الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | سعد بن عبدالله البريك |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
المسلمون في بورما "ميانمار" مأساة قديمة متجددة، عادت مجازر البوذيين الوثنيين من جديد جَذَعَةً مرّة أخرى، مستغلّة الضعف والحالة الراهنة وكثرة الجراح التي تنهش في جسد الأمة، لتقوم بمذابح ومجازر ضد إخواننا المضطهدين المستضعفين في بورما. إن الأحداث الدامية والمجازر البشعة الأخيرة التي تعرّض لها المسلمون في إقليم أراكان رجعت بنا لنتذكر المآسي التي كابدها أبناء ذلك الإقليم المسلم منذ ستين عامًا على يد جماعة "الماغ" البوذية المتطرفة بدعم من الدولة الوثنية...
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبدُه ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللهُ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70، 71].
أمّا بعد:
فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد -صلى الله عليه وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار، نعوذ بالله من النار ومن مآل أهل النار.
إلى الله الشكوى وهو وحده المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أي جراحنا نُضَمِّد!! وأي آلامنا نُسَكِّن!! وأي ناحية من نواحي هذه المعمورة نواسي ونشجب!!
تعالت الصيحات، وضجّت هذه الدنيا بالآهات، الثكالى والمنكوبات والمغتصبات والمهجّرات، لم يرحموا وليدًا، ولا شيخًا أَحْدَب، ولا طفلاً يرضع، ولا بهيمة ترتع.
لا إله إلا الله، هل أصبح دم المسلم رخيصًا؟! هل ماتت فينا الحميّة أم وُئدت فينا النخوة والشهامة والرجولة؟! كيف ينعم أحدنا بهذه الحياة وهو يرى هذه المجازر والمذابح والدماء التي تسيل، والأعراض التي تنتهك لإخوانه وأخواته المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها!!
بل والله إن من أعظم السعادة أن يتقلّب المسلم الموحّد مع ما أنعم الله عليه من خيرات وملذات وأمن وأمان وإيمان بين آلام وجراح وآهات إخوانه وأخواته المسلمين والمسلمات، سيشعر عندها بحقيقة بالسعادة، سيشعر بأنه حيّ، له قلبٌ ينبض وضمير يَئِنّ وعين تفيض، وروح تَضخُّ بالمشاعر الصادقة الأبية.
فمتى ننصرهم؟! ومتى نشدّ من أزرهم؟! ومتى نستر عوراتهم؟! ومتى نؤمن روعاتهم إن لم يكن في هذه الحال؟!
ونحن نعيش مأساة وجراح ودماء ما يحل بإخواننا في سوريا الحبيبة، سوريا الشَّهْمة الأبيّة المستعصية على طاغوت الشام وشبيحته الخونة المرتزقة، إذ طلعت علينا آهات وصيحات وبكاء وعويل، وتفجرت بحور من الدماء في إقليم آخر من أقاليم المسلمين البعيدة، إنه إقليم بورما، بورما المسلمة، بورما الجريحة المنسيّة.
المسلمون في بورما "ميانمار" مأساة قديمة متجددة، عادت مجازر البوذيين الوثنيين من جديد جَذَعَةً مرّة أخرى، مستغلّة الضعف والحالة الراهنة وكثرة الجراح التي تنهش في جسد الأمة، لتقوم بمذابح ومجازر ضد إخواننا المضطهدين المستضعفين في بورما.
إن الأحداث الدامية والمجازر البشعة الأخيرة التي تعرّض لها المسلمون في إقليم أراكان رجعت بنا لنتذكر المآسي التي كابدها أبناء ذلك الإقليم المسلم منذ ستين عامًا على يد جماعة "الماغ" البوذية المتطرفة بدعم من الدولة الوثنية، حيث أذاقوا المسلمين الويلات والنكبات تلو النكبات وسط غيابٍ تامّ للإعلام آنذاك، إلا ما رحم ربي.
بورما هي إحدى دول شرق آسيا، وتقع على امتداد خليج البنغال.
تَحُدُّ بورما من الشمال الشرقي الصين، وتحدُّها الهند وبنغلاديش من الشمال الغربي، وتشترك حدود بورما مع كل من لاوس وتايلاند، أما حدودها الجنوبية فسواحل تطل على خليج البنغال والمحيط الهندي.
ولقد احتلت بريطانيا بورما في نهاية القرن التاسع عشر في عام 1824م وحتى استقلالها في 1948، وتعد يانغون -حاليًا رانغون- أكبر مدنها، كما كانت العاصمة السابقة للبلاد.
وصل الإسلام إلى بورما في القرن الثاني الهجري عام 172هـ - الثامن الميلادي عام 788م، عن طريق التجار العرب في عهد الخليفة هارون الرشيد -رحمه الله-، فانتشر الإسلام في أرجائها، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، مستبشرين بنور التوحيد، نابذين لظلمات الجهل والكفر والشرك.
إلى أن قامت دولة إسلاميّة عريقة على يد السلطان سليمان شاه، واستمرت قرابة ثلاثة قرون ونصف تقريبًا من عام 1430م إلى عام 1784م، تولّى حكمها ثمانيةٌ وأربعون ملكًا مسلمًا على التوالي، وآخرهم الملك سليم شاه الذي اتسعت رقعة مملكة أراكان في عهده حتى شملت بعض الدول المجاورة.
وأراكان: كلمة مركبة من "أرا" و"كان" وتعني أرض العرب، إذ كانت أراكان دولة إسلامية مستقلة حرة في جنوب شرق آسيا، استمرت عدة قرون قبل أن تُحتل من بورما، فأصبحت بعد ذلك واحدة من عشر ولايات ومقاطعات لاتحاد بورما - ميانمار حاليًا.
ويوجد في بورما عدة ديانات، وغالبية سكانها يعتنقون الديانة البوذية، حيث تعتبر بورما قبلة البوذيين، ويفد إليها بوذيو العالم على مدار العام لزيارة معابدهم وآلهتهم، وفيها طائفة يعتنقون الإسلام وهم يتركزون في الشمال على حدود الهند.
ويصل عدد المسلمين إلى حوالي عشرة ملايين نسمة أي حوالي 20% من سكان بورما، ويتركز معظمهم في إقليم أراكان الذي احتله البورميون.
في عام 1784م قام الملك البوذي البورمي "بوداباي"، باحتلال إقليم أراكان وضمه إلى بورما خوفًا من انتشار الإسلام في المنطقة، وعاث في الأرض فسادًا، فدمّر كثيرًا من الآثار الإسلامية من مساجد ومدارس، وقتل العلماء والدعاة.
وفي عام 1824م احتلت بريطانيا بورما، وضمتها إلى حكومة الهند البريطانية الاستعمارية، وفي عام 1937م جعلت بريطانيا بورما مع أراكان مستعمرة مستقلة عن حكومة الهند البريطانية الاستعمارية كباقي مستعمراتها.
وتتعرض الأقلية المسلمة بين الفينة والأخرى إلى مذابح ومجازر وتهجير من البوذيين الوثنيين مستغلين ضعفهم وأقليتهم وتهميشهم، وهذه الأمم المتحدة تعتبر مسلمي أراكان إحدى أكثر الأقليات تعرضًا للاضطهاد في العالم.
ومنذ تلك الحقبة والمسلمون يتعرضون لكافة أنواع التضييق التنكيل والإبادة؛ ففي عام 1942م تعرض المسلمون لمذبحة وحشية كبرى من قِبَل البوذيين (الماغ)، راح ضحيتها أكثر من مائة ألف مسلم، أغلبهم من النساء والشيوخ والأطفال، وشردت مئات الآلاف خارج الوطن، ومن شدة فظاعتها ووحشية تلك المجزرة لا يزال كبار السن يذكرونها.
يصف الشيخ "سليم الله حسين عبد الرحمن" رئيس منظمة تضامن الروهنجيا أوضاع المسلمين في بورما -والروهنجيا: كلمة مأخوذة من "روهانج" اسم دولة أراكان القديم، وتطلق على المسلمين المواطنين الأصليين في أراكان المحتلة من قبل دولة ميانمار (بورما)، وهم أقلية مسلمة مضطهدة تعيش مأساة حقيقية- قائلاً: "في عام 1978م شردت بورما أكثر من ثلاثمائة ألف مسلم إلى بنغلاديش، وفي عام 1982م ألغت جنسية المسلمين بدعوى أنهم متوطنون في بورما بعد عام 1824م، وهو عام دخول الاستعمار البريطاني إلى بورما، رغم أن الواقع والتاريخ يكذّبان ذلك، وفي عام 1992م شردت بورما حوالي ثلاثمائة ألف مسلم إلى بنجلاديش مرة أخرى.
ومن تبقّى من المسلمين يتم اتّباع سياسة الاستئصال معهم عن طريق برامج إبادة الجنس، وتحديد النسل بين المسلمين؛ فالمسلمة ممنوع أن تتزوج قبل سن خمسة وعشرين عامًا، أما الرجل فلا يسمح له بالزواج قبل سن الثلاثين من عمره".
ويضيف الشيخ سليم الله قائلاً: "إذا حملت الزوجة لابد من ذهابها -طبقًا لقرار السلطات الحاكمة- إلى إدارة قوّات الأمن الحدودية "ناساكا" لأخذ صورتها الملوّنة، كاشفة بطنها، بعد مرور كلّ شهر حتّى تضع حملها.
وفي كلّ مرّة لابدّ من دفع رسوم كبيرة للتأكّد -كما تدعي السلطة- من سلامة الجنين، ولتسهيل إحصاء المولود بعد الولادة.
ولسان الواقع يُلوِّح بأنّ الهدف من إصدار هذا القرار المرير هو الاستهتار بمشاعر المسلمين، وتأكيدهم على أنّه ليس لهم أيّ حقّ للعيش في "أراكان" بأمن وسلام!!".
مضيفًا أن "هناك عمليات اغتصاب وهتك للعرض في صفوف المسلمات اللواتي يموت بعضهن بسببه، والجنود الذين يقومون بكل تلك الأعمال والقمع والإذلال ضد المسلمين تدربوا على يد يهود حاقدين.
لا حقّ لمسلمي بورما في الحياة، وآخر ما أسفرت عنه أفكار الحكومة الفاشية منع الزواج؛ فقد أصدرت الحكومة البوذية قرارًا بمنع زواج المسلمين لمدة ثلاث سنوات؛ حتى يقلَّ نسلُ المسلمين وتتفشى الفواحش بينهم، وكانت الحكومة قد فرضت شروطًا قاسيةً على زواج المسلمين منذ عشر سنوات؛ ما اضطرهم لدفع رشاوى كبيرة للسماح لهم بالزواج.
وقد وصل عدد اللاجئين من جراء التعسف إلى حوالي "مليوني مسلم" معظمهم في بنجلاديش وعدد لا بأس به عندنا هنا في السعودية.
ويعيش اللاجئون في بنجلاديش في حالة مزرية في منطقة "تكيناف" في المخيمات المبنيّة من العشب والأوراق في بيئة ملوثة، والمستنقعات التي تحمل الكثير من الأمراض مثل: الملاريا، والكوليرا، والإسهال، وهي أماكن خصصتها لهم الحكومة في بنجلاديش في المهجر، حيث تنتشر مخيماتهم التي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة في بلد يعاني أيضًا من الفقر "بنجلاديش".
وهناك مخطط بوذي بورمي لإخلاء إقليم أراكان من المسلمين جميعًا عن طريق ما يسومون به إخواننا من مجازر وإحراق للبيوت وتشريد للأبرياء.
وآخر هذه المآسي ما حلّ قبل أيام قلائل مما ورد في الأخبار وتناقلته المواقع الإلكترونية المهتمة بشؤون المسلمين وشؤون إخواننا في بورما على وجه الخصوص؛ حيث قُتل عشرة من الدعاة المسلمين لدى عودتهم من العمرة على يد مجموعات بوذية، قامت بضربهم حتى الموت، وذلك بعدما اتهموهم ظلمًا وعدوانًا بالوقوف وراء مقتل شابة بوذية.
ومنذ ذلك الحين تجوب مجموعات مسلحة بالسكاكين وعصي الخيزران المسنونة العديد من مناطق وبلدات ولاية أراكان، تقتل كل من يواجهها من المسلمين، وتحرق وتدمر مئات المنازل، وخاصة في منطقة "مونغاناو" في شمال الولاية، إضافة لمدينة "سيتوي" عاصمة ولاية آراكان.
وأفادت وكالات الأنباء بأن عدد القتلى المسلمين في بورما "ميانمار" منذ يوم الجمعة الماضية قد تخطى مائتي قتيل، إضافة إلى أكثر من خمسمائة جريح، وذكرت الأخبار أن جماعات بوذية أحرقت أكثر من عشرين قرية للمسلمين، وتحدثت الصحافة الرسمية عن حرق حوالي 1600 منزل؛ ما أدى إلى هجرة آلاف الأشخاص الذين فروا من القرى التي أحرقت على مرأى من قوى الأمن.
ونتيجة لهذه المذبحة الجماعية بدأ المسلمون في الفرار بشكل جماعي إلى بنجلاديش، وقد حاول مئات من الروهنجيا المسلمين منذ الاثنين أن يصلوا بالسفن إلى بنجلاديش، لكن سلطات هذا البلد ردتهم.
ومما ذكر في سبب هذه المأساة من الناحية السياسية: أن مع حلول الديمقراطية في ميانمار (بورما) حصلت ولاية أراكان ذات الأغلبية الماغيّة على ستة وثلاثين مقعدًا في البرلمان، أعطي منها ثلاثة وثلاثون مقعدًا للبوذيين الماغين وثلاثة مقاعد فقط للمسلمين، ولكن وعلى الرغم من هذه المشاركة من المسلمين الروهنجيين لم تعترف الحكومة الديمقراطية التي ما زالت في قبضة العسكريين الفاشيين بالعرقية الروهنجيّة إلى الآن رغم المطالبات الدولية المستمرّة.
وقبل انفجار الأزمة في 18/7/1433هـ الموافق 8/6/2012م بأيام أعلنت الحكومة الميانمارية البورمية بأنّها ستمنح بطاقة المواطنة للروهنجيين في أراكان، فأثار هذا الخبر وهذا القرار جماعة الماغين المتطرفة الإرهابية الوثنية، حيث أدركوا أن هذا القرار من شأنه أن يؤثر في انتشار الإسلام في أراكان مستقبلاً، حيث صار للمسلمين حق التصويت والإدلاء بالرأي واختيار من يمثلهم عند الدولة، في حين أنّ حُلْمَهم أن يأتي اليوم الذي لا يبقى في أراكان من جراء التهجير والطرد والمجازر مسلم موحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فاختلق الماغيون المتطرفون حادثة من شأنها أن تعمل على تغيير موقف الحكومة تجاه المسلمين الروهنجيين، ليصوروهم على أنهم إرهابيون ودخلاء، ويتوقف قرار الاعتراف بهم أو يتمّ تأجيله.
ذكر المتابعون للأحداث والأخبار أن الماغين عمدوا في بلدة تاس ونجوك البوذيّة التي يندر وجود المسلمين فيها إلى رصد تحركات المسلمين، فتعرضوا لحافلة تقلّ مجموعة من العلماء والدعاة المسلمين منهم من عاصمة بورما "رانغون" ومن عاصمة ولاية أراكان "إكياب - سيتوي"، وحين وصلوا إلى البلدة المذكورة هاجمهم مجموعة من الماغين البوذيين، فوقعت مذبحة بشعة، فاجتمع على ضربهم وقتلهم المئات من الماغين الحاقدين في صورة تنعدم عندها كلّ معاني الإنسانيّة.
والمتأمل لصورهم والتي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي على الفيس بوك وتويتر واليوتيوب يعلم قدر المأساة التي حصلت، حيث تمّ ربط أيدي هؤلاء الدعاة وأرجلهم، ثمّ انهالوا عليهم بالضرب المبرح بالعصي على وجوههم ورؤوسهم، فلا ترى إلاّ وجوهًا محتقنة بالدماء والنزيف الداخلي، وقد فقئت أعينهم وكسرت جماجمهم وخرجت أدمغتهم.
حتى إنك تقول: لو قتلوا بالرصاص أو بقنبلة متفجرة لكان أرحم لهم. نسأل الله أن يتقبلهم في الشهداء.
ولقد اختلق الماغون المتطرفون ذريعة لتبرير جريمتهم؛ حيث ادّعوا بهتانًا وزورًا أنّهم فعلوا ذلك انتقامًا لمقتل فتاة بوذيّة زعموا أن أحد المسلمين اغتصبها وقتلها، فانتقموا من مجموعة من الدعاة الذين رجعوا من العمرة وغالبهم يعلوه الشيب، كما أن هؤلاء الدعاة ليسوا من تلك البلدة، وإنّما كانوا مارّين بها، وهم مواطنون أصليون من العاصمة رانغون وليسوا من مقاطعة أراكان، ويتكلمون لغة الماغ بطلاقة وهم من كبار السن.
ولقد كان موقف الحكومة مخجلاً ومتواطئًا مع البوذيين ضدّ المسلمين، حيث قامت بالقبض على أربعة من المسلمين بدعوى الاشتباه بهم في قضية الفتاة، وتركوا العشرات بل المئات الذين شاركوا في قتل هؤلاء الأبرياء، ما يوضح بجلاء أنّ القضيّة ليست قضيّة فتاة، إنما هي دعوى ترويجيّة لإحداث الفوضى وإبادة المسلمين بمباركة من الحكومة وإعادة ما حصل قبل ستة عقود.
وفي يوم الجمعة 19/7/1433هـ أحاط الجيش والشرطة البوذيّة بشوارع المسلمين تحسّبًا لأيّة تظاهرات واستنكار لما حل بهؤلاء الدعاة في أراكان، وبالتحديد في (مانغدو)، ومنعوا المصلين من الخروج دفعةً واحدة، وأثناء خروجهم قام الرهبان البوذيين (الماغ) برمي الحجارة على المسلمين حتى أصيب عدد منهم، فثار المسلمون وقد احتقنت النفوس على قتل الدعاة العشرة، وضياع حقوقهم طيلة العقود الماضية، فقاموا بأعمال شغب، وهذا ما كان ينتظره "الماغ" ليعيدوا الكرة بإبادة الشعب الأعزل.
وبعدها تدخّل الجيش والتزم المسلمون بالتهدئة ورجعوا لمنازلهم، وتمّ فرض حظر التجوّل على الطرفين فتمّت محاصرة أحياء الروهنجيين المسلمين حصارًا محكمًا من قبل الشرطة البوذية الماغيّة، وفي المقابل ترك الحبل للماغ البوذيين يعيثون في الأرض الفساد، ويزحفون على قرى ومنازل المسلمين بالسواطير والسيوف والسكاكين، فبدأت حملة الإبادة المنظمة ضدّ المسلمين.
وهكذا بدأ القتل في المسلمين وأحرقت أحياء وقرى كاملة للمسلمين بمرأى من الشرطة الماغية البوذية، وأمام صمت الحكومة التي اكتفت ببعض النداءات لتهدئة الأوضاع.
فصار المسلمون يهيمون على وجوههم بأجساد عارية، ليس عليها إلا خرق بالية، وبدأ تهجيرهم والدفع بهم في عرض البحر على سفن متهالكة بلا طعام ولا شراب، وهكذا بدأت رحلة المجهول على قوارب الموت مسلّمين أمرهم إلى الله، وقد علت أصواتهم بالاستغاثة والالتجاء إلى الله، وبحّت أصواتهم وأصوات أطفالهم ونسائهم بالبكاء، وقد انتهى مصيرهم بالوصول إلى بنجلاديش وهم في حالة بين الحياة والموت، وقابلتهم السلطات البنغالية بالرفض.
وعلى الرغم من مناقشة قضية الأراكانيين الروهنجيين المسلمين من قبل الأمم المتحدة، ومنظمة آسيان، ومنظمة المؤتمر الإسلامي منذ عقدين؛ إلا أنه لم يكن لها أدنى أثر، بل ازداد وضعهم سوءًا كما هو الواقع.
فلا إله إلا الله -يا مسلمون- أين نحن من إخواننا؟! أين نحن من هذه الجراح والآلام؟!
لا مجال للأنانية في هذا الدين، هذا الدين العظيم الذي لم تعرف ولن تعرف البشرية دينًا يحث على التكاتف والتعاون والتلاحم مثله.
هذا الدين الذي من أعظم أصوله الجماعة والاجتماع والتآلف والحُنُوّ والمؤازة والنصرة، فأين نحن من هذه المعاني السامية، التي بها يعتلي العبد عن سفاسف الأمور، ويشعر أن في وجوده في هذه الحياة منفعةً للمسلمين، وأنه لبنة في صرح رفعة هذه الأمة؟!
قال -جلّ في علاه-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
وقال -تقدست أسماؤه-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 72، 73].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تستمعون إليه وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحابته وإخوانه.
وبعد أن تجوّلنا في دياجير هذه المأساة الحالكة بين هذه الدماء والجراح والأعراض المُنتَهَكَة والألوف المهجّرة وبحور من الدموع المنسكبة التي لم تجد من يكفكفها.
أين نحن -يا عباد الله- من هذا كله؟! أين نحن من قوله -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلَ الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وأين نحن من قوله -صلى الله عليه وسلم- الذي في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
عباد الله، أحبتي في الله: ها قد أتاكم موسم الزرع، وها قد دقّت أبْوابَكُم قوافل العمل الصالح.
فالله الله لا تدعوا الفرصة تفوتكم، فهذا وقت البذل والعطاء، وهذا وقت التشمير والإقبال على الله بما تجود به أنفسكم، كلٌّ بحسبه، وكل بقدر طاقته ومقدوره من صدقة، وبذل للمال، والصدقات، والزكوات، والدعاء والنصرة لقضيتهم بإثارتها ونشرها في مختلف وسائل الإعلام، المرئية والمسموعة والمكتوبة.
وإياكم أن تفوتكم ولم تضربوا في هذه المأساة بسهم، بل وفي كل مآسي أمتنا، قال الله -جلّ في علاه-: (وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الهُت الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الحديد: 8-12].
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر الطغاة والزنادقة والملحدين، اللهم احم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم كن لإخواننا في بورما مؤيدًا وظهيرًا ومعينًا ونصيرًا، اللهم استر عوراتهم، وآمن روعاتهم، واحفظ أعراضهم، واحقن دماءهم، وواسِ مصابهم، اللهم عليك بعدوّك وعدوّهم، واجعل دائرة السوء على البوذيين الوثنيين المشركين يا رب العالمين.
اللهم عليك بطاغية الشام وأعوانه، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم شتِّت شملهم، وفرّق جمعهم، وخالف بين كلمتهم، واجعل دائرة السوء عليهم يا ربّ العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في الشام وفي كلّ مكان، اللهم سدّد رميهم، ووحّد صفوفهم، وانصرهم على عدوّك وعدوهم يا قوي يا عزيز.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.