الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
إن في الكتب لخبرًا، وإن في السر لعبرًا، قصةٌ من قصص المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، موقف صدق من مواقف الصحب البررة، قلم الكاتب ولسان الخطيب مهما أوتيا من براعة أو حاولا من بلاغة عاجزان عن وصف تلك الحادثة في محنتها وابتلاءاتها، في صدق رجالها، وإيمان أصحابها. فيها ابتلاء هجر الأقربين، وبلاء تزلف المناوئين، قصةٌ كلها عبرٌ وعبرات، مواقف الصدق والصبر في صحب محمد ..
فاتقوا الله -عباد الله-، وعظموا أمره واجتنبوا نهيه.
أيها الإخوة: إن في الكتب لخبرًا، وإن في السر لعبرًا، قصةٌ من قصص المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، موقف صدق من مواقف الصحب البررة، قلم الكاتب ولسان الخطيب مهما أوتيا من براعة أو حاولا من بلاغة عاجزان عن وصف تلك الحادثة في محنتها وابتلاءاتها، في صدق رجالها، وإيمان أصحابها.
فيها ابتلاء هجر الأقربين، وبلاء تزلف المناوئين، قصةٌ كلها عبرٌ وعبرات، مواقف الصدق والصبر في صحب محمد مثال المتانة في البناء والصفاء في العنصر، وأنموذج الصدق في اللهجة، والإخلاص في الطاعة، والقدوة في الصبر على البلاء، والشكر على السراء، إنها قصة الثلاثة الذين خلِّفوا في غزوة تبوك حين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم.
آياتٌ وأحداثٌ تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب؛ كان الإمام أحمد -رحمه الله- لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات، وحديث كعب بن مالك في تفصيل أخبارها.
أيها المسلمون: استنفرَ النبي المسلمين لملاقاة بني الأصفر حين بلغه إعدادهم للعدوان على أهل الإسلام، إنها دولة الروم -إحدى أعظم دولتين في زمنها-، حين أحسَّت بعلوِّ شأن الإسلام في الجزيرة منبثقًا من بين جبالها، منطلقًا من صحاراها، فتحت مكة فأخذت الأفواج تلو الأفواج تدخل في دين الله، فتحركت الروم بعسكرها وفكرها ودسائسها.
استنفر النبي الأصحاب، فكان التهيؤ في أيامٍ قائظةٍ، وظروفٍ قاسيةٍ، في جهدٍ مضنٍ، ونفقاتٍ باهظةٍ، إنه جيش العسرة، وإنها لغزوة العسرة.
وصفها في كتاب الله استغرق آياتٍ طوالاً، في أنباء الطائعين والمثبِّطين، والمخلصين والقاعدين، يجيء المعذرون ليؤذن لهم، ويتولَّى البكاؤون بفيض دموعهم حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون.
اسمعوا -رحمكم الله- إلى الوصف الصادق الدقيق لقصة الخطيئة والتوبة من كعب بن مالك أحد الثلاثة، رضوان الله عليهم وعلى الصحابة أجمعين.
والقصة مثبتة في الصحيحين وغيرهما؛ يقول كعب بن مالك -رضي الله عنه-: "وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة. ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عددًا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبُّوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثيرٌ، فقلَّ رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظنَّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله. وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصْعَرُ -أي أميل وأرغب-، فتجهزَّ رسول الله والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه فأرجع ولم أقضِ شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت"
أيها الإخوة: ويأخذ الندم من كعب مأخذه، وتبلغ المحاسبة مبلغها، فتراه يقول: "فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله يحزنني أني لا أرى لي أسوةً إلا رجلاً مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله تعالى في الضعفاء".
يستمرُّ -رضي الله عنه- في سرد القصة حتى قال: "... فلما بلغني أن رسول الله قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بَثِّي -أي شدة الحزن-، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدًا؟! وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل: إن رسول الله قد أظلَّ قادمًا راح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمعت صدقه".
وقدم رسول الله، وجاءه المخلفون بأعذارهم فقبل منهم، ووكل سرائرهم إلى الله؛ قال كعبٌ: حتى جئت، فلما سلمت تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب، ثم قال: "تعالَ"، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: "ما خلَّفك؟! ألم تكن قد ابتعت ظهرًا". أي اشتريت مركوبًا؟! قال: قلت: يا رسول الله: "إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر؛ لقد أعطيت جدلاً، ولكنني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني ليوشكنَّ الله يُسخطك عليَّ، وإن حدثتك حديث صدقٍ تجدُ عليَّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله -عزَّ وجلَّ-. والله ما كان لي من عذرٍ. والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك". فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك".
ثم جاء إلى كعب رجالٌ من بني قومه يراودونه الاعتذار كما اعتذر المخلفون، قال كعبٌ: فلا زالوا بي حتى هممت أن أرجع فأُكذِّب نفسي عند رسول الله، حتى علمت بخبر الرجلين الآخرين مرارة بن الربيع العَمْري وهلال بن أمية الواقفي، وهما رجلان صالحان من أهل بدرٍ فيهما أسوةٌ، قال كعب: ونهى رسول الله عن كلامنا، فاجتنبَنا الناسُ، حتى تنكَّرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلَدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق فلا يكلمني أحد.
وطالت على كعب الجفوة، وعظم الابتلاء، وضاقت المسالك، حتى قصد ابن عمه أبا قتادة في حائطٍ له متسوِّرًا عليه الحائط، فناشده مكررًا المناشدة: هل تعلمني أحب الله ورسوله؟! فكان الجواب: الله ورسوله أعلم، ففاضت عينا كعب، ويشتد البلاء، فإذا بنبطي من نبط الشام يسأل أهل السوق بالمدينة: من يدلُّ على كعب بن مالك؟! قال كعب: "فطفق الناس يشيرون إليَّ حتى جاءني، فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، فقرأته فإذا فيه: أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها".
أمة الإسلام: هذا هو ديدن أعداء الله في الغابر والحاضر، يتحسسون الأنباء ويترصدون المداخل. وكم من أقدام في مثل هذا قد زلَّت، وكم من رجالٍ في مثل هذه الأوحال قد انزلقت. أما كعب فيمَّم بها التنور وسجرها، ولا يزال البلاء به -رضي الله عنه- حتى جاءه رسولُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- يأمره باعتزال امرأته.
وبعد خمسين ليلة من الهجر والمقاطعة يقول كعب: "فبينا أنا جالسٌ على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت..."، تنزل التوبة وتأتي البشرى، بشرى حسن العقبى، بشرى العودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون الخِلَعُ والجوائز.
يقول كعب: فلما جاءني الذي سمعتُ صوتَه يبشرني نزعت له ثوبَيَّ فكسوتهما إياه ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم رسول الله يتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنئونني بالتوبة. فلما سلمت على رسول الله قال وهو يبرق وجهه من السرور: "أبشر بخير يوم مرَّ عليك مذ ولدتك أمُّك"، فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟! قال: "لا بل من عند الله -عزَّ وجلَّ-".
أمة الإسلام: هؤلاء هم رجال الصدق، رجال محمد، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، خرجوا من مدرسة النبوة، صُدُقٌ في الحديث، وصُدُقٌ في الموقف، صُبْرٌ عند اللقاء، واعترافٌ بالخطيئة، وقبولٌ في حال الرضا والغضب من غير تنميق عباراتٍ لأجل تلفيق اعتذارات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:117-119].
الخطبة الثانية:
الحمد لله فتح باب التوبة للمذنبين، ووعد بحسن العاقبة للصادقين، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحقُّ المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلم تنته قصة كعب بعدُ، لم تقف عند البشارة بالتوبة والتهنئة بالقبول، لقد جلس كعب بين يدي رسول الله وقال: يا رسول الله: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك"، فأمسك سهمه الذي بخيبر. وقال: يا رسول الله: إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث أحدًا إلا صدقًا ما بقيت. فوالله ما علمت أحدًا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمَّدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي، والله ما أنعم الله عليّ نعمة قطُّ بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. إن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحد؛ قال الله تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:95-96].
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، توبوا إلى ربكم واصدقوا، وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا.