الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | صلاة العيدين |
تَمُوجُ الأرضُ بالتَّقلباتِ والتَّغَيُّراتِ ، وتُبَاغِتُ الأيامُ أهلَها بالغِيَرِ والمُفاجَآتِ ، تَقَلُّبَاتٍ متبيانة ، وأحوالٍ مُتَغايرةٍ ، عَزِيزُ يَشْقَى ، ومُسْتَضْعَفٌ يَرْقَى وأَمْنٌ وخَوْفٌ يَتَقَلَّبانِ ، واضْطِرَابٌ وتَوَجُّسٌ مِنْ مُسْتَقْبلٍ مَسْتُورٍ ، والإنسانُ يُخَطِّطُ ويُريدُ ، واللهُ يَحْكُمُ ما يُريدُ ..
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِلِبَاسِ الْإِيمَانِ خَيْرِ لِبَاسٍ.
نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا هَدَانَا، وَنَشْكُرُهُ تَعَالَى عَلَى مَا أَعْطَانَا وَأَوْلَانَا، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَعْلَمُ سِرَّنَا وَجَهْرَنَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا وَيَرَانَا، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَشْفَقَ عَلَيْنَا وَنَصَحَنَا، وَعَلَى الْبَيْضَاءِ تَرَكَنَا. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا.
اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ..
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، عَدَدَ مَا أَهَلَّ الْمُهِلُّونَ وَلَبُّوا، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا كَبَّرَ الْمُكَبِّرُونَ وَعَجُّوا، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا ضَحَّى الْمُضَحُّونَ وَثَجُّوا .
اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ التَّقْوَى، فَبِهَا تَسْمُو الضَّمَائِرُ، وَتُقْبَلُ الشَّعَائِرُ، وَبِهَا النَّجَاةُ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا).
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: تَمُوجُ الْأَرْضُ بِالتَّقَلُّبَاتِ وَالتَّغَيُّرَاتِ، وَتُبَاغِتُ الْأَيَّامُ أَهْلَهَا بِالْغِيَرِ وَالْمُفَاجَآتِ.
تَقَلُّبَاتٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَأَحْوَالٌ مُتَغَايِرَةٌ، عَزِيزٌ يَشْقَى، وَمُسْتَضْعَفٌ يَرْقَى، وَأَمْنٌ وَخَوْفٌ يَتَقَلَّبَانِ، وَاضْطِرَابٌ وَتَوَجُّسٌ مِنْ مُسْتَقْبَلٍ مَسْتُورٍ، وَالْإِنْسَانُ يُخَطِّطُ وَيُرِيدُ، وَاللَّهُ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
فَمَا أَحْوَجَنَا وَنَحْنُ نَرَى ذَلِكَ أَنْ نَرْتَبِطَ بِالْقُرْآنِ الْمُبِينِ! وَنُورِدَ الْقُلُوبَ مَوَاعِظَ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِتُشْحَنَ النُّفُوسُ بِنَبَضَاتِ الْيَقِينِ، يَقِينٌ بِوَعْدِ اللَّهِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ، الْمُدَبِّرِ الْقَهَّارِ. وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟! وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا؟!
وَإِذَا تَجَذَّرَتْ شَجَرَةُ الْيَقِينِ فِي قِيعَانِ الْقُلُوبِ أَوْرَثَتْ طُمَأْنِينَةً، وَأَشْرَقَتْ نُورًا؛ لِيُحْرِقَ هَذَا النُّورُ كُلَّ ظَلَامٍ دَامِسٍ صَاغَهُ الْيَأْسُ، وَنَسَجَهُ التَّشَاؤُمُ.
يَقُولُ الْحَقُّ -جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- وَاعِدًا وَمُؤَكِّدًا: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
نَعَمْ، يَغْلِبُ أَمْرُ اللَّهِ وَإِنْ سَخِطَ النَّاسُ وَكَرِهُوا، يَنْفُذُ أَمْرُ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ وَإِنْ أَبَى الْخَلْقُ وَأَنِفُوا، فَمَشِيئَةُ اللَّهِ نَافِذَةٌ، وَأَمْرُ اللَّهِ مَاضٍ، رَبٌّ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ, وَمَا يُرِيدُهُ حَتْمًا سَيَكُونُ (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ).
وَقَدِيمًا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ حِينَ رَأَى نِقْمَةَ اللَّهِ عَلَى أَصْحَابِ الْفِيلِ:
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ
(وَمَنْ يُغَالِبِ اللَّهَ يُغْلَبْ) قَالَهَا الْيَهُودِيُّ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، حِينَ رَأَى بِعَيْنِهِ الْمَوْتَ وَالْعَطَبَ.
نَقِفُ مَعَ هَذَا الْوَعْدِ الرَّبَّانِيِّ مِنْ وَحْيِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَطْ، فَفِي هَذِهِ الْحَجَّةِ النَّبَوِيَّةِ مِنَ الْمَوَاقِفِ وَالْمَشَاهِدِ مَا تَقِفُ لَهُ النُّفُوسُ خَاضِعَةً خَاشِعَةً، مُسْتَشْعِرَةً قَوْلَ بَارِيهَا: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
• الْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ:
هُوَ مَنْظَرُ تِلْكَ الْجُمُوعِ، وَالْأُلُوفِ الْمُؤَلَّفَةِ مُيَمِّمَةً شَطْرَ الْمَدِينَةِ، تَحُطُّ رِحَالَهَا فِي أَرْضِ طَيْبَةَ الطَّيِّبَةِ، تَتَحَيَّنُ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِهَذِهِ الرِّحْلَةِ التَّارِيخِيَّةِ، فَعَاشَتْ تِلْكَ الْجُمُوعُ أَيَّامًا مِنَ الْإِيمَانِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، ثُمَّ خَرَجَتْ تِلْكَ الْوُفُودُ وَهُمْ آمِنُونَ وَالْمَدِينَةُ هَادِئَةٌ رَاخِيَةٌ، وَكَأَنَّ تِلْكَ الدِّيَارَ لَمْ تَشْهَدْ يَوْمًا مَا حِصَارًا شَدِيدًا مَرِيرًا، زَاغَتْ فِيهِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتْ مِنْهُ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ.
كَأَنَّ تِلْكَ الْمَدِينَةَ لَمْ تَكُنْ يَوْمًا مَا أَرْضَ حَرْبٍ وَاضْطِرَابٍ، حَتَّى نَجَمَ النِّفَاقُ وَعَلَا صَوْتُهُ، وَقَالَ قَائِلُهُ: مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ .
فَإِذَا بِهَذِهِ الْقَرْيَةِ الْمَكْرُوبَةِ، الْخَائِفِ أَهْلُهَا، تُصْبِحُ الْقَرْيَةَ الْآمِنَةَ الَّتِي تَؤُمُّهَا الْقَبَائِلُ مِنْ أَنْحَاءِ الْجَزِيرَةِ، وَتَجْتَمِعُ فِيهَا الْوُفُودُ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ، وَصَدَقَ اللَّهُ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
• الْمَشْهَدُ الثَّانِي:
هُوَ مَشْهَدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ يُهَيِّئُ رَاحِلَتَهُ، وَيَضَعُ فِيهَا الزَّادَ وَالْمَتَاعَ لَهُ وَلِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَكُونَ لَصِيقَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْمُبَارَكَةِ، فَإِذَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ صَاحِبِ الْأَمْسِ الَّذِي خَرَجَ هُوَ وَإِيَّاهُ مُسْتَخْفَيْنِ مِنْ أَعْيُنِ قُرَيْشٍ، هَارِبَيْنِ مِنْ شَرِيعَةِ الظُّلْمِ الَّتِي اسْتَبَاحَتْ دَمَ خَيْرِ رَسُولٍ.
هَا هُوَ الْيَوْمَ يَسِيرُ مَعَ صَاحِبِهِ بِزَامِلَةٍ وَاحِدَةٍ، قَدْ وُطِّئَتْ لَهُمَا الْأَرْضُ، وَحَفَّتْهُمُ الْجُمُوعُ، يَمُرُّونَ بِنَفْسِ الْفِجَاجِ وَالْجِبَالِ، وَالْوِهَادِ وَالسِّهَالِ.
أَمَا لَوْ نَطَقَتْ تِلْكَ الْجَمَادَاتُ لَرَوَتْ عَظِيمَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا السَّفَرِ وَذَاكَ الْمَسِيرِ!
إِنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ الْغَالِبُ وَلُطْفُهُ الْخَفِيُّ: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
• الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ:
مَنْظَرُ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاحَةَ الْكَعْبَةِ ضُحًى، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ السَّاحَةِ صَنَمٌ، وَلَا يُعَظَّمُ فِيهَا وَثَنٌ، وَلَا يَطُوفُ بِهَا عُرْيَانٌ.
هَذِهِ السَّاحَةُ الَّتِي طَالَمَا كَانَتْ مَسْرَحًا لِلتَّعْذِيبِ الْبَدَنِيِّ وَالنَّفْسِيِّ، فَفِيهَا رُمِيَ سَلَا الْجَزُورِ عَلَى ظَهْرِهِ وَرَأْسِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ سَاجِدٌ.
وَفِيهَا بُصِقَ فِي وَجْهِهِ، وَخُنِقَ بِمَجَامِعِ رِدَائِهِ.
فِي هَذَا الْفِنَاءِ كَانَتْ تَرْمُقُهُ الْأَعْيُنُ؛ لِتُؤْذِيَهُ وَتَلْمِزَهُ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ شِدَادٍ.
وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً | عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ |
هَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهَ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُ أَشْرَفَ وَأَطْهَرَ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِمَعَالِمِ التَّوْحِيدِ، وَالْجُمُوعُ تَحُفُّهُ، وَالْعُيُونُ تَرْمُقُهُ، وَالْمُهَجُ تَفْدِيهِ، وَالْكُلُّ يُدَقِّقُ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ لِيَسْتَنَّ بِهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [الفتح: 28] .
• الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ:
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى جَبَلِ الْمَرْوَةِ، قَدْ أَنْهَى عُمْرَةَ الْحَجِّ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِفَسْخِ حَجِّهِمْ إِلَى عُمْرَةٍ إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْمَنَاسِكِ، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ فَسَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَرَأَيْتَ مُتْعَتَنَا، لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي أُخْرَى وَقَالَ: «لَا، بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ» ثُمَّ جَعَلَ الرَّجُلُ ذَاتُهُ يَسْأَلُ مَرَّةً أُخْرَى، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُجِيبُهُ أَمَامَ الْجُمُوعِ.
هَذَا الرَّجُلُ هُوَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْجُعْشُمِيُّ، الَّذِي كَانَ قَبْلَ عَشْرِ سِنِينَ يَرْكُضُ خَلْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَاهِرًا رُمْحَهُ، يُرِيدُ أَنْ يَفُوزَ بِجَائِزَةِ قُرَيْشٍ فِي قَتْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا هُوَ الْيَوْمَ يَقِفُ خَلْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَكِنْ لَا لِيَقْتُلَهُ، أَوْ يَأْسِرَهُ، وَإِنَّمَا لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ أَمْرَ دِينِهِ، وَمَا يَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ، وَصَدَقَ اللَّهُ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
• الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ:
هَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْرُغُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، فَيَخْرُجُ مِنْ مِنًى لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَنْسَاكِ إِلَّا طَوَافُ الْوَدَاعِ، فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَإِنَّمَا نَزَلَ خَيْفَ بَنِي كِنَانَةَ، فِي مَكَانٍ يُسَمَّى الْمُحَصَّبَ، فَصَلَّى بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءِ، لَقَدِ اخْتَارَ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الْمَكَانَ بِالْأَخَصِّ؛ لِأَنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ، قَبْلَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى مِيثَاقِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَمُقَاطَعَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فَلَا يُبَايِعُونَهُمْ وَلَا يُنَاكِحُونَهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمْ مُحَمَّدًا، كُلُّ ذَلِكَ جُهْدًا مِنْهُمْ؛ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ تَعَالَى.
فَهَا هُوَ هَذَا الرَّجُلُ الْمَطْلُوبُ يَنْزِلُ ذَاتَ الْمَكَانِ، وَقَدْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ، وَنَصَرَهُ، وَأَعَزَّهُ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلِيِّ الْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: مَا أَحْوَجَنَا أَنْ نَسْتَشْعِرَ وَنَسْتَصْحِبَ هَذَا الْيَقِينَ فِي زَمَنٍ تَتَقَاطَرُ عَلَيْنَا فِتَنُ الشَّهَوَاتِ، وَتَتَخَطَّفُنَا شُهُبُ الشُّبُهَاتِ، أَنْ نَتَوَاصَى وَنَتَذَاكَرَ هَذَا الْوَعْدَ الرَّبَّانِيَّ الَّذِي لَا يُخْلَفُ؛ لِتَمْتَلِئَ الْقُلُوبُ بَرْدًا وَسَلَامًا أَمَامَ كُلِّ اضْطِرَابٍ وَارْتِيَابٍ.
فَاللَّهُ تَعَالَى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، كَتَبَ فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51] (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 173] .
أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ مُعْجِزَةَ كِتَابِهِ، وَتَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ، وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ الْخَاتِمَةَ، وَتَكَفَّلَ بِإِظْهَارِهَا عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) هَذَا وَعْدُ اللَّهِ، وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ.
فَأَبْشِرُوا يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، فَدِينُ اللَّهِ مَنْصُورٌ، وَرَايَةُ الْإِسْلَامِ لَنْ تُنَكَّسَ، وَلَنْ يَقِفَ فِي وَجْهِ رِسَالَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ دُوَلٌ وَلَا إِمْبِرَاطُورِيَّاتٌ، فَضْلًا عَنْ أَحْزَابٍ وَأَفْرَادٍ صَعَالِيكَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالدِّينِ، وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ».
كَمْ تَأَلَّبَ عَلَى هَذَا الدِّينِ مِنْ أَلْفٍ وَأُلُوفٍ مِنْ أَمْثَالِ أَبِي لَهَبٍ، وَابْنِ سَبَأٍ، وَابْنِ سَلُولَ، فَنَفَقُوا وَذَهَبُوا، وَبَقِيَ هَذَا الدِّينُ وَمَا ذَهَبَ.
يَا نَاطِحَ الْجَبَلَ الْعَالِي لِيَثْلِمَهُ
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمِنْ مُؤَكِّدَاتِ غَلَبَةِ أَمْرِ اللَّهِ: أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ يَنْتَشِرُ، وَأَنْوَارَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ تَتَمَدَّدُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فِي أَرْجَاءِ الْمَعْمُورَةِ، وَإِنْ تَزَنْدَقَ مُتَزَنْدِقٌ أَوِ ارْتَدَّ مُنَافِقٌ، فَتَيَقَّنُوا أَنَّ مَكَانَهُ مِئَاتٌ بَلْ أُلُوفٌ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا.
أُمَّتُكُمْ يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ قَدَرُهَا أَنْ يَتَعَاقَبَ عَلَيْهَا الْأَذَى، وَيَتَمَالَأَ عَلَيْهَا الْعِدَا، قَدَرُهَا أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ أُمَمِ الْأَرْضِ تَعَرُّضًا لِلظُّلْمِ وَالْبَلَاءِ، وَسَرِّحِ الْفِكْرَ فِي مَسَارِبِ التَّارِيخِ، أَوْ أَرْسِلِ الطَّرْفَ فِي الْوَاقِعِ الْمُعَاصِرِ؛ لِتَرَى أَنَّ الْمَصَائِبَ تُصَبُّ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ صَبًّا، وَرَغْمَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ لَا تَزِيدُهَا الْمِحَنُ إِلَّا عَوْدَةً لِلدِّينِ، وَالْتِجَاءً لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَهَا هِيَ شَامُ الْأُمَوِيِّينَ تَعُودُ لِجُذُورِهَا وَأُصُولِهَا الْإِسْلَامِيَّةِ، هَا هِيَ الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ تَنْتَفِضُ عَلَى شَرِّ خَلْقِ اللَّهِ كُلِّهِمْ، هَا هِيَ كَتَائِبُ الشَّامِ تُغَرِّدُ (مَا لَنَا غَيْرُكَ يَا اللَّهُ) لِتُسَطِّرَ بِدِمَائِهَا وَأَرْوَاحِهَا وَفِدَائِهَا فَصْلًا مِنْ فُصُولِ تَارِيخِ أُمَّتِنَا لَا يُمْحَى وَلَا يُنْسَى أَبَدًا .
فَتَحِيَّةُ إِجْلَالٍ وَإِكْبَارٍ إِلَى أُولَئِكَ الرِّجَالِ الَّذِينَ رَكَّعُوا الْعِصَابَاتِ النُّصَيْرِيَّةَ الَّتِي بَلَغَتْ جَرَائِمُهُمْ عَنَانَ السَّمَاءِ، فَحُقَّ لَنَا أَنْ نَفْرَحَ فِي عِيدِنَا بِهِمْ، وَنُعْلِنَهَا صَرِيحَةً: طُوبَى لَكُمْ، وَطُوبَى لَنَا بِكُمْ.
الْعِيدُ حَلَّ وَقَدْ قَامَتْ لَهُ الْعَـرَبُ
وَالشَّـامُ تَنْصِبُ لِلسَّفَّاحِ مَشْنَقَـةً
مَا أَجْمَلَ الْعِيدَ مِنْ غَيْرِ الطُّغَاةِ وَمَا
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَأَخِيرًا عِبَادَ اللَّهِ لِنَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْيَقِينَ بِغَلَبَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَإِعْزَازِ دِينِهِ، لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ شُعُورٍ فِي الضَّمِيرِ بِلَا عَمَلٍ، بَلْ هُوَ مُعْتَقَدٌ رَاسِخٌ، يُزِيدُ الْإِيمَانَ، وَيُورِثُ الْعَمَلَ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22] .
فَمَنْ يَعْمَلْ وَيَبْذُلْ وَيَجْهَدْ نُصْرَةً لِدِينِهِ وَأُمَّتِهِ وَيَصْبِرْ وَيَتَصَبَّرْ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ، فَهُمْ أَهْلُ الْيَقِينِ الْحَقِّ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) فَحِينَ اسْتَقَرَّ الْيَقِينُ فِي النُّفُوسِ أَوْرَثَهُمْ عَمَلًا وَصَبْرًا.
عِبَادَ اللَّهِ: ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، وَكُلُوا مِنْهَا، وَتَصَدَّقُوا، وَتَهَادُوا، وَأَحْيُوا سُنَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِالْأُضْحِيَةِ، وَتَذْكِيَتَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَالْحِرْصَ عَلَى تَطْبِيقِ السُّنَّةِ فِيهَا لَهُوَ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَهُوَ عَمَلٌ صَالِحٌ مُوصِلٌ لِلتَّقْوَى، يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32] (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...