العربية
المؤلف | سعد بن تركي الخثلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
ومن صفاتهم: حفظهم لفروجهم؛ وهذه خلة عظيمة وخصلة كريمة يتصف بها أهل الإيمان، فهم قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، أو ما ملكت أيمانهم من الإماء -ولا وجود للإماء في الوقت الحاضر-، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيراً، أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإنها وصية الله للأولين والآخرين، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّـهَ) [النساء: 131].
عباد الله: سورةٌ عظيمة في كتاب الله -جل وعلا- استهلَّها الله -جل وعلا- بذكر أوصاف المؤمنين الكمَّل وذِكر ما أعدَّ لهم من عظيم الثواب وجزيل المآب؛ إنها (سورة المؤمنون).
وفي هذه السورة العظيمة ذُكر في أولها صفات أهل الإيمان بعد أن أخبر -جل وعلا- في الآية الأولى من آيات هذه السورة بتحقق فلاح أهل الإيمان وفوزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون:1]؛ أي: قد تحقق فلاحهم وفوزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وهنا تشتاق النفوس لمعرفة صفات أهل الإيمان وحِلية أهل الإيمان التي استحقوا بها هذا الفلاح العظيم؛ فتأمّلوا صفات أهل الإيمان صفةً فيما ذكره الله -جل وعلا- في هذا السياق، ثم تأمّلوا ما أُتبع ذلكم من ذِكرٍ لثواب هؤلاء العظيم وأجرهم الجزيل عند رب العالمين -عز وجل-، قال الله -سبحانه-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 1-11].
تأملوا كيف بُدئت هذه الصفات وخُتمت بذكر الصلاة التي هي أعظم الأعمال وأجلُّها على الإطلاق؛ فأول صفاتهم في هذا السياق المبارك أنهم (فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 2]، وآخر صفةٍ ذكرت لهم في هذا السياق المبارك أنهم؛ (عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المؤمنون: 9]، وهذا -عباد الله- يبين لنا المكانة العلية والمنزلة الرفيعة للصلاة وأنها أجلُّ أعمال أهل الإيمان وأعظم طاعاتهم وأرفع قرباتهم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي العمل أحب إلى الله تعالى؟" قال: "الصلاة على وقتها" (صحيح البخاري)، وهؤلاء ليسوا فقط محافظين على الصلاة بل خاشعون فيها، الخشوع في الصلاة هو روحها وهو لبها وهو المقصود الأعظم منها، وصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح.
ومن صفات أهل الإيمان: بُعدهم عن اللغو وإعراضهم عن مجالسه، (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون: 3]، واللغو يشمل ويتناول كل باطل، وأعظم ذلك الشرك بالله تبارك وتعالى والبدع والمعاصي، ويشمل اللغو كذلك: ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال؛ فهم أقوام أوقاتهم نفيسة لا يضيعونها فيما لا فائدة منه؛ فضلاً عما فيه ضرر من المعاصي والموبقات، إن هؤلاء المؤمنين إذا حصل عندهم فراغ يغتنمونه فيما يقربهم إلى الله تعالى، يشتغلون بالتسبيح والتحميد والتكبير وقراءة القرآن وبكل ما ينفعهم من أمور دينهم ودنياهم؛ إنهم ليسوا بأهل بطالة يضيعون أوقاتهم أو يسمحون للآخرين بتضييع أوقاتهم لكنهم أهل عزيمة وجد وتشمير، يعرضون عن الجاهلين ولا يشتغلون بمناكفتهم والرد عليهم، (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص: 55].
ومن صفات هؤلاء المؤمنين: أنهم يؤدون الزكاة ويحافظون عليها، (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) [المؤمنون: 4]، والزكاة هنا تتناول أداء زكاة المال المفروضة، وتتناول أيضاً تزكية النفس بالأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [الأعلى: 14]، أي: زكى نفسه بطاعة الله والتأدب بآداب الإسلام وأخلاق الشريعة العظيمة. وأكثر العلماء على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال ويحتمل أن يكون المراد بالزكاة ها هنا: زكاة النفس من الشرك والدنس (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9-10].
ومن صفاتهم: حفظهم لفروجهم؛ وهذه خلة عظيمة وخصلة كريمة يتصف بها أهل الإيمان، فهم قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، أو ما ملكت أيمانهم من الإماء -ولا وجود للإماء في الوقت الحاضر-، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج؛ ولهذا قال: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ) [سورة المؤمنون، الآيات: 6-7] أي: غير الأزواج والإماء، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 7]، أي: المعتدون.
عباد الله: العفة عن الحرام تعني قوة الصبر عن شهوة الفرج المحرمة، وهي وصف شرف للمؤمن وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (صحيح البخاري).
ومن صفات هؤلاء المؤمنين: أنهم، (لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون: 8]؛ فهم أهل حفظ للأمانة ورعاية للعهد، والأمانة: كل ما استُؤمِنْ الإنسان عليه من حقوق الله أو حقوق الخلق عليه: التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامِل كل واحد من الجانبين الآخرَ به، وسمي عهداً لأنهما يتحَالفان بعهد الله، أي بأن يكون الله رقيباً عليهما في ذلك فهم راعون للأمانات وللعهود بخلاف حال المنافق الذي إذا عاهد غدر وإذا اؤتمن خان.
قال بعض أهل العلم: "إن الزنا وشرب الخمر والميسر والربا وعقوق الوالدين من الكبائر، ولكن الله تعالى لم يتوعد مرتكبي هذه الموبقات بمثل ما توعد به ناكثي العهود وخائني الأمانات، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّـهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أولئك لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّـهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 77]، وأي عقاب أشد من عقاب من لا خلاق له في الآخرة، أي: لا نصيب له من النعيم فيها، ولا يكلمه الله ولا ينظر إليه، ولا يزكيه بالثناء؛ وذلك لأن مفاسد النكث والخيانة أعظم من جميع المفاسد التي حرمت لأجلها تلك الجرائم.
ثم توِّجت هذه الصفات بالمحافظة على الصلاة؛ فختمت صفات هؤلاء المؤمنين بقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المؤمنون: 9]؛ فهم مهتمون بشأن الصلاة اهتماماً كبيراً؛ فهم يحافظون على إقامتها في وقتها، ويحافظون على أدائها مع جماعة المسلمين في المسجد، الصلاة هي؛ أول اهتماماتهم ولهذا كانوا في صلاتهم خاشعين فإنه لا يخشع في صلاته إلا من اهتم بها واهتم بتحقيق الخشوع فيها وجاهد نفسه على ذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
عباد الله: حقيقٌ على كل مؤمن وقف على هذه الصفات العظيمة التي هي أبرز صفات أهل الإيمان أن يجاهد نفسه على تحقيق هذه الصفات العليَّة والأوصاف الرفيعة؛ ليفوز الفوز العظيم الذي ذكره ربنا -عز وجل- بعد ذكر أوصافهم فقال: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 10-11]، والفردوس هي أعلى درجات الجنة، وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإذا سألتم اللهَ فسلُوهُ الفردوسَ، فإنَّهُ أوسطُ الجنةِ، وأعلى الجنةِ، وفوقَه عرشُ الرحمنِ، ومنه تَفجَّرُ أنهارُ الجنةِ" (صحيح البخاري)، وقوله (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) [المؤمنون: 10]؛ جاء تفسير ذلك في حديث عن أبي هريرة، -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار؛ فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله"؛ فذلك قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) [المؤمنون: 10] (رواه ابن ماجه)؛ فالمؤمنون يرثون منازل الكفار؛ لأنهم كلهم خلقوا لعبادة الله تعالى، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة، وترَكَ أولئك ما أمرُوا به مما خُلقوا له أحرزَ هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم -عز وجل-، وهذه الآية كقوله تعالى: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) [مريم: 63]، وكقوله: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72].
ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير.