عز وجل- سليمان عليه السلام، وعندما كان سليمان في الحادية عشرة من عمره وكان أبوه شيخًا كبيرًا في السن أوشكت به السنون إلى الأجل المحتوم، أصبح دائب التفكير في أمر قومه، مهتمًا بمن تكون له ..
الحمد لله أحمده -عز وجل- وأشكره، آتى سليمان العلم والحكمة وعلمه مما يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
عباد الله: بعد أن وهب الله -عزّ وجل- المُلك لداود -عليه السلام- على بني إسرائيل، يحكم بينهم، ويدلون بحججهم عنده، وهو يفصل بينهم بما آتاه الله من علم وحكمة، وهبه الله -عز وجل- سليمان -عليه السلام-، وعندما كان سليمان في الحادية عشرة من عمره وكان أبوه شيخًا كبيرًا في السن أوشكت به السنون إلى الأجل المحتوم، أصبح دائب التفكير في أمر قومه، مهتمًا بمن تكون له الولاية من بعده، يرى أبناءه من حوله وسليمان وإن كان صبيًا إلا أنه يفضلهم علمًا وحكمة، وأصبح وهو في هذا السن -الحادية عشرة- قادرًا على أن يصرف الأمور تصريف الناقد البصير، وكان من عادة داود أن يحضر ابنه سليمان مجلس والده، والخصومات والقضايا التي ترد بين يديه حتى تزداد قوة معرفته ورأيه، فكان سليمان ملازمًا لأبيه في مجلسه.
وفي مجلس من مجالس القضاء جلس النبي الملك داود، وجلس بجانبه ابنه سليمان، فأتى خصمان، قال أحدهما: إن زرعًا له قد آتى ثمره ودنت قطوفه وصار بهجة الناظر وعتاد الزارع، وانتشرت فيه غنم خصمه ولم يردها رادّ، بل سامت وانسابت في الزرع ليلاً فأهلكته وأبادته حتى صار أثرًا بعد عين، ولم يدفعه ولم يرد دعواه صاحب الغنم بحجة ولا دليل، فلزمته الخصومة، وحقت عليه كلمة القضاء، فحكم داود بالغنم لصاحب الزرع يأخذها خالصة مقابل زرعه الذي أكلته وأتلفته، وجزاء إهمال صاحبها الذي تركها فنفشت الزرع بالليل -أي رعته ليلاً بلا راع-.
ولكن الصبي سليمان وقد آتاه الله علمًا وحكمة وأوقفه على دقيقات هذه الخصومة انبرى في مجلسه، وفك عقال صمته، واستأذن والده في الحكم فقال: غير هذا أرفق، ودون هذا أوفق: تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها، وتسلّم الأرض إلى أصحاب الغنم يقومون على زراعتها حتى تعود كما كانت، ثم يترددان فيأخذ كل ما كان تحت يمينه، وبذلك لا يكون هناك غرم ولا غنم، فهذا أقرب إلى العدل وأصح في الحكم وأولى في القضاء، كان هذا مبدأ ظهور أمر النبي سليمان -عليه السلام- الذي كان خير خلف لأبيه.
قال الله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء:79].
وخلف سليمان والده داود -عليهما السلام- في الملك والنبوة، فاتجهت همته إلى بناء بيت المقدس بالشام تسهيلاً لأسباب العبادة، فأقام بنيانه شامخًا، ولما تم له ذلك اطمأن قلبه وسكنت نفسه.
ثم آتاه الله العلم والحكمة وورث والده، وعلمه منطق الطير وآتاه من كل شيء، قال تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ *وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل15 :16].
وفي يوم جمع سليمان عساكره من الجن والإنس والطير، فرأتهم نملة متوجهين إلى وادي النمل فقالت: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:18] ، أي لا يعلمون بمكانكم، فما كان من سليمان -عليه السلام- إلا أن تبسم ضاحكًا من قولها، ودعا الله -عز وجل- أن يلهمه شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يعمل صالحًا يرضى الله، وأن يدخله برحمته في عباده الصالحين.
فتفقد سليمان الطير فوجدها جميعًا إلا الهدهد، وذلك ليدله على الماء، فلم يجده، فأقسم ليعذبنه أو ليذبحنه إلا أن يأتي بحجة واضحة يبين فيها عذره ويزيل ما يخالج النفس في أمره، ولكن الهدهد غاب مدة قصيرة وعاد يخفض رأسه وذنبه متواضعًا لسيده، وتقدم الطائر فقال: لقد اطلعت على ما لم يصل إليه علمك، ولم تعرفه مع ما أمدك الله من قوة وملك، وكشفت سرًّا اختفى خبره عنك، فخفض هذا الكلام من حدة غضب سليمان، فاستحث الهدهد أن يخبره، فقال الهدهد: وجدت في أرض سبأ امرأة تملكهم، وقد أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، إلا أن الشيطان استولى عليهم، فصدهم عن السبيل، فهم لا يهتدون، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، فهالني أمرها، وروعني شأنها، وكان الأجدر بهم أن يعبدوا الله رب السماوات والأرض ويسجدوا له، الذي يعلم ما تكن الجوانح وما تخبئ الأرض، لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
دُهش سليمان لهذا الأمر العجيب، ورأى أن لا يرد الهدهد في خبره، وقال له: سننظر في نبئك ونتحقق من صدقك، وإن كان الأمر كما وصفت فهذا كتاب اذهب به وألقه إليهم ثم تنحَّ عنهم إلى مكان تنتظر رأيهم وترقب جوابهم، فحمل الهدهد الكتاب، ثم سار به إلى بلقيس ملكتهم، فوجدها في قصرها في مأرب باليمن، فطرح الكتاب أمامها، فتلقفته وقرأته فإذا فيه: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل:30].
فجمعت الملكة بلقيس أمراءها وأكابر دولتها إلى مشورتها لتخبرهم عن أمر هذا الكتاب وتأخذ رأيهم فيه، فقالوا: نحن أبناء حرب وجلاد، لا أهل رأي وسداد، وقد تركنا أمورنا لتدبيرك وتفكيرك، فانظري ماذا تأمرين نكن طوع أمرك. لمحت الملكة في كلام رجالها ميلاً إلى الحرب والمدافعة، فخطّأت رأيهم، وأبانت لهم أن الصلح خير وأحسن، فقالت: إن الملوك إذا غلبوا قرية ودخلوها عنوة بحرب خربوها، فأبادوا حضارتها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، فذلك دأبهم ما تعاقبت الأيام وتوالت الأزمان، وإني مرسلة إلى سليمان بهدية فيها من كل غال وثمين، أصانعه بها على ملكي، وأتبين بها سبيله وماذا يريد.
ثم بعثت إلى سليمان بهدية مع رجال من كرام القوم، فانتقل الرسل بالهدايا، وأقبل الهدهد إلى سليمان يبثه الخبر، فاتخذ سليمان للأمر عدته، لذلك أمر الجن فزينوا له بناءً عجيبًا وصرحًا مشيدًا يهز الأفئدة، ويبهر الأعين ويدهش القلوب، فلما دنا القوم نظروا إليه فبهتوا وأقبل عليهم سليمان بوجه طلق يرحب بقدومهم بما حملوا من هدايا ونفائس يبتغون بها رضا وقبولاً من النبي الكريم.
فعفّ سليمان وتلطف وقال للرسول: ارجع إليهم بهديتهم، فإن الله أعطاني الرزق السخي والعيش الرضي، ومد لي أسباب النبوة والملك، وآتاني ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين، ولا يمكن أن أقبل بمالٍ يلهيني عن الدعوة إلى الله، فأنتم بهديتكم تفرحون، ارجع -أيها الرسول- إليهم فلتأتينهم بجنود لا قدرة لهم بهم ولا احتمال، ولنخرجنهم من أرضهم -أرض سبأ- أذلة صاغرين، ذاهبًا عنهم العز والملك والسلطان.
عاد الرسل فأخبروا بلقيس بما رأوا وما سمعوا، فقالت: ليس لنا بد من السمع والطاعة، ولنبادر إجابته ونسارع لقبول دعوته.
فلما سمع سليمان بقدومهم عليه ووفودهم إليه، قال لمن بين يديه ممن سخره الله له من الجن: أيكم يأتيني بعرشها -أي كرسي الملك- قبل أن يأتوني مسلمين؟! قال عفريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن ينقضي مجلس حكمك فتقوم من مقامك، وإني لذو قوة على إحضاره، وأمين على ما فيه، ثم قال الذي أوتي العلم والحكمة: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، أي نظرك بالعين، أي في سرعة هائلة.
وللحديث بقية في الخطبة الثانية -إن شاء الله-.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة خاتم رسله، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه وعظموا أمره واقرؤوا كتابه وافهموه واعملوا به.
أيها المسلمون: وصل عرش بلقيس إلى سليمان في لمح البصر، فما كان منه إلا أن قال: هذا من فضل ربي عليّ، وتلك نعمة من نعمه، ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن حسنت النعمة لديه وصادفت من قلبه مكانًا فشكر ربه فإنما يشكر لنفسه، لأنه المستحق للشكر، وأما من كفر بنعمة ربه فإنما هو من الذين خسروا الدنيا والآخرة، والله غني عن العالمين.
ثم قال سليمان لجنوده: نكروا لها عرشها، فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك؟! فاستبعدت أن يكون ذلك عرشها وقد خلّفته بأرض سبأ، ولكنها رأت معالمه وتبينت علاماته ومحاسنه، فدهشت لذلك الأمر الغريب وقالت: كأنه هو، ووقفت مشتتة التفكير حائرة القلب.
وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج أبيض، ثم دعا ملكة سبأ إليه، فلما رأته حسبته لجة، أي ماءً عظيمًا، فكشفت عن ساقها، أي للخوض فيه، فقال لها سليمان: إنه صرح ممرد من قوارير، أي إنه صرح مملس من الزجاج، عند ذلك انكشف حجاب الغفلة عنها وقالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل:44]، فدعت الله -عز وجل- وقالت: إنها مالت حينًا عن عبادته، وضلت عن رحمته، فظلمت نفسها وحبستها عن نور الله، أما الآن فقد أسلمت مع سليمان خالصة الإيمان بالله متوجهة إلى طاعته، فهو رب العالمين وأرحم الراحمين.
وأسال الله -عز وجل- لسليمان القطر، أي النحاس المذاب، وهي عين مصطهرة تقذف بالنحاس من باطن الأرض، فيقبل عليه صُنَّاعُه من الجن للانتفاع به في شتى أعمال الإصلاح والتعمير، ومن الجن من يعمل له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، -المحاريب: مساكن ومحال شريفة أو مساجد، وتماثيل: صور ونقوش منوعة على الجدر والأسقف والأعمدة، وجفان كالجواب: أي صحاف كالجواب، وهي الحياض الكبار، والجفان جمع جفنة، وهي كالصحفة والقصعة، وقدور راسيات: أي ثابتات، فهي لكبرها وعظمتها لا تزال في مواضعها التي وضعت فيها-.
وهب الله -عز وجل- لداود سليمان -عليهما السلام-، قال تعالى: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) [ص30 :31] أي: الخيل التي تقوم على يد ورجل، السريعة الجري، (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) [ص:32]، أي شغلتني الخيل عن ذكر الله حتى أغربت الشمس حتى فاتت عليه صلاة العصر، (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) [ص:33]، أي: أخذ يذبحها تقربًا إلى الله -عز وجل- حتى لا تشغله عن ذكر الله وطاعته.
ثم قال تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) [ص:34]، أي: ابتليناه بأن ألقينا على كرسي ملكه صنمًا، وكان ذلك أمرًا عارضًا، ثم رجع إلى الله بالتوبة والاستغفار، ولقد روى الأثريون ها هنا قصصًا مطولة ومختصرة مؤتلفة ومختلفة. قال ابن كثير: وكلها متلقاة عن أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون بنبوة سليمان -عليه السلام-، فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في سياقها منكرات.
والمراد هنا فتنة سليمان أنها اختبار من الله له -عليه السلام- لما آتاه الله من الملك ومدى طاعته لله حتى ظهر فضله فقط، ثم بعد ذلك آتاه الله ملكًا عظيمًا، قال تعالى: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ) [ص35 :40].
وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.