الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إننا نعيش في زمن ضعف فيه التوكل، وقلّ فيه المتوكلون، فلم نتوكل على الله حق التوكل، ولم نستيقن من قول الله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : 3]، ولم نحسن الظن بالله -تبارك وتعالى-، وبالغنا كثيراً في الخوف على المستقبل، وصرنا نفرح بما أوتينا، ونيأس على ما فاتنا، وكأننا لا نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، بل صرنا نتوكل ونعتمد على غير الله، أكثر من توكلنا على الله، وتعلقنا به...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أمر بالتوكل وحث على العمل, ونهى عن التواكل وحذر من الكسل، وسمى نفسه الوكيل، وكفى بذلك فضيلة للتوكل، وقرن التوكل بالإيمان والعبادة في كتابه الجليل.
والصلاة والسلام، على سيد المتوكلين، وإمام المتقين، خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
عباد الله: حديثنا اليوم عن عبادة من أجلّ العبادات، وقربة من أعظم القربات، وفريضة من أعلى الفرائض والطاعات، هي أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد، وأعظمها وأجلها، وأحبها إلى الله -سبحانه وتعالى-، إنها عبادة التوكل على الله.
والتوكل هو: تفويض الأمور إلى الله - عز وجل-، والثقة بحسن اختيار الله فيما أمر به، والاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار الدينية والدنيوية.
إنه يعني قطع القلب عن العلائق، ورفض التعلق بالخلائق، وإعلان الافتقار إلى محوِّل الأحوال ومقدِّر الأقدار -سبحانه وتعالى-، وصدق اعتماد القلب عليه، في استجلاب المصالح، ودفع المضار.
عباد الله: لقد ورد ذكر التوكل في القرآن الكريم في سبعة وستين موضعاً، وذلك لبيان أهميته، وتبيين عظيم منزلته، فمرة يأمر الله به فيقول: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنفال : 61]، ويقول (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [النساء : 81]، (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [الشعراء : 217] [الفرقان : 58]، ومرة يقرن الله التوكل بالإيمان، كما في قوله -سبحانه وتعالى- في غير ما آية: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران : 160]، وقوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2]، وقوله (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : 23].
وفي هذا إشارة واضحة إلى أن التوكل على الله -جل جلاله وعز كماله- جزء لا يتجزأ من عقيدة المؤمن، لا يستغني عنه كل مسلم، عالم أو جاهل، رجل أو امرأة، حاكم أو محكوم كما قال موسى -عليه السلام- لقومه: (يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس : 84].
ومرة يخبر الله أنه يحب المتوكلين، كما في قوله -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران : 159]، ومرة يأمر عباده بإخلاص هذه العبادة له وحده، وعدم الإشراك به فيها، فيقول: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) [المزمل : 9]، وقال (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) [الإسراء : 2]، ويقول: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [النساء : 81]، وقال (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر : 38].
ومرة يخبر أن ضعف التوكل من صفات المنافقين، وضعيفي الإيمان، فيقول: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : 49]، ويقول رداً عليهم: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة : 51]، ويقول: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة : 129].
ومرة يذكره في مقام الحكم والقضاء، فيقول: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [الشورى : 10]، وأحياناً يذكره في مقام الجهاد والقتال، فيقول: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران : 121،122]، وذكره في مقام طلب الرزق، فقال -سبحانه-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق :2، 3]، ومرة يذكره في مقام العهود والمواثيق، كما قال الله عن نبيه يعقوب -عليه السلام-: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [يوسف : 66] وقال عن موسى: (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص : 28].
أيها الناس: لمّا كان التوكل بهذه الأهمية كان الأنبياء جميعا -عليهم السلام- أول المتوكلين, فهذا نوحٌ - عليه السلام - لما كذبه قومه وآذوا أتباعه يخاطبهم معلنًا توكله على الله تعالى, فيقول: (يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ) [يونس: 71]، وهذا هود - عليه السلام - عندما آذاه قومه واتهموه بالجنون، تبرأ منهم ومن شركهم، وأعلن توكله على الله تعالى قائلاً: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود: 54 - 56]، وهذا شعيبٌ ومن آمن معه يقول للمكذبين من قومه: (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [الأعراف: 89].
وهذا موسى لما طغى عليه فرعون، أمرهم - عليه السلام - بالتوكل على الله تعالى؛ ليكونوا قادرين على مواجهة هذا الطغيان العظيم، والصبر على العذاب المهين، (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يونس: 84، 85]، وهذا يعقوب لما فقد ولده أعلنها صراحة مدوية: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [يوسف: 67]، وهذا نبينا وأسوتنا محمد - صلى الله عليه وسلم- يعلمنا التوكل حين كان مع صاحبه أبي بكر في الغار ليلة الهجرة، والمشركون يتبعونهم، فقال أبو بكرٍ -رضي الله عنه- من شدة خوفه على النبي -صلى الله عليه وسلم- من أن يدركه المشركون: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما ظنك يا أبا بكرٍ باثنين الله ثالثهما؟!" [البخاري (5666 )] [مسلم (2387 ) ].
أيها المسلمون: إننا نعيش في زمن ضعف فيه التوكل، وقلّ فيه المتوكلون، فلم نتوكل على الله حق التوكل، ولم نستيقن من قول الله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : 3]، ولم نحسن الظن بالله -تبارك وتعالى-، وبالغنا كثيراً في الخوف على المستقبل، وصرنا نفرح بما أوتينا، ونيأس على ما فاتنا، وكأننا لا نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، بل صرنا نتوكل ونعتمد على غير الله، أكثر من توكلنا على الله، وتعلقنا به، وخوفنا منه، والعياذ بالله، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر : 36].
أما الصادقون مع الله في التوكل، فإنهم يزدادون توكلاً على الله، وخاصة في أزمان النوازل، والفتن، والملمات، فلا تروعّهم الخطوب وإن عظمت، ولا تزعزعهم المصائب وإن كثرت، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام -رضي الله عنهم-، ضربوا أروع المواقف في التوكل، في زمن الشدة والمحنة، وذلك في غزوة أحد، عندما هُددوا بتجمع الأعداء عليهم وقيل لهم: إن المشركين قد جمعوا للقضاء عليكم، واستئصال شأفتكم، فلم يبالوا بذلك، ولم يستسلموا ولم يتنازلوا، بل ظلوا صابرين ثابتين متوكلين على الله، فصرف الله عنهم عدوهم، وسجل لهم هذا الموقف الرائع ضمن آيات ستبقى تتلى إلى يوم القيامة، يقول الله تعالى: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران:171-173].
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم -عليه السلام- حين ألقي في النار، وقالها محمد -صل الله عليه وسلم- حين قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173]" [البخاري (4287)]، وفي سنن الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُمْ: قُولُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا" [الترمذي(2431) ].
عباد الله: إن التوكل على الله يثمر في قلب العبد الإيمان الكامل، إذ لا إيمان إلا بالتوكل، وقد قرن الله تعالى بين الإيمان وبين التوكل فقال: (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الملك: 29]، فالتوكل على الله تعالى أصل جامع من أصول الإيمان، ولن يترسخ الإيمان في القلب إلا بالتوكل.
والتوكل سبب من أسباب دخول الجنة بلا حساب, فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب "فقلت: من هم؟" فقال: "هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يعتافون، وعلى ربهم يتوكلون" [أخرجه أحمد (2952)]. فمن قوة توكلهم على الله، لا يطلبون من أحدٍ شيئاً، حتى ولو أن يرقيهم، أو يكويهم.
والتوكل على الله ينبت في القلب الرضا والصبر، وقد مدح الله الصابرين المتوكلين بقوله تعالى: (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت: 58، 59]، فإذا توكل المسلم على ربه هداه ربه للحق والصبر والنصر كما قال تعالى: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم: 12].
والتوكل على الله - عباد الله- يجعل المسلم قويًّا أمام الشيطان، لا تؤثر فيه نفثاته ولا همزاته، قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 98، 99]، فالتوكل يمنع تسلط الشيطان على الإنسان؛ لأن الله منعه من التسلط على المتوكلين، كذلك يمنع من الحسد، فهذا نبي الله يعقوب -عليه الصلاة والسلام- ينهى أبناءه من الدخول من باب واحد خشية الحسد, فيقول لهم: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [يوسف: 67].
ولهذا كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من بيته قال: "بِسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله". فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ يُقَالُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ" أخرجه : أبو داود [5095] ، والترمذي [3426].
والتوكل على الله يكشف الهم والكرب؛ إذ ينخلع المسلم من حوله وقوته إلى حول الله وقوته وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يدعو ربه فيقول: "اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ, وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ" [مصنف ابن أبي شيبة (29154)].
والتوكل على الله يجعل المرء يعيش مع الله، وفي معية الله، فمن جعل الله حسيبه في كل شيء، كفاه الله، وكان معه، وهذا ما أشار إليه القرآن قائلاً: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64] أي ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله أيضاً. ويقول -سبحانه وتعالى- (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 3].
كذلك يربي التوكل في نفس المؤمن القناعة، والرضا بالقليل، والزهد فيما في أيدي الناس، والثقة في رزق الله تعالى، كما أنه يكبح جماح النفس إلى الشهوات، والانقطاع عن كل محرم؛ لأن المتوكل يعلم أن رزقه عند ربه محفوظ، وأنه توكله سبب رزقه؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا" [ابن ماجه (4164)].
والتوكل على الله يورث الفوز والغلبة في الدنيا والآخرة؛ إذ وعد الله عباده المتوكلين بالنصر والظفر والعزة والغلبة في غير موضع من القرآن, قال تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160].
فاتقوا الله -رحمكم الله- وأجملوا في الطلب وتوكلوا على الله حق التوكل فإن الله يحب المتوكلين.
قلت ما سمعتم وأستغفروا الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا:
أما بعد:
أيها المسلمون: قد يخلط بعض الناس بين التوكل والتواكل، أو يظنون أن التوكل يعني الكسل، وترك الكسب والخلود إلى الأرض، وهذا ظن الجهال، والمنحرفين عن العقيدة الصحيحة، أو البطالين الذين آثروا الراحة، وعشقوا الخمول والكسل وتعللوا بالتوكل، ونسوا أو تناسوا أن التوكل مقرون بالعمل، لأن فيه اعتماد على الله بالقلب، وفيه في نفس الوقت سعي بالجوارح، ومن يتأمل هذه الآيات جيداً يدرك ذلك تماماً، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ) [النساء:71]، ويقول: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال:60]، ويقول: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة:10]، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [مريم : 25].
فهذه الآيات وغيرها كثير تحث على العمل وتقديم السبب، فإذا عمل السبب توكل على الله، فالله -سبحانه وتعالى- قادر على أن يرزق مريم -عليها السلام- بدون أن تهز وتحرك جذع النخلة، وقادر على حماية المسلمين في كل حال، ولكنه أمرهم بتقديم السبب وأخذ الحيطة والحذر، والإعداد والاستعداد للعدو، وهذا أمر جلي واضح، فلا يجوز لنا أن نعطل الأسباب، ولا يجوز أن نبالغ في الأخذ بها، والاعتماد عليها، وإنما التوسط هو المطلوب.
وقد جاء في الحديث عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ يعني ناقته, قال: "اعقلها وتوكل" [أخرجه الترمذي (2517)]. ولقي عمر بن الخطاب ناساً من أهل اليمن، فقال: "من أنتم؟", قالوا: نحن المتوكلون، قال: "بل أنتم الْمُتَّكِلُونَ، إنما المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض، ويتوكل على الله -عز وجل-"، "وكان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن متوكلون، فيحجون، فيأتون أهل مكة، فيسألون الناس، فأنزل الله: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197]" [رواه البخاري].
يقول ابن رجب -رحمه الله-: "واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدّر الله -سبحانه- المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب إيمان به".
أيها المؤمنون: إن من أسماء الله الحسنى "الوكيل"، والوكيل هو القَيِّم الكَفِيل، الذي تكفل بعباده كلهم، وهو -سبحانه- وكيل المؤمنين، الذين جعلوا اعتقادهم في حوله وقوته، وخرجوا من حولهم وطولهم وآمنوا بكمال قدرته، وأيقنوا أنه لا حول ولا قوة إلا به، فركنوا إليه في جميع أمورهم، وجعلوا اعتمادهم عليه في سائر حياتهم، وفوضوا إليه الأمر قبل سعيهم واستعانوا به حال كسبهم، وحمدوه بالشكر بعد توفيقهم.
هذه حقيقة استشعار اسم الله الوكيل، فاستشعروا -إخوة الإيمان- هذا الاسم من أسماء الله، في كل حال، وتحركوا في هذه الحياة بأجسامكم، وأنتم مُسلميّن قلوبكم للوكيل -جل جلاله وعزّ شأنه-، وتحلوا بهذه الخصلة العظيمة، التي إن تخلّق بها المسلم لانت له كل الصعاب، وكافأه الوكيل الوهاب، بعظيم الأجر، وأجزأ المكافأة، يقول الله -تبارك وتعالى- (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الشورى : 36].
واعلموا أن التوكل على الله أمرٌ ضروريٌ لنا، فنحن جميعاً في حاجة إلى يد حانية تعيننا لننجح وننتصر، وتمسح آلامنا، وتخفف عنا، إذا فشلنا وانهزمنا، وقد قيل لحاتم الأصم -رحمه الله-: على ما بنيت أمرك في التوكل؟, فقال على خصال أربعة: "علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنّت نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحي منه".
واحذروا -أيها المسلمون- كل الحذر من كل ما يقدح في التوكل أو يضعفه في قلب العبد ومن ذلك:
تعليق النجاح والرزق وحصول المراد عمومًا بالأسباب فقط من دون الله, كمن يظن أن رزقه في هذا العمل فقط، أو يدعي النجاح بالعلم ويدعي الشفاء بعلاج الطبيب، أو يستقر في قلبه أن رزقه الذي حصل له إنما هو بحذقته ونشاطه وقدرته، أو أن فلانًا هو الذي رزقه وأعطاه، أو اعتماده كلية على فلان بأنه يسهل أموره وينجز حاجته فهذا خلل في التوكل وضعف في عقيدة المتوكل.
ومما يقدح في التوكل: عدم التسليم بقضاء الله وقدره، في المصائب، والمشاكل، والأمراض، مما يدفع البعض إلى اللجوء إلى السحرة والمشعوذين، لسؤالهم وإزالة ما ألَمَّ بهم، ولا يتوكلون على الله الذي لا ينفع ولا يضر إلا هو -سبحانه وتعالى-.
ومنها: التطير والتشاؤم: كما يفعله بعض الناس عند خروجه من بيته، أو عزمه على السفر، فيتشاءم من رؤية شخص، أو من سماع كلمة، أو يتشاءم من رقم معين أو يوم معين أو ثوب أو بيت، فهذا كله ينافي التوكل، وقد سمعتم حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب" فقلت: من هم؟ فقال: "هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يعتافون، وعلى ربهم يتوكلون".
ومما يقدح في التوكل الاستكبار والتكبر: إذ إن المتكبر صاحب قلب مريض، لا يخضع لربه، ولا ينصاع للحق، كما قال الله عنهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) [البقرة: 206]، فأمثال هؤلاء، تكون ثقتهم في أنفسهم، أكثر من ثقتهم في الله.
فأوصي نفسي وإياكم بمراجعة أنفسنا في موضوع التوكل لنرى هل نحن فعلاً متوكلون على الله, معتمدون عليه واثقون به, مفوضون أمورنا إليه, مظهرون الافتقار له في كل أحوالنا, أم أن الواقع هو العكس؟ نسأل الله العفو والعافية.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على هذا النبي العظيم ,والقائد الكريم, الذي أمركم ربكم -جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم -أيها المؤمنون- من جنه وإنسه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.