العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
والقاعدة في الهديَّةِ المحرَّمة: أنَّ كلَّ هديةٍ تُعطى للموظف بسبب وظيفته، فهي حرامٌ عليه أخذها، وحرامٌ على المهدي إعطاؤها؛ لأنها رشوة، ويقع بسببها فسادٌ عظيم. فإذا كانت الهدية لا علاقة لها بالوظيفة أبدًا، كأنْ تكون هديةً شخصيةً مُتعارَفًا عليها، كالأبِ يُهدي لابنه، والأخِ لأخيه، والصديقِ لصديقه، والجارِ لجاره؛ فلا بأس بها ..
الحمد لله الذي شرح صدور أهلِ الإيمان بالهدى، ونَكَتَ في قلوب أهل الطغيان فلا تعي الحكمة أبدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا فردًا صمدًا، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، ما أكرمه عبدًا وسيدًا، وأطهرَه مضجعًا ومولدًا، وأبهره صدرًا وموردًا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه غيوثِ الندى، وليوثِ العِدا، صلاةً وسلامًا دائمين من اليوم، وإلى أن يُبعثَ الناسُ غدًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعْلموا أنّه كثر في هذا الزمان هدايا العُمَّال، وهُم الموظفون العاملون عند الدولة، وكلُّ مَن تولى ولايةً عامة، ومَن هو في مكانٍ له علاقةٌ بالناس، يقضي لهم المعاملات، كعُمَّالِ ورؤساءِ المحالِّ التجارية، والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قد ذكر حكمَ ذلك صريحًا فقال: "هدايا العمال غلول"، أي: سرقةٌ وحرامٌ وسحت، فلا يجوز له أخذُ الهدية من الناس أبدًا.
واعْلمْ -أيُّها المسلم- أنَّ ما تُعطيه المسؤولين أو الموظفين، من أموالٍ وهدايا، لا يخلو من حالتين:
الأولى: الرشوة: وهي ما تُعطيْه له لدفع حق، أو لتحصيل باطل، وهي حرامٌ لا تجوز.
فإن أَعطيته لتتوصَّل إلى حقّك، فإن لم تَقدر على الوصول إلى حقِّك إلا بذلك جاز لك، والتحريم على من أخذها.
الثانية: الهدية، وهي التي يُقصد بها التودُّدُ واسْتِمالةُ القلوب، فإن كنت ممن تُهاديه قبل أنْ يتولى منصبه، فلا يَحرم عليك أنْ تستمر عليها، وإن كنت لم تُهدِ له قبل ذلك، فاسأل نفسك: ما مقصدك من إعْطائه هذه الهدية؟! فإنْ كان لأجل وظيفته ومكانته: فهذا حرامٌ عليك.
وإنْ كان لسببٍ آخر، كما لو أصبح صديقًا وفيًّا لك، أو أصْبح جارًا له حقٌّ عليك؛ فلا بأس بها حينئذٍ.
والقاعدة في الهديَّةِ المحرَّمة: أنَّ كلَّ هديةٍ تُعطى للموظف بسبب وظيفته، فهي حرامٌ عليه أخذها، وحرامٌ على المهدي إعطاؤها؛ لأنها رشوة، ويقع بسببها فسادٌ عظيم.
فإذا كانت الهدية لا علاقة لها بالوظيفة أبدًا، كأنْ تكون هديةً شخصيةً مُتعارَفًا عليها، كالأبِ يُهدي لابنه، والأخِ لأخيه، والصديقِ لصديقه، والجارِ لجاره؛ فلا بأس بها.
وقد ثبت في الصحيحين أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اسْتَعْمَلَ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى جمع الزكاة، فَلَمَّا قَدِمَ وانتهى من جمعها، قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي، أي: هذه الزكواتُ جمعتها لكم، وهذه أَعْطَوْني إياها هدية، فغضب النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وقام خطيبًا، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: "مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لاَ؟! وفي رواية: أَلا جَلَسْت فِي بَيْت أَبِيك وَبَيْت أُمّك، حَتَّى تَأْتِيك هَدِيَّتك إِنْ كُنْت صَادِقًا؟!".
والمعنى: لو لم تكن موظفًا عندنا، وكنت في بيت أبيك وأمك، هل كانت تأتيك الهدية؟! لو كنت صادقًا، فاقعد في بيت أبيك وأمك، وانتظر الهدية.
ثم قال: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ".
وهذا الحديث فيه من الفوائد: تحريمُ الرشاوى والهدايا لموظفي الدولة، أثناء عملهم، وأنه لا يجوز لهم أن يأخذوا من الناس شيئًا أبدًا، إلا ما وجب عليهم من زكاةٍ ونحوه.
قال ابن حجرٍ -رحمه الله-: "ويُؤْخَذ مِنْ قَوْله: "هَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْت أَبِيهِ وَأُمّه"؛ جَوَازُ قَبُول الْهَدِيَّة مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيه قَبْلَ ذَلِكَ، ومَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْعَادَة". انتهى كلامه -رحمه الله-.
فمَن جرت العادةُ في أخذ الهديةِ وإعطائها، فلا بأس باستمرارها، ولو تولَّى أحدُهما منصبًا ورئاسة، بشرط أنْ لا يزيد عمَّا كان يهديه سابقًا، وأن لا يُعطيَه في مقرّ عمله.
عباد الله: وقدْ أفتتِ اللجنة الدائمة للإفتاء، برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- بأنَّ مَن كان رئيس دائرة؛ فإنه لا يجوز له قبول الهدايا، من الموظفين التابعين لإدارته؛ لأنها في حكم الرشوة.
وأفتوا كذلك أنه لا يجوز للموظف أن يأخذ شيئًا من هدايا وعطايا المراجعين، ومثلُه مدير المدرسة، لا يجوز له أن يقبل هدايا الطلاب أو آبائهم؛ لأن ذلك كلَّه من الغلول المحرم.
عباد الله: هذا بالنسبة لهدايا الموظفين والمسؤولين، فحكمها واضحٌ جليّ، وهي أنها مُحرَّمةٌ مطلقًا إلا في حالةٍ واحدة، وهي إذا لم تكن لأجل وظيفته وعمله.
بقِيَت مسألةٌ يجهلها الكثير من الناس، وهي حكم دفع الإكرامية والهديَّة للسبَّاك والنجار وعُمَّالِ البناء وغيرِهم، أثناء قيامهم بالعمل، سواءٌ بطلبٍ منهم أم لا؟!
وهذه المسألة من المسائل المهمة، التي عمَّتْ بها البلوى في هذه الأزمنة، حتى أصبح كثيرٌ من الْعُمَّال، لا يتورع عن سؤال ما يسمونه بالإكرامية، مع ما يصحب ذلك من التهاون في أداء العمل، عند الشعورِ بفُقدانِ الإكراميةِ أو ضعفِها، والنشاطِ في العملِ عند مَن يبذلُ أكثر.
وعند التأمُّلِ -معاشر المسلمين- نجد أن هناك مفاسدَ عدة، تترتب على دفع هذه الإكراميات، فمن ذلك:
أولاً: أن العامل إذا كان يتقاضى أجرًا من الجهة التي أرسلته فلا وجه لإعطاء الهدية له، بل ظاهرُ السنة تحريمه، كما في حديثِ ابنِ اللُّتْبِيَّة السابق.
فالفارق بين الهدية المحرمة والهديةِ الجائزة: أن ما كان لأجل عمل الإنسان ووظيفته، فهو محرم، وضابطُه: أن ينظر الإنسان في حاله، لو لم يكن في هذا العمل، هل كان سيُهدى إليه؟! وهذا ما بيَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "فَهَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا".
ثانيًا: أنها تُفْسد قلبَ العاملِ على الآخرين، الذين لا يدفعون له شيئًا، فلا يُحْسن العملَ لهم، ويُقَصِّرُ في إكماله.
ثالثًا: أنها تُجَرِّئُ العامل على السؤال والطلب، وتُعَوِّدُه على انتظار الإكرامية، واستشرافِ نفسه لها، فهي عادةٌ سيئة، ينبغي القضاءُ عليها ومحاربتُها؛ لأن الإسلام يدعو إلى عزة النفس وسُمُوِّها، وارتفاعِها عن التطلع إلى ما في يد الآخرين، بل يُحرِّم المسألة إلا عند الضرورة.
وقد يقول قائل: أنا لا أُعطيه لأنه يعمل عندي، بل لأنه فقيرٌ محتاج!!
والجواب أنْ يُقالَ أولاً: هناك عُمَّال النظافة وغيرهم، فهل أعطيتهم مثل ما أعطيت مَن يعمل عندك؟! وهؤلاء أشدُّ حاجةً وفاقة، فالمقصود من هديَّتك وعطيَّتك غالبًا: هي الرشوةُ والْمُحاباة، كيْ يعمل بجِدٍّ ونشاط.
ثانيًا: مصلحةُ إعطائهم لحاجتهم وفقرهم، تُعارضها المفاسد الْمُتَرَتِّبةِ على هذه الهدية والعطية، وقد تقدَّم ذكرها.
والقاعدة المقررة عند أهل العلم: أن درء المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح. وعليه، فلا يجوز دفعُ ما يسمى بالإكرامية، إلا في صورةٍ ضيقةٍ تخلو من هذه المفاسد، كأن يكون العامل قد فرغ من عمله، ولا يُتوقع أن يقوم بعملٍ آخرَ للدافع، فتنتفي شبهةُ الرشوة والمحاباة، فيجوز إعطاء شيءٍ له من بابِ المساعدة.
وكذلك يجوز أنْ تُعطيَ مَن بجوارك من العمالة، كعُمَّال المحلاَّت، وبائعِ الخبز، والنجارين والسبَّاكين وغيرِهم، لا بأس أن تعطِيَهم طعامًا أو هديَّةً أو غيرَها، شريطةَ أنْ لا تُعطيَهم وقتَ عملهم عندك، حتَّى لا يترتَّب على ذلك المفاسدُ السَّابقة، فإذا كان ذلك خارجَ العمل فلا بأس.
كما لو كان جارُك أحدَ المسؤولين والموظفين، فتعطيه لحقِّ الجوار، لا لأنه مسؤولٌ تريدُ منه مصلحة، والله يعلم ما في قلبك وما تُخفيه، والأعمال بالنيَّات.
نسأل الله أنْ يُجَنِّبَنَا الرشوة، وما حرُم من الهدايا، إنه سميعٌ قريب.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِالْفَضْلِ وَالْعِرْفَانِ، وَوَفَّقَنَا لسلوك طريقِ أهلِ الإيمان، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ الأَتَمَّانِ الأَكْمَلانِ، عَلَى مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى لِلإِنْسَانِ.
وبعدُ:
يا عباد الله: فما تقدّم ذكره وتقريره، من تحريمِ الهديَّة للسبَّاك والنجار وعُمَّالِ البناء وغيرِهم، أثناء قيامهم بالعمل، هو ما أفتى به كثيرٌ من علمائنا، فقد سُئل الشيخ العلاَّمة صالحُ الفوزانِ -حفظه الله-: لدينا قصر أفراح، وفيه طباخون، وبعض الطباخين يطلب إكرامية بالإضافة إلى راتبه؛ فهل يجوز إعطاء العامل مبلغًا من المال إكرامية؛ حيث إنه تعوّد أخذه من الناس؟!
فأجاب: "إذا كان هناك عاملٌ من العمال له راتب، وله أجرٌ مقطوعٌ من صاحب العمل؛ فلا يجوز لأحدٍ أن يعطيه؛ لأن هذا يفسده على الآخرين؛ لأن بعض الناس فقراءُ، لا يستطيعون إعطاءهم؛ فهذا العمل سنَّةٌ سيئة".
وسئل الشيخ عبد الرحمن البراك -حفظه الله-: ما حكم إعطاء عامل المطعم زيادةً؟!
فأجاب: "لا يجوز إعطاء العامل هذه الزيادة؛ لأنها تعتبر رشوة منك للعامل، حتى يعطيك من الخدمة أو الطعام، أكثرَ مما يعطي غيرك ممن لا يدفع له هذه الزيادة، وليس للعامل أن يخص أحدًّا بمزيدِ خدمة، وعليه أن يعامل الناس معاملةً واحدة، لكنْ إذا انْتَفتْ من هذه الزيادة شبهةُ الرشوة أو المحاباة؛ فإنه لا حرج فيها حينئذ. كما لو قصدت بها الإحسان إلى هذا العامل الضعيف المحتاج، وأنت لن تتردد على هذا المطعم". انتهى كلامه -حفظه الله-.
فاتقوا الله -عباد الله-، واحْذروا إعطاء الهدايا لمن لا يسْتحقها، فتكونُ عونًا له على الجشع والطمع، وسببًا للفسادِ الكبير عاجلاً أم آجلاً، ولا يُحَصِّلُ مَن أعطاهم سوى الإثمِ وقلَّةِ البركة.
نسأل الله تعالى، أنْ يحمي مجتمعاتنا ومجتمعات المسلمين، من الفتن والبلايا، والفساد والرشاوى، إنه على كل شيء قدير.