الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
واليوم، بحول الله وقوّته، سنتعرف على عالم الملائكة، هذا العالم الطاهر التقي النقي: صفاتهم، وأقسامهم، وأعمالهم، وعلاقتهم ببني آدم، والعقيدة فيهم؛ إلى آخر مفردات منظومة هذا الخلق الفريد والعجيب.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أدى الأمانة ونشر الديانة، ونصح للأمة وكشف -تعالى- به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جزى نبينا عن أمته وداعيا عن دعوته؛ فصلِّ اللهم عليه وعلى آله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين.
أما بعد:فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر فألهى، وإن ما توعدون لصادق، وإن الدين لواقع، وما أنتم بمعجزين.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فهي وصية الله للأولين والآخرين، فهي الزاد يوم الحاجة، والأمن يوم الفزع، والفوز يوم التغابن، وما من نبي إلا وأوصى قومه بتقوى الله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [آل عمران:50].
عباد الله: لقد جاء الإسلام نورا وهداية أشرقت على وجه البسيطة الكالحة بظلام الجهل والخرافة، فبددت سحائب الشركيات والتصورات الخاطئة والعقائد الضالة، جاء الإسلام ليعيد الحقائق إلى مواضعها، ويعيد إلى العقل تقديره ومكانته، ويعيد إلى بعض مخلوقات الله -عز وجل- مكانتها وتقديرها اللائق بها.
ومن أكثر مخلوقات الله -تعالى- تعرضا للتشويه والاعتقاد الخاطئ "ملائكة الرحمن"، فإن من البشر مَن عبد الملائكة من دون الله -عز وجل-، كما قال -تعالى-: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ:40].
ومنهم من قال عنهم إنهم إناث، كما قال -تعالى-: (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ) [الصافات:150].
ومنهم من اتخذوا الملائكة أعداءً، كما قال الله: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [البقرة:97].
فجاء الإسلام فأعاد الاعتبار والتقدير لصفوة خلقه -الملائكة- وصحح العقيدة المتعلقة بالإيمان بهم، وجعل الإيمان بهم ركنا من أركان الإيمان الستة والتي لا يقبل إيمان أو يصح بدونها.
الله -تبارك وتعالى- هو خالق كل شيء، خلق السموات والأرض، وخلق الليل والنهار، وما نبصره وما لا نبصره من الأجسام والأرواح، وخلق الدنيا والآخرة، وخلق الإنس والجن، وخلق الملائكة والروح، وخلق الأبدان والعقول.
وقدر الله -تعالى- أن يخلق الملائكة، ولا شهوة لهم إلى المعصية، بل همتهم مصروفة بالكلية إلى طاعة رب العالمين، فليس لهم في الدنيا اختبار ولا ابتلاء، ولا عليهم في الآخرة حساب ولا جزاء.
والملائكة مخلوقات كسائر المخلوقات، قائمون بأمر الله، ولا يستغنون عنه، ولا ينفِّذون أمراً ولا ينجزون عملاً إلا بإذن الله -تعالى- وإرادته.
واليوم، بحول الله وقوّته، سنتعرف على عالم الملائكة، هذا العالم الطاهر التقي النقي: صفاتهم، وأقسامهم، وأعمالهم، وعلاقتهم ببني آدم، والعقيدة فيهم؛ إلى آخر مفردات منظومة هذا الخلق الفريد والعجيب.
عباد الله: الملائكة عالم غير عالم الإنس وعالم الجن، إنه عالم كريم، كله طهر وصفاء ونقاء، وهم كرام أتقياء، يعبدون الله حق العبادة، ويقومون بتنفيذ ما يأمرهم به، ولا يعصون الله أبداً.
و"الْمَلَك" أصله اللغوي: أَلكَ، والمألكُ: الرسالة. ومنه اشتق الملائكة: لأنهم رسل الله، وقال بعض المحققين: الملَك من الْمُلك. قال: والمتولي من الملائكة شيئاً من السياسات يقال له مَلَك، ومن البشر مَلِك.
والإيمان بالملائكة أصل من أصول الإيمان، لا يصح إيمان عبد ما لم يؤمن بهم، قال -تعالى-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة:285]، وفي حديث جبريل الشهير: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره".
والإيمان بالملائكة ينتظم في معانٍ: أحدها: التصديق بوجودهم.
والثاني: إنزالهم منازلهم، وإثبات أنهم عباد الله وخلقه كالإنس والجن مأمورون مكلفون، لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه، والموت عليهم جائز، ولكنّ الله -تعالى- جعل لهم أمداً بعيداً، فلا يتوفاهم حتى يبلغوه، ولا يوصفون بشيء يؤدي وصفهم به إلى إشراكهم بالله -تعالى-، ولا يدعون آلهة كما دعتهم الأوائل.
الثالث: الاعتراف بأنّ منهم رسلاً يرسلهم الله إلى من يشاء من البشر، وقد يجوز أن يرسل بعضهم إلى بعض، ويتبع ذلك الاعتراف بأنّ منهم حملة العرش، ومنهم الصافّون، ومنهم خزنة الجنّة، ومنهم خزنة النار، ومنهم كتبة الأعمال، ومنهم الذين يسوقون السحاب، فقد ورد القرآن بذلك كله أو بأكثره.
هذا عن الإيمان بهم وموقعهم من العقيدة الإسلامية، وهو موقع شديد التميز كما رأينا، أما عن أهم خصائص وملامح عالم الملائكة وأهم الأمور المتعلقة بهم والتي تعطينا الصورة كاملة عن خلق الله الطاهر، الملائكة، فهي كما يلي:
أولا: خَلق الملائكة: فالملائكة خَلق عظيم من خَلق الله، خلقهم الله من نور، لحديث عَائِشَةَ أم المؤمنين، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خُلِقَتِ الْـمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْـجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِـمَّا وُصِفَ لَكُمْ" رواه مسلم.
وخلق الملائكة له خصوصية كبيرة من بين خلق الله، فهم يتَّسِمُون بسمات خلقية فريدة لا يوجد مثلها من بين خلق الله.
من تلك السمات ضخامة الخلقة؛ فالملائكة عظام الخلقة، قال الله في شأن ملائكة النار: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
ولو ضربنا مثلا من خلق بعض الملائكة لوجدنا جبريل -عليه السلام- وقد رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صورته الملائكية التي خلقه الله عليها مرتين، هما المذكورتان في قوله -تعالى-:(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير:23]، وفي قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) [النجم:13-14]، عندما عرج به إلى السموات العلا.
وقد ورد في صحيح مسلم أن عائشة -رضي الله عنها- سألت الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن هاتين الآيتين فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطاً من السماء، سادّاً عِظَمُ خَلْقه ما بين السماء إلى الأرض".
وسئلت عائشة -رضي الله عنها- عن قوله -تعالى-: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) [النجم:8]، فقالت: "إنما ذلك جبريل -عليه السلام-، كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته، التي هي صورته، فسدّ أفق السماء".
وورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "رأى محمد -صلى الله عليه وسلم- جبريل له ستمائة جناح"، وقال في وصف جبريل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير:19-21]، والمراد بالرسول الكريم هنا: جبريل، وذي العرش: رب العزة -سبحانه-.
وانظر إلى عظم خَلْقِ حَمَلَة العرش، وحملة العرش من الملائكة يؤمنون بالله، ويسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون للمؤمنين في الأرض، قال -سبحانه-: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر:7].
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ الله، مِنْ حَـمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْـمَةِ أُذُنِـهِ إلى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ" رواه أبو داود وصححه الألباني.
أجنحة الملائكة: للملائكة أجنحة كما أخبرنا الله -تعالى-، فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، أو أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) [فاطر:1]، والمعنى أن الله جعلهم أصحاب أجنحة، بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة أو أربعة، أو أكثر من ذلك .
جمال الملائكة: خلقهم الله على صور جميلة كريمة، قال -تعالى- في جبريل: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) [النجم:5-6]، قال ابن عباس: (ذو مرة): ذو منظر حسن، وقال قتادة: ذو خَلْقٍ طويل حسن. وقيل: ذو مرة: ذو قوة. ولا منافاة بين القولين، فهو قوي وحسن المنظر.
وقد تقرر عند الناس وصف الملائكة بالجمال، كما تقرر عندهم وصف الشياطين بالقبح، ولذلك تراهم يشبهون الجميل من البشر بالملك، انظر إلى ما قالته النسوة في يوسف الصديق عندما رأينه: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرَاً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف:31].
ثانيا: ليسوا ذكورا ولا إناثا؛ لذا من أسباب ضلال بني آدم في حديثهم عن عوالم الغيب أنّ بعضهم يحاول إخضاع هذه العوالم لمقاييسه البشرية الدنيوية، فنرى أحداً من هؤلاء يعجب في مقال له من أن جبريل كان يأتي الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد ثوان من توجيه سؤال إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحتاج إلى جواب من الله، فكيف يأتي بهذه السرعة الخارقة، والضوء يحتاج إلى ملايين السنوات الضوئية؛ ليصل إلى بعض الكواكب القريبة من السماء. وما درى هذا المسكين أن مثله كمثل بعوضة، تحاول أن تقيس سرعة الطائرة بمقياسها الخاص، فلو تفكر في الأمر، لعلم أن عالم الملائكة له مقاييس تختلف تماماً عن مقاييسنا نحن البشر.
ولقد ضلّ في هذا المجال مشركو العرب الذين كانوا يزعمون أن الملائكة إناث، واختلطت هذه المقولة المجافية للحقيقة عندهم بخرافة أعظم وأكبر؛ إذ زعموا أن هؤلاء الإناث بنات الله.
وناقشهم القرآن في هاتين القضيتين، فبين أنهم فيما ذهبوا إليه لم يعتمدوا على دليل صحيح، وأن هذا القول قول متهافت، ومن العجب أنهم ينسبون لله البنات، وهم يكرهون البنات، وعندما يبشر أحدهم أنه رزق بنتاً يظل وجهه مسوداً وهو كظيم، وقد يتوارى من الناس خجلاً من سوء ما بُشر به، وقد يتعدى هذا المأفون طوره، فيدس هذه المولودة في التراب، ومع ذلك كله ينسبون لله الولد، ويزعمون أنهم إناث.
وهكذا تنشأ الخرافة، وتتفرع في عقول الذين لا يتصلون بالنور الإلهي، قال -تعالى-: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ) [الصافات:149-153].
وقد جعل الله قولهم هذا شهادة سيحاسبهم عليها، فإن من أعظم الذنوب القول على الله بغير علم: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحمَنِ إِنَاثَاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) [الزخرف:19].
ثالثا: لا يأكلون ولا يشربون؛ فالملائكة لا يحتاجون إلى طعام البشر ولا شرابه، فقد أخبرنا الله أن الملائكة جاؤوا إبراهيم في صورة بشر، فقدّم لهم الطعام، فلم تمتد أيديهم إليه، فأوجس منهم خيفة، فكشفوا له عن حقيقتهم، فزال خوفه واستغرابه: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) [الذاريات:24-28].
رابعا: لا يملّون ولا يتعبون، بل يقومون بعبادة الله وطاعته وتنفيذ أوامره، بلا كلل ولا ملل، ولا يدركهم ما يدرك البشر من ذلك، قال -تعالى- في وصف الملائكة: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:20]، ومعنى لا يفترون: لا يضعفون. وفي الآية الأخرى: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) [فصلت:38]، تقول العرب: سئم الشيء، أي: ملّه.
وقد استدل السيوطي -رحمه الله- بقوله: (لَا يَفْتُرُونَ) على أن الملائكة لا ينامون.
خامساً: منازل الملائكة: منازل الملائكة ومساكنها السماء،كما قال -تعالى-: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [الشورى:5].
وقد وصفهم الله -تعالى- بأنهم عنده: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) [فصلت:38].
وينزلون إلى الأرض بأمر الله لتنفيذ مهمات كلفوا بها، وأوكلت إليهم: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم:64]، ويكثر نزولهم في مناسبات خاصة كليلة القدر: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) [القدر:3-4].
والملائكة هم من يستضيف المؤمنين حال دخولهم منازلهم في الجنة، وكذلك هم من يلقون عليهم التحية والسلام، ويبشرونهم بالنعيم المقيم والثواب الجزيل، قال الله -تعالى-: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:23-24].
سادسا: أعداد الملائكة: الملائكة خلق كثير لا يحصيهم إلا الله، منهم حمَلة العرش، وخزنة الجنة، وخزنة النار، والحفظة، والكتبة، وملائكة في السماء، وملائكة في الأرض؛ منهم مَن اختصهم الله بعلمه، ومنهم من أعلمنا الله بأسمائهم وأعمالهم، ومنهم: جبريل -عليه السلام-، وهو الموكل بالوحي إلى الأنبياء والرسل، ومنهم ميكائيل -عليه السلام-، وهو الموكل بالقطر والنبات، ومنهم إسرافيل -عليه السلام-، وهو الموكل بالنفخ في الصور.
ومنهم مالك خازن النار والموكل بها، ورضوان، خازن الجنة والموكل بها، ومنهم ملك الموت، الموكل بقبض الأرواح عند الموت، ومنهم الملائكة الموكلون بحفظ بني آدم وكتابة أقوالهم وأعمالهم، ومنهم الموكلون بالأجنة في الأرحام، يكتبون بأمر الله رزق الإنسان وعمله وأجله وشقيا كان أم سعيداً، ومنهم الملائكة الموكلون بسؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ورسوله، وغيرهم كثير مما لا يحصيه إلا الله الذي أحصى كل شيء عدداً.
وقد وكل الله الملائكة الكرام الكاتبين، وجعلهم علينا حافظين، يكتبون الأقوال والأعمال، ويحصون الحركات والأنفاس، قال -سبحانه-: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12]، وقال -تعالى-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18].
ومع كل إنسان ملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من أمامه، وواحد من خلفه، قال -سبحانه-: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد:11]، يقول مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال الملــَك: وراءك! إلا شيء أذن الله أن يصيبه، وقال أبو مجلد: جاء رجل إلى علي -رضي الله عنه- وهو يصلي، فقال: احترس، فإن ناسا يريدون قتلك. فقال علي: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، إن الأجل جُنة حصينة.
كما وكل الله بالجبال ملائكة، ووكل بالأرحام ملكاً يقول: يا رب نطفة؟ يا رب علقة؟ يا رب مضغة؟ يا رب ذكر أم أنثى؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ وشقي أم سعيد؟.
ووكل -سبحانه- بالموت ملائكة، ووكل بسؤال الموتى ملائكة، ووكل بالرحمة ملائكة، ووكل بالعذاب ملائكة، ووكل بالمؤمن ملائكة يثبتونه على الطاعات، ووكل بالجنة ملائكة يهيئونها فيبنونها ويفرشونها ويصنعون أرائكها وسررها وصحافها ونمارقها، ووكل بالنار ملائكة يبنونها ويوقدونها ويصنعون أغلالها وسلاسلها ويقومون بأمرها، ووكل بالبحار ملائكة تسجرها وتمنعها أن تفيض على الأرض، فالملائكة هي المدبرات أمراً، وهم رسل الله في تنفيذ أوامره في ملكه.
وقد وكل الله -عز وجل- الملائكة بالعالم العلوي، والعالم السفلي، تُدبره بأمره -سبحانه-، فتدبر الأمطار والنبات، والأشجار والمياه، والرياح والبحار، والأجنة والحيوانات، والجنة والنار وغير ذلك مما لا يحصيه ولا يعلمه إلا الله.
سابعا: عصمة الملائكة: ملائكة الرحمن معصومون من الخطأ والزلل، فهم -بأمر الله- يعملون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]، فهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون، فالأمر يحركهم، والأمر يوقفهم.
فسبحان مَن خلق هذا الخلق العظيم من الملائكة، وملأ بهم السموات السبع، وملؤوها بالتحميد والتقديس والتكبير والتهليل والاستغفار، تعظيماً وإجلالاً لربهم -تبارك وتعالى-.
ولقد توعد الله -سبحانه- من جعل من نفسه عدوا لملائكته المكرمين ولعباده المطهرين، كمن انتقص من قدرهم أو نسب إليهم ما لم يتصفوا به، قد كفر الله من فعل ذلك، قال -تعالى-: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:98]. وقال السيوطي نقلا عن القاضي عياض إجماع المسلمين على فضل الملائكة وترجيح عصمتهم.
ثامنا: موت الملائكة: فالملائكة يموتون كما يموت الإنس والجن، وقد جاء ذلك صريحاً في قوله -تعالى-: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر:68]، فالملائكة تشملهم الآية؛ لأنهم في السماء.
يقول ابن كثير عند تفسيره هذه الآية: "هذه هي النفخة الثانية، وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله كما جاء مصرحاً به مفسراً في حديث الصور المشهور، ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم، الذي كان أولاً، وهو الباقي آخراً بالديمومة والبقاء، ويقول: لمن الملك اليوم؟ ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول: (لله الواحد القهَّار) [غافر:16].
ومما يدّل على أنهم يموتون قوله -تعالى-: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص:88]، وهل يموت أحد منهم قبل نفخة الصور؟ هذا ما لا نعلمه، ولا نستطيع الخوض فيه؛ لعدم وجود النصوص المثبتة له أو النافية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب السموات السبع وما أظللن، الحمد لله رب الأرضين السبع وما أقللن، الحمد لله خالق الإنس والجن، وخالق الملائكة والشياطين، وهو على كل شيء قدير، وأصلى وأسلم على خاتم المرسلين، وهادي المؤمنين، وقدوة السالكين، وإمام العارفين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد عباد الله: هذه كانت أهم صفات الملائكة وخصائصهم، أما عن قدراتهم الفائقة التي اختصهم بها المولى -جل وعلا- والتي صاروا بها أقوى وأشد مخلوقات الله -عز وجل-، بحيث إن جبريل -عليه السلام- قد رفع قرى قوم لوط -عليه السلام- كاملة بأهلها وساكنيها إلى السماء على طرف جناحه، وله ستمائة جناح، ولعلنا سنعرج على بعض أهم تلك القدرات الملائكية:
أولا: قدرتهم على التشكل؛ فقد أعطى الله -سبحانه- الملائكة القدرة على أن يتشكلوا بغير أشكالهم، فقد أرسل الله جبريل إلى مريم في صورة بشر: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) [مريم:16-17].
وإبراهيم -عليه السلام-، جاءَته الملائكة في صورة بشر، ولم يعرف أنهم ملائكة حتى كشفوا له عن حقيقة أمرهم: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) [هود:69-70].
وجاءوا إلى لوط في صورة شباب حسان الوجوه، وضاق لوط بهم، وخشي عليهم من قومه، فقد كانوا قوم سوء يفعلون السيئات، ويأتون الذكران من العالمين: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود:77].
وقد كان جبريل يأتي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في صفات متعددة، فتارة يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي (صحابي كان جميل الصورة)، وتارة في صورة أعرابي.
وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال: "بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال:يا محمد، أخبرني عن الإسلام "...
وقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما بعد أن السائل جبريل، جاء يعلم الصحابة دينهم.
ورأت عائشة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبي يكلمه، فلما سألته عن ذلك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ذلك جبريل، وهو يقرئك السلام".
وقد حدثنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأنه لما هاجر تائباً جاءه الموت في منتصف الطريق إلى الأرض التي هاجر إليها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فحكّموا فيه ملكاً جاءَهم في صورة آدمي، يقول -عليه السلام-: "فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له"، ولا بدّ أنهم حكموه بأمر الله، فأرسل الله لهم هذا الملك في صورة آدمي. رواه مسلم.
وفي قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، وأن الملك تشكل لهم بصورة بشر.
ثانيا: عظم سرعتهم؛ فأعظم سرعة يعرفها البشر هي سرعة الضوء، فهو ينطلق بسرعة مائة وستة وثمانين ألف ميل في الثانية الواحدة. وسرعة الملائكة فوق ذلك، وهي سرعة لا تقاس بمقاييس البشر، كان السائل يأتي إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا يكاد يفرغ من سؤاله حتى يأتيه جبريل بالجواب من ربّ العزة -سبحانه وتعالى-، واليوم لو وُجدت المراكب التي تسير بسرعة الضوء، فإنها تحتاج إلى (مليار) سنة ضوئية حتى تبلغ بعض الكواكب الموجودة في آفاق هذا الكون الواسع الشاسع.
ثالثا: علمهم: فالملائكة عندهم علم وفير علّمهم الله إيّاه، ولكن ليس عندهم القدرة التي أعطيت للإنسان في التعرف على الأشياء: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) [البقرة:31]، فالإنسان يتميز بالقدرة على التعرف على الأشياء، واكتشاف سنن الكون، والملائكة يعلمون ذلك بالتلقي المباشر عن الله -سبحانه وتعالى-، ولكنّ الذي علمهم الله إياه أكثر مما يعرفه الإنسان، ومن العلم الذي أعطوه علم الكتابة: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12].
رابعا: قوتهم وشدتهم: فالملائكة خلق شديد القوة لا يضاهيه من خلق الله شيء في القوة والشدة، قال -تعالى-: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) [النجم:5-6]، والمقصود جبريل -عليه السلام-، وقال -تعالى-: (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ) [التحريم:6]، والناظر لهيئة وعظم حملة العرش أو خزنة النار يعلم مدى قوة وشدة هذا الخلق العظيم، ورغم هذه القوة والشدة إلا أنهم شديدو الخوف من الله -عز وجل- ولا يعصونه طرفة عين، قال -تعالى-: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [النحل:50].
عباد الله: إن الملائكة هم أعبد خلق الله -عز وجل-، وأشدهم له طاعة وإقبالا، كيف لا وقد نزع الله من قلوبهم الميل للمعصية أصلا، فلا تجدهم إلا خاشعين عابدين لله -عز وجل-، وعبادتهم فرع من خصائصهم الفريدة وقدراتهم الجبارة، فهم ما خلقوا إلا للخدمة والطاعة والعبادة، وكل قواهم وإمكاناتهم مسخرة لتحقيق العبودية الكاملة لله -عز وجل-.
ومن أهم عبادتهم لله -عز وجل-:
أولا: التسبيح؛ فالملائكة يذكرون الله -تعالى-، وأعظم ذكره التسبيح، يسبحه -تعالى- حملة
عرشه: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [غافر:7]، كما يسبحه عموم ملائكته: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [الشورى:5]، وتسبيحهم لله دائم لا ينقطع، لا في الليل، ولا في النهار: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:20].
ولكثرة تسبيحهم فإنهم هم المسبحون في الحقيقة، وحق لهم أن يفخروا بذلك: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) [الصافات:165-166]، وما كثرة تسبيحهم إلا لأن التسبيح أفضل الذكر، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر، قال:سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الذكر أفضل؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده".
ثانيا:الاصطفاف؛ فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحث أصحابه على الاقتداء بالملائكة في الاصطفاف للصلاة: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟".
وعندما سئل عن كيفية اصطفافهم قال: "يتمون الصفوف، ويتراصون في الصف" رواه مسلم.
وفي القرآن عن الملائكة: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) [الصافات:165]، وهم يقومون، ويركعون، ويسجدون، وعن حكيم بن حزام قال: بينما رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه إذ قال لهم: " أتسمعون ما أسمع؟". قالوا: ما نسمع من شيء! قال: "إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا عليه ملك ساجد أو قائم" رواه الطحاوي في مشكل الآثار، والطبراني في الأوسط.
ثالثا: الحج؛ فللملائكة كعبة في السماء السابعة يحجون إليها، هذه الكعبة هي التي أسماها الله -تعالى-: البيت المعمور، وأقسم به في سورة الطور: (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) [الطور:4].
وثبت في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث الإسراء، بعد مجاوزته السماء السابعة: "ثمّ رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً، لا يعودون إليه آخر ما عليهم"؛ يعني يتعبدون فيه، ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم.
والبيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة، ولهذا وَجَد إبراهيمَ الخليل -عليه الصلاة والسلام- مسنداً ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل. كما أخرج ابن جرير من طريق خالد بن عرعرة أن رجلاً قال لعلي -رضي الله عنه-:ما البيت المعمور؟ قال: "بيت في السماء بحيال البيت، حرمة هذا في السماء كحرمة هذا في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ولا يعودون إليه".
رابعا: خوفهم من الله وخشيتهم له؛ فلما كانت معرفة الملائكة بربهم كبيرة، كان تعظيمهم له، وخشيتهم له، عظيمة، قال الله فيهم: (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:28]، ويبين شدة خوفهم من ربهم حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير" رواه البخاري.
وفي معجم الطبراني الأوسط بإسناد حسن عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مررت ليلة أُسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله -تعالى-" والحلس: كساء يبسط في أرض البيت.
وأفضل الملائكة هم الذين شهدوا معركة بدر، ففي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع أن جبريل جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما تعدّون أهل بدر فيكم؟ قال: "مِن أفضل المسلمين"، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة.
وللحديث بقية عن هذا الخلق العظيم.