الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
وأهل الله المحبون له، المعظِّمون له، يتدرجون في حظوظهم، يبدؤون من الحظ المباح، ثم ينتقلون إلى أعلى الفلاح، هذه امرأة كان همها أن يكون لها ولد، رأت طيرًا يطعم فرخه فحنت إلى الولد فطرة، فسألت ربها أن تحمل، فرزقها الله الولد، فلما اطمأنت على أنها رزقت حملاً دون أن تدري أيكون ذكرًا أم أنثى، بدأت تتخلى عن حظها المباح، وتتدرج إلى ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أذكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: من أراد أن يصل إلى ربه وأن يعرف قدره وعظمته فليتدبر كتاب الله؛ فهو الوسيلة الأرقى للوصول إلى الله -جل وعلا-؛ لذلكم يقول ربنا مستنهضًا همم عباده المؤمنين للتدبر والتفكر في آيات الكتاب: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) [النساء:82]، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]؟ (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص:29].
وإن من أعظم الأسباب التي أوصلت المسلمين إلى ما هم عليه اليوم من بعد ونفور تعاملهم السطحي مع كتاب الله، عند الأفراح أو عند الأحزان يؤتى بمن يقرأ القرآن، ويقف الموضوع عند هذا الحد، إلا من رحم الله.
ولو تفكر كل واحد منا في أن القرآن أنزل ليكون دستور حياة، ومنهج عيش، ونمط حب، وميدان تحاكم واحتكام؛ وأن الواحد منا سيُسأل بين يدي الله عن هذا القرآن بمقتضى قول الله: (وَإِنَّهُ)، أي: القرآن، (لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف:44]؛ لو تفكرنا في ذلك، وقارنّا الأمر بما هو عليه اليوم لعجبنا ساعتها من تباعدنا عن كتاب ربنا.
ومن الآيات التي تجعل العبد يقف عندها وقفة تمعُّن مصحوب بخوف ووجَل -والآيات كثيرة- قوله تعالى: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:74]؛ فمن عرف قدر الله -تعالى- فهو الفائز بجنات النعيم.
ونتساءل في ظلال هذه الآية العظيمة: هل نحن نعظم الله؟!
أيها الأحباب: هذا المطلب السليم، والشأن العظيم، أي: تعظيم الله، له شواهد تدل عليه، كما أن له قرائن تدل على من نأى عنه وبعُد، وقبل ذلك وهذا هناك طرائق ترشد إليه، وتعين على الوصول إليه، وهي التي نسطر بها خطابنا هذا.
أيها الكرام: من أعظم ما يعين العبد على تعظيم ربه: التأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته، مستخدمًا الفطرة السليمة التي أودعها الله -تعالى- في قلب كل أحد في أن يعبد ربه.
قال الهدهد لما رأى قوم بلقيس يعبدون الشمس ويأنفون من عبادة خالقها، قال متفكرًا ومستنكرًا: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [النمل:25-26].
فبموجب فطرته التي خلقه الله عليها أنكر هذا الطائر على بلقيس وعلى قومها ما هم عليه من السجود لغير الرب -تبارك وتعالى-.
فإذا اصطحب العبد الفطرة السليمة، مع ما أفاء الله عليه به من العلم بما أنزله الله في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وتأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته -تبارك وتعالى-، قاده ذلك إلى العلم بالله، وإلى تعظيم الله -سبحانه وتعالى-.
الله الذي خلقنا من العدم، وربانا بالنعم، وهدانا بالإسلام، وذكر -تبارك وتعالى- كثيرًا من أخبار خلقه في طيات كتابه، وأخبر -جل وعلا- أنه حملنا في البر والبحر، ورزقنا من الطيبات، وما كان لنا أن نصل إلى ذلك لولا فضله -سبحانه-.
ثم أخبر أن الناس بأكبادهم الغليظة، وأنفسهم السقيمة، وعطب أرائهم العقيمة، أنهم إذا ركبوا في الفلك وأحاط بهم الموجُ مِن كُلِّ مكانٍ لجؤوا إلى الله وحده، فلما نجاهم إلى البر جعلوا لله شركاء وأندادًا يعبدونهم، قال -تعالى-: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) [الإسراء:67-69]
أخبر -سبحانه- أنه يزجي السحاب ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركامًا، أخبر -سبحانه- أنه يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وكل ذلك من أجل أن يربطك به، وأن يرسخ في قلبك ووجدانك تعظيمه -سبحانه-.
أخبر -سبحانه- بأنه هو الخالق وكل من سواه مخلوق، قال -سبحانه وتعالى- منكرًا على المشركين: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل:17]؟!
غابت هذه الحقيقة عن كفار قريش، جاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي يده عظام قد أرمت، ثم نفث فيها في يوم رائح، ثم قال: يا محمد: أتزعم أن ربك يحيي هذه بعدما أرمت؟! أي: بعدما أصبحت عظمًا باليًا؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-، وهو المبلِّغُ عن ربه: "نعم، يميتك الله، ثم يحييك، ثم يبعثك، ثم يدخلك النار". فأنزل العلي الأعلى قوله: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس:77-79].
غاية الأمر أن يعلم أن التأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته يدل على عظمته -سبحانه وتعالى-؛ وبالتالي يستقر في القلوب وفي العقول أن الله -جل وعلا- عظيم القدر، جليل الشأن.
ومن الطرائق التي يصل بها المرء إلى أن يعظم ربه -جل وعلا- حق التعظيم: التأمل في سِيَر الصالحين وأخبار السابقين ممَّن ذكر الله -جل وعلا- أنهم عرفوا قدره وعظَّموه حق التعظيم، قال الله -تبارك وتعالى- عن نموذجٍ من أولئك المعظمين له: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران:35].
وأهل الله المحبون له، المعظِّمون له، يتدرجون في حظوظهم، يبدؤون من الحظ المباح، ثم ينتقلون إلى أعلى الفلاح، هذه امرأة كان همها أن يكون لها ولد، رأت طيرًا يطعم فرخه فحنت إلى الولد فطرة، فسألت ربها أن تحمل، فرزقها الله الولد، فلما اطمأنت على أنها رزقت حملاً دون أن تدري أيكون ذكرًا أم أنثى، بدأت تتخلى عن حظها المباح، وتتدرج إلى أعالي الفلاح، فنذرت ما في بطنها أن يكون لله قائلة: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) [آل عمران:35].
والمعنى: إن حظي من الولد ومن بهجة النفس والأنس والخدمة والنصرة لا أريده ولا أحتاجه، لكنني أبتغي من هذا الولد أن يكون خادمًا لك في بيتك، فانتقلت من حظ مباح وهو رغبتها في الولد، إلى أن تجعل من ابنها أن يكون خادمًا لله -جل وعلا- في مسجده.
فما يريده الوالدان من أبنائهم لا تريده، تريد من ابنها أن يكون خادمًا للرب، وهذا أمر ليس مفروضًا عليها؛ بل قد لا يرقى إليه أحد في زماننا، لكن المقصود التنبيه على أن لله عبادًا فطرهم الله -جل وعلا- على تعظيمه ومحبته، وعلى إيثار ربهم -جل وعلا- على كل أحد، فقال الله عنها، قالت: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) [آل عمران:35]، أي: خالصًا.
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا إذا بها تصاب بالدهشة، فالمولود أنثى، وهو أمر متوقع؛ لكن كان انصراف ذهنها في الأول إلى أن يكون المولود ذكرًا، فلما كان أنثى، قالت معتذرة إلى ربها: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) [آل عمران:36]، فلما فاتها أن يكون ذكرًا، وليس هذا بيدها، لجأت للشيء الذي بيدها وهو التسمية، فسمَّتْهَا: مريم، بمعنى خادمة، فلما فات حظها من كونه ذكرًا، ما أرادت أن يفوت حظها من الاسم.
هذا نموذج ذكره الله -جل وعلا- من بيوت صالحات، أصحاب أعمال زاكيات، كيف أن قلوبهم فُطِرَتْ وجُبِلَتْ على تعظيم ربهم -جل وعلا-.
وعلى هذا نقول: إن التأمل في سير الصالحين وأنباء السابقين يعين على أن يعظم العبد ربه –تبارك وتعالى-، ويعرف ما لله -جل وعلا- من كمال الجبروت، وجلال الملكوت، وجميل النعوت.
من الطرائق إلى تعظيم الرب -تبارك وتعالى-: التأمل والتدبُر في أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فإن الله يقول: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) [الأعراف:180].
ربنا -تبارك وتعالى- له الاسم الأعظم، والوجه الأكرم، والعطية الجزلى، لا يبلغ مدحته قول قائل، ولا يجزي بآلائه أحد.
قال القرشيون لنبينا -صلى الله عليه وسلم-: يا محمد: انسب لنا ربك -تعالى الله عن ذلك-؛ فأنزل الله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [سورة الإخلاص].
تدبر الأسماء الحسنى يعظم به الله -جل وعلا- في القلوب، وهذا من أجلّ الركائز.
ومن أسمائه -جل وعلا- العظمى الجليلة: اسم "الله"، فهذا الاسم لم يتسم به أحد حتى ممن نازعوا الله في ألوهيته وربوبيته، كقول فرعون: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) [النازعات:24]، أو ما قاله النمرود، أو ما قاله غيرهما. لقد منعهم الله أن يتسمَّوا بهذا الاسم العظيم الجليل.
قال الله -جل وعلا- على لسان الملائكة: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم:64-65]. أي: لا يوجد أحد تسمى بهذا الاسم العظيم الذي تسمى الله -جل وعلا- به؛ ولهذا صدره الله -جل وعلا- في أعظم آية من كلام الله: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255].
ومن هنا ذهب بعض العلماء إلى أنه اسم الله الأعظم، وليس المقام مقام تفصيل.
ألا وإن من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى: الحي القيوم، وهذان الاسمان جاء ذكرهما معًا في كلام الله في ثلاثة مواضع: في آية الكرسي، وفي فاتحة آل عمران، ومن بعدهما في سورة طه.
وأما ما يمكن أن يقال حول معناهما: إن الله -جل وعلا- حي حياة لم يسبقها عدم، ولا يلحقها زوال، وأنه -تبارك وتعالى- هو الحي حين لا حي، وهو الحي يحيي الموتى.
وأما القيوم: فكل أحد غير الله فقير إلى الله، والله تعالى غني عن كل أحد، وكل شيء سوى الله قائم لله.
ربنا -جل جلاله- مُسْتَوٍ على عرشه استواءً يليق بعظمته وجلاله، مع ذلك فهو -سبحانه- مستغنٍ عن العرش، ومستغن عن حمَلة العرش، ومستغن عمن يطوفون حول العرش، ومن يطوف حول العرش وحملة العرش والعرش كلهم وغيرهم فقراء إلى الله، قائمون لله، فإذا تقرر في قلبك هذا المعنى استقر فيه تعظيم الله -سبحانه وتعالى-، وبانت لك قوته، واتضح لك جبروته، فتخضع جوارحك وتنصرف عن المخلوقين باعتبارهم فقراء، وتتعلق بالعلي الأعلى، الغني الحميد.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سِرًّا وجهرًا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الأحد بلا ند يضاهيه، منشئ كل شيء ومبديه، ومُهلك كل شيء ومُنهيه، لا تحوزه الأقدار، ولا تدركه الأبصار، والصلاة والسلام على أفضل من عظّم ربه وعرف قدره سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
معاشر الأبرار: ومن الطرائق التي يصل بها المؤمن إلى تعظيم الله: أن يعلم الضعف في العباد؛ فإن رؤيتك للنقص في الخلق تسوقك لأن ترى الكمال في الخالق.
شج رأس نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، وسال الدم على وجهه حتى يرى الناس وجه نبيهم -صلوات الله وسلامه عليه- وهو يعتريه ما يعتري وجوه المخلوقين، فيقع في القلوب والعقول أن الوجه الذي لا يحول ولا يزول هو وجه الله الحي القيوم.
يرى الإنسان النقص حتى في الملائكة، يقول الله -جل وعلا- عنهم بلسان مقالهم: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات:164]، ويقول جبريل: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم:64]، فنحن وإن كنا ملائكة كرامًا، وخلقًا عظامًا، لنا ما لنا من المنزلة والقوة فإن لنا مقامًا لا نتعداه ولا نتجاوزه، ولا نملك لأنفسنا حولاً ولا طولاً ولا قوة حتى في تنزلنا من السماء إلى الأرض، وهي بالنسبة لهم أمر هين كطرائقنا المعتادة التي نسير عليها، إلا أنه لا يمكن أن يقع إلا بأمر من الله وإذن منه.
والمقصود: إن رؤية النقص في الخلق يدل العبد على كمال خالقه -تبارك وتعالى-.
يفتن المسلمون بنبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ينصر بالرعب مسيرة شهر، يصيب الوجل والخوف أعداءه، ومع ذلك يأتيه الموت وهو على فراشه -صلوات الله وسلامه عليه-، ويرى السواك فلا يقدر أن يتكلم، وهو إمام الكلام، وإمام البيان، وإمام الفصاحة، لا يقدر أن يقول: أعطوني السواك، يرينا الله الضعف في نبيه حتى نرى كمال القوة في ربنا -جل وعلا-.
فإذا كان هذا حال سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- فكيف يكون حالُ مَن دونه؟! ولهذا قال الله: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:74].
مما يزيد المؤمن تعظيمًا لربه رؤيته لأفضال ربه على خلقه، ذلك الفضل الخاص، لأن التفضل أنواع، هناك الفضل العام على سائر العباد والمخلوقين، وهناك الفضل الخاص الذي تفضل به على بعض خلقه، كيف أن الله –جل وعلا- اصطفاهم واجتباهم وأيدهم بالخوارق والمعجزات، وما كان لهم أبدًا أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من العطاء، ولا أن ينالوا هذه المنح الربانية والمنح الإلهية إلا بفضل الله -جل وعلا-.
اختلف الناس في المسيح عيسى ابن مريم، شرقوا فيه وغربوا، قالت فيه اليهود ما قالت، وزعمت النصارى فيه ما زعمت، قال الله عنه: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) [الزخرف:59].
فما المسيح إلا عبدٌ؛ لكنه قيد بأن الله –جل وعلا- أنعم عليه، فنعمة الله عليه هي التي جعلته آية للناس، محتفى به في الأرض والسماوات العلى.
يرى العبد ما أفاء الله على خليله إبراهيم، وكيف أن إبراهيم كان عبدًا مجتبى، وحبيبًا مصطفى، ونبيًّا مرتضى، أثنى الله عليه حتى على ألسنة أعدائه وخصومه، وقبل أن تبحر في معرفة فضل إبراهيم وعلو منزلته اعلم أولاً أن الله -جل وعلا- هو الذي تفضل عليه، ونظير ذلك أن تنظر فيمن آتاهم الله القدرة في مال أو جاه أو ملك أو قوة، فتعلم أن ربك هو الذي تفضّل عليهم، وأنه هو القوي ذو الملك والملكوت، والعزة والجبروت.
قال الله –جل وعلا- على لسان نبيه سليمان: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) [النمل:39-40]، هذا شأن العارفين العالمين المقربين، يرون فضل ربهم في كل أمر وفي كل حين.
وإذا كانت لمخلوق قدرة في أن يأتي بعرش بلقيس من أرض اليمن إلى أرض فلسطين في أقل من طرفة عَين؛ فكيف بقدرة الله -جل جلاله-؟! هذا مما يقود العبد ويسوقه ويشوقه لمعرفة بعض العلم عن ربه -تبارك وتعالى-.
ومن الطرائق التي يعلم بها العبد عظمة ربه: أن يتأمل في كلامه -جل وعلا-: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء:88]؛ فالقرآن تحدى الله به بلاغة البلغاء، وفصاحة الفصحاء.
قالوا: إن أبا العلاء المعري الأديب اللغوي المعروف كان آية في الفهم والذكاء والحفظ، فقد كان يحفظ أشعار العرب، وكثيرًا من مفردات لغتها وأيامها وتاريخها، فبدا له لما وصل إلى هذه المرحلة أن ينازع القرآن، وأن ينشىء قرآنًا يكتبه يضاهي به كلام الله، فكتب أبياتًا ختمها بقوله: إن الموت لا يبطئ والخلد في الدنيا لا يجوز.
ثم تذكر عظمة الله، فتلا قول الله -جل وعلا-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:103-105]، فجثا على ركبتيه، وبكى بكاءً طويلاً، ثم رفع بصره وقال: "سبحان من هذا كلامه! سبحان من تكلم بهذا في القدم!". اعترف بالعجز التام أمام كلام ربنا -تبارك وتعالى-.
وأصدق منه خبرًا قول الله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء:88].
هذه -أيها الأحباب- جملة من الطرائق ذكرنا بعضها ولا يتسع الوقت لذكر آخر منها.
ونعرج بعد هذا على الأمارات والعلامات التي يغلب على الظن -فيما يظهر للناس وكل أحد مسؤول عن سريرته- أنها تدل على أن العبد يعرف شيئًا عظيمًا عن قدر الله وعظمته.
إن أعظم تلك الأمارات توحيد الله؛ فإن من وحّد الله فقد عرف قدره، فتوحيد الله -جل وعلا- الحسنة التي ليس بعدها حسنة، كما أن الشرك السيئة التي ليس بعدها سيئة، ولا مصلحة بعد التوحيد، ولا مفسدة بعد الشرك، فما عرف عظمة الله من حلف بغير الله، وما عرف عظمة الله من ذبح لغير الله، ومن أتى السحرة والعرَّافين والكهان، وما عرف عظمة الهر من تعلق بالأبراج، وما عرف عظمة الله من استغاث بالأحجار والأشجار والقبور وغير ذلك.
ثم تأتي بعد ذلك أمور في سلوك المرء وفي الحياة تدل على تعظيمه لربه -تبارك وتعالى-، ومنها على سبيل الإجمال والطريقة السردية لا الطريقة التفصيلية: الوجل، الوجل عند ذكر الرب -تبارك وتعالى-؛ فإن وجل القلوب عند ذكر علام الغيوب من دلائل معرفة العبد بعظيم قدر ربه.
ومن الدلائل كذلك حب المجالس التي يذكر فيها الله ويثنى عليه فيها بما هو أهله، فمن وجد في نفسه حبًّا وشوقًا لتلك المجالس فهو -إن شاء الله- من المعظمين لله.
أما إذا فضّل المباريات على حضور الجماعات، وآثر مشاهدة الأفلام على مناجاة الملك العلام، واستمتع بالمعازف وهجر القرآن، فهذا -عياذًا بالله- من الدلائل على أن هذا العبد لا يعظم الله ولا يعرف له قدرًا، وأن هذا العبد موقوف على الخطر إن لم يتدارك أمره ويتوب إلى ربه.
ومن دلائل تعظيم العبد لربه امتثاله لأوامر ربه والوقوف عند حدوده -سبحانه جل وعلا-، فمثلاً: ربك العظيم يريد أن يراك في صلاة الفجر في جماعة، فإذا تخلفت عن ذلك فأنت غير معظم لربك، فوالله الذي لا رب سواه، غير معظِّمٍ لربه عبد دعاه مولاه لصلاة الفجر فآثر النوم وفضّل الوسادة على لذة المناجاة والعبادة.
غير معظِّم لربه من أصر على التعامل بالربا مع علمه بأن ربه حرمه وذكر أن صاحبه محاربٌ له: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:278-279].
غير معظِّم لربه من يحلف بالله كاذبًا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض ورأسه مثنية تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظمك ربنا! فيُرَدّ عليه: ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبًا". والحديث صححه الألباني.
يعني: ما عرف عظمتي وقدري من يتجرأ على الحلف بي كاذبًا، وننظر إلى واقعنا اليوم في معاملاتنا وتجارتنا وعلاقتنا فنرى الجرأة على الله من خلال الحلف على الكذب، يحلف التاجر على سلعته وأنها أعطيت له بكذا وكذا، وأنها من أجود ما يكون، والحقيقة خلاف ذلك.
غير معظِّم لربه من عقَّ والديه وغفل عنهما وعن خدمتهما؛ لأن من تعظيم الله تعظيم ما عظم -سبحانه-، والله عظّم شأن الوالدين، ورفع قدرهما، فما أبعد من يقدّم زوجته على أمه، وصديقه على والده، ما أبعده عن تعظيم الله -تعالى-!
غير معظِّمة لربها أمّة ترى الظلم ولا تغيره ولا تستنكره ولا تقف في وجه الظالم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا هابت أمتي أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودّع منهم"، يعني انتهوا.
وأمتنا اليوم ترى ظالم الشام وفرعونها يتجبر على العباد، ويواصل القتل والسفك والذبح، ولا تتخذ الإجراءات لردعه، في صورة غامضة تحيلك على ألوان من الحيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم أصلح أحوالنا...