البحث

عبارات مقترحة:

المقدم

كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

القاهر

كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...

قصة سبأ

العربية

المؤلف مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. النعم التي أفضاها الله على أهل سبأ .
  2. مقابلة النعم بالكفران والجحود .
  3. تدمير كل مظاهر النعمة عقوبة لهم على كفرهم .

اقتباس

كانت سبأ موطن ملوك اليمن وأهلها ومنهم بلقيس صاحبة سليمان -عليه السلام-، وكانوا في نعمة لا تبارى -أي لا توصف-، وغبطة لا تجارى، كانت اليمن بلادًا مستفيضة الرقعة، واسعة ذات أودية عريضة وتربة خصبة، ولكنها كانت شحيحة المياه؛ لأنها لا أنهار فيها، تعيش على ما ينزل عليها من المطر، ثم يتخذ سفوح الجبال، ثم ..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله والخوف منه وعمل ما يرضيه عنا، وأن نبتعد عن معصيته، وإذا وقع أي منا في خطأ أو ذنب أو إثم أو معصية عليه أن يسارع ويبادر بالتوبة والندم والاستغفار والتذلل والخضوع لله -عز وجل-، وأن ندعو الله بكل صدق أن يغفر لنا ذنوبنا وأن يرحمنا، فما أحوجنا إلى رحمة الله وإلى مغفرته وعفوه، وأن لا يتمادى المسلم في الخطأ، فما أقرب أن يقال: فلان قد مات أو مريض ثم مات، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

عباد الله: قصة من قصص القرآن الكريم موضوع خطبتنا في هذا اليوم؛ لأن القصص مؤثرة ولها فوائد عظيمة لنتعظ ونعتبر ونأخذ منها الدروس والعبر، إنها قصة سبأ باليمن، كانت سبأ موطن ملوك اليمن وأهلها ومنهم بلقيس صاحبة سليمان -عليه السلام-، وكانوا في نعمة لا تبارى -أي لا توصف-، وغبطة لا تجارى، كانت اليمن بلادًا مستفيضة الرقعة، واسعة ذات أودية عريضة وتربة خصبة، ولكنها كانت شحيحة المياه؛ لأنها لا أنهار فيها، تعيش على ما ينزل عليها من المطر، ثم يتخذ سفوح الجبال، ثم يمضي إلى الصحراء، تأتيها سيول جارفة وقوية، فلا يلبث السيل إلا كما يلبث الطيف، أي يمر سريعًا، أو تقيم كسحابة الصيف، فهداهم حسن تفكيرهم -بعد توفيق الله لهم- وألجأتهم الحاجة أن يبتدعوا أمرًا يتوقون به زحف السيول الهادرة ويحجزونها في أرضهم لكي ينتفعوا بها، وهدوا إلى طريقة بناء السدود والحواجز يقيمونها بين الأودية، وذلك دليل على قوة همتهم وشدة عزيمتهم، وقد كثرت تلك السدود وتعددت الحواجز، ولكن سد مأرب المشهور كان أقواها وأمتنها وأجدها وأنفعها، فقد كان سدًّا عريضًا منيعًا حصينًا، وجعلوا له عيونًا تفتح وتغلق، وخزنوا الماء بكميات، فإذا بالوادي المقفر يتحول إلى حديقة غناء، وإذا بالوهاد الشاحبة بساطًا أخضر، وإذا بالبلد القاحلة تكتسي حلة خضراء وترتدي ثوبًا قشيبًا، منظر يسحر العين ويبهر القلب ويمتع الفؤاد، حدائق غناء، وزروع خضراء، وماء متدفق، وعيون تجري، وقطوف دانية، وثمار يانعة، وفواكه مختلفة، وأشجار وأزهار ومتعة للقلب والنظر، ومتعة للفكر، وطيور مغردة، وبلابل صداحة، تسير المرأة في وسط هذه الحدائق المبهجة وبين الشجار المكتظة، جوانبها صنوان المياه العذبة، تسير المرأة حاملة مكتلها فوق رأسها، فلا تمضي مسافة يسيرة حتى يكون المكتل -الزنبيل- قد امتلأ من الثمر الناضج المتساقط فيه الذي لا يكلف حتى القطاف.

وهكذا اتسعت النعمة وعظمت المنة وفاض الخير، وغنت بلابل السعد، وخيمت أيام السرور عليهم، وتدفق العطاء، وساد الرخاء، واتسع الغنى، وعمّ الهنا، وطابت الأرض، وحسن المقام، واعتدل الهواء، وصحّ المزاج، ولم يبق في الحياة شيء يعكر الصفو أو يكدر الأنس، ولقد خلت أرض سبأ من كل منغص حتى من الذباب والبعوض والبراغيث والحشرات والهوام، كل ذلك عناية من الباري الله -عز وجل- من الله الكريم، وعطاء من الله العظيم، وهبة من الله المنعم المتفضل القائل: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ[سبأ:15]، تمتعوا بنعمه واهنؤوا بعطائه، التذوا بأرزاقه، والمطلوب منكم هو شكر الله سبحانه، فالمقام طيب، والبلدة طيبة، والحياة طيبة، والثمار طيبة، والهواء طيب، وأطيب من كل ذلك أن الرب الله -عز وجل- طيب غفور، فاجتمع لهم طيب في الأرض وطيب في السماء، سماحة في الأرض بالنعمة والرخاء، وسماحة في السماء بالعفو والغفران، فهل بعد هذا الهناء من هناء؟! وهل بعد هذه النعمة من نعمة؟! فهل عرفوها وقدروها وشكروها؟! أبدًا، (فَأَعْرَضُوا)، بعد حين من الزمان أعرضوا عن دين الله وعبادته وشكره، نعوذ بالله من الخسران وقلة التوفيق وضيق الأفق وغلبة الهوى ومحق البركة، أهكذا يكون الجزاء أو تشكر النعمة ويقابل الإحسان؟! الله سبحانه يخلق ويرزق وينعم ويُعبَد غيره؟! يعطي بلا حساب ويُشكر غيره ويتجه إلى سواه؟! أعرضوا عن طاعة الله، عصوا الله، كثرت جرائمهم ومعاصيهم، وعبر الله -عز وجل- عن كل ذلك بقوله: (فَأَعْرَضُوا) إعراضًا استحقوا به العقوبة القاسية العظيمة الصارمة من الله -عز وجل-، فكان جزاؤهم مخيفًا، لم يكن شيئاً سهلاً أو أمرًا هينًا بسبب شركهم ومعاندتهم وتخليهم عن عبادته، وبعدهم عن هدايته، ومخالفة أوامره، والتنكر لنعمه، والكفران لجوده، فلما أعرضوا وعصوا الله ماذا حدث لهم؟! قال تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ[سبأ:16].

يا الله!! ما أسرع الانتقام!! وما أشد العقوبة!! ما أعظم البلية!! فكأنه لم يكن بين الإعراض منهم وإنزال العذاب بهم إلا غمضة عين.

ولا شك أنهم قد عاشوا مدة طويلة في النعيم، وأعطوا مهلة للتوبة، ولكن ساعات الهنا محدودة، ولحظات السرور معدودة، وزاد من قلتها إعراضهم المقيت، فأرسل الله -عز وجل- عليهم سيل العرم، أي السيل القوي الجارف الذي دمّر سدودهم وهدمها، دمر السدود التي كانت سببًا في سعادتهم وسرورهم، وإذا بالماء الذي شربوا من زلاله واستقوا من ينابيعه واستمتعوا بخريره واستأنسوا لهديره، سقوا به زروعهم، وارتوت به أراضيهم وقلوبهم وبهائمهم، إذا به يدمرهم بقدرة الله تعالى، فأدخل الله به الرعب في قلوبهم، وطاشت لهوله عقولهم، ودمرت به منازلهم، واجتثت واقتلعت به مزارعهم، وقصفت به ممتلكاتهم، وقوضت به أبنيتهم، ونسفت به سدودهم، غرق الزرع، وهلك الضرع، وإذا بالوادي الأخضر يمسى وهو مقفر، وإذا بالحدائق الغناء صحراء جرداء، وإذا بالثمار اليانعة يحل محلها الخمط والأثل -نبات مر بشع-، والسدر الذي يمكن أن يؤكل منه لم يوجد منه إلا قليل، وإذا بالطيور الصداحة والبلابل الغناء تغادر ليحل محلها البوم والغربان، تصيح فوق البيوت المهدمة والزروع المدمرة، وإذا بالأسر تمزق، والأهل يشردون، والأحبة يتفرقون، وإذا بالبلاد تهجر، والأوطان تغادر بقلوب محترقة وأعين دامعة ونفوس متحسرة، يقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سبأ 15 :19].

وللحديث بقية في الخطبة الثانية -إن شاء الله-.

أسأل الله أن يبارك لنا في القرآن العظيم، وسنة خاتم المرسلين، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

إكمالاً لهذه القصة قصة سبأ، فبعد أن عاشوا في رغد من العيش في اليمن في بلاد طيبة وأمن وقرى متواصلة ومدائن متقاربة، وكانوا يسافرون من بلادهم إلى بلاد الشام وإلى بلدان كثيرة وهم في أمن وأمان وأنس وسرور وعطاء ونماء، لا يحتاجون إلى حمل للزاد ولا تزود بالماء، فحيثما نزلوا وجدوا ماءً زلالاً وثمرًا يانعًا، ويقيلون في قرية ويبتون في الأخرى، لا يشعرون بتعب ولا يعتريهم نصب ولا يعانون من وصب، فهم يسيرون في قرى واضحة ظاهرة آمنة، فبطروا النعمة، وجحدوا المنة، وقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا، دعوا على أنفسهم بطول المسافات وتباعد الأسفار بطرًا منهم وحسدًا لأنفسهم وملالاً من الرخاء وضيقًا بعيش الهناء، فكانت العقوبة الصارمة والانتقام المقيت؛ قال تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ[سبأ:7]، أحاديث يروي الناس أخبارهم ويحكون قصصهم ويتندرون بفعلهم، أصبحوا حديث المجالس، وكلام الناس في مجالسهم ونواديهم، فرقهم الله -عزّ وجل-، وشتّت شملهم، وأصبح يُطلق عليهم المثل: "تفرقوا أيدي سبأ"، أي تفرقوا وتشتتوا، وأصبحت أسرهم ممزقة مفرقة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ما أشد عقوبة الله ذلك الزمان وفي كل زمان!!

عباد الله: احذروا من كفر النعمة، واحذروا من البطر والتكبر والغطرسة، احذروا من الاغترار بالنعم، سواء أكانت مالاً أم صحة وعافية في الأبدان، أم رزقك الله -أيها الإنسان- بالأبناء والبنات، فما أسرع زوال النعم!! وما أسرع أن يفتقر الإنسان بعد غنى!! وما أسرع أن يمرض وتزول صحته!! وما أسرع ذهاب أولاده!! وما أسرع حضور الموت!! فلنتّقِ الله ونشكره ولا نكفره، ونعبده وندعوه أن يديم علينا النعم.

عباد الله: إننا في بلد الأمن والنعم والرخاء، فلنحمد الله ونشكره، ونسأله المزيد من فضله، ونسأل الله أن ينتقم من كل من يعادي الإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان، وأن يديم علينا الأمن والاستقرار والالتزام بديننا العظيم دين الإسلام، وأن يجعل كيد من يريد بنا شرًّا أو كيدًا في نحره، وتدميره في تدبيره، وأن يجعل دائرة السوء تدور عليه، وأن يؤيد إمامنا إمام المسلمين بنصره وتوفيقه، وأن يرزقه البطانة الصالحة الذين يدلونه على الخير ويعينونه عليه، وأن يجعل ولايتنا فيمن يخاف الله ويتقيه ويتبع رضاه، وأن يوفق حكام المسلمين في شتى بقاع الأرض ويهديهم للحكم بكتابه وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أمرنا الله -عزّ وجل- بالصلاة والسلام عليه، فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب:56].

اللهم صلّ وسلم على المصطفى نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.