الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | حسين بن حسن أحمد الفيفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصلاة |
إن قيام الليل هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم وذنوبهم، ويسألونه من فضله، فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات...
عباد الله: إن قيام الليل ومناجاة الواحد الأحد في وقت لا يراك فيه ولا يسمعك إلا هو سبحانه: من أعظم الأسباب التي تقرب من الله سبحانه؛ فإن في ذلك تربية للنفس وتعويدًا لها على مراقبته سبحانه.
إن قيام الليل هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين؛ ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم وذنوبهم، ويسألونه من فضله، فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات، إنه شرف المؤمن الذي لا يعدله شرف.
قال البخاري في صحيحه: "باب: فضل قيام الليل"، ثم أورد بسنده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: كان الرجل في حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وكنت غلامًا شابًّا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر فقال لي: لم ترع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "نِعمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل"، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً.
والشاهد قوله –صلى الله عليه وسلم-: "نِعمَ الرجلُ عبد الله لو كان يصلي من الليل"، فمقتضاه أن من كان يصلي من الليل يوصف بكونه نِعمَ الرجل، وفي الحديث كذلك أن قيام الليل يكون سببًا في دفع العذاب والنجاة من النار.
وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها"، فقيل: لمن يا رسول الله؟! قال: "لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا والناس نيام". رواه الطبراني والحاكم وصححه الألباني، وقال أيضًا: "أتاني جبريل فقال: يا محمد: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس". رواه الحاكم والبيهقي وحسنه المنذري والألباني.
إن قيام الليل يرقق القلب، وهذا مما يجعل المسلم يخشع في صلاته ويقبل عليها، والنبي –صلى الله عليه وسلم- قد حثّ على قيام الليل ورغّب فيه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد". رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
وقال أيضًا حاثًّا أمته على قيام الليل حتى ولو كان جزءًا قليلاً من الليل، وبين أن القيام سبب لطرد الغفلة عن القلب، فعن عبد الله بن عمرو -رضوان الله عليهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين". رواه أبو داود وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (635). والمقنطرون هم الذين لهم قنطار من الأجر، والقنطار هو العدد الكثير، وحدده بعض أهل العلم بأنه ما كان أكثر من الألف. وفي رواية أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا آتاه، وذلك كل ليلة".
وذكر عند النبي –صلى الله عليه وسلم- رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه". متفق عليه.
وقال مبينًا فضيلة قيام الليل وأنه أفضل الصلاة بعد الفرائض: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". رواه مسلم. وعن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- أنه أخبر أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- طرقه وفاطمة بنت النبي –صلى الله عليه وسلم- ليلة فقال: "ألا تصليان؟!"، فقلت: يا رسول الله: أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يُرجع إليَّ شيئًا، ثم سمعته وهو مولٍّ يضرب فخذه وهو يقول: (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف: 54]. رواه البخاري.
قال ابن بطال: "يدل الحديث على فضيلة قيام الليل وإيقاظ النائمين من الأهل والقرابة؛ لذلك قال الطبري: لولا ما علم النبي –صلى الله عليه وسلم- من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان يزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلقه سكَنًا، لكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة".
ولقد أمر الله تعالى نبيه بقيام الليل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل: 1-4]، وقال سبحانه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء: 79].
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا -يا رسول الله- وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!". متفق عليه.
وهذا يدل على أن الشكر لا يكون باللسان فحسب، وإنما يكون بالقلب واللسان والجوارح، فقد قام النبي –صلى الله عليه وسلم- بحق العبودية لله على وجهها الأكمل وصورتها الأتم، مع ما كان عليه من نشر العقيدة الإسلامية وتعليم المسلمين والجهاد في سبيل الله، والقيام بحقوق الأهل والذرية، فكان كما قال ابن رواحة:
وفينا رسول الله يتلـو كتابه
وعن حذيفة –رضي الله عنه- قال: "صليت مع النبي ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مُتَرَسِّلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوّذ تعوذ...". الحديث. رواه مسلم.
وعن ابن مسعود قال: "صليت مع النبي –صلى الله عليه وسلم- ليلةً، فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء"، قيل: ما هممت؟! قال: "هممتُ أن أجلس وأَدَعَهُ". متفق عليه.
قال ابن حجر: "وفي الحديث دليل على اختيار النبي تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود قويًّا محافظًا على الاقتداء بالنبي، وما همّ بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده".
لذلك قال الحسن البصري: "لم أجد شيئًا من العبادة أشدّ من الصلاة في جوف الليل".
وقال أبو عثمان النهدي: "تضيّفت أبا هريرة سبعًا، فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثًا، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا".
وكان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى، ثم يقول: "اللهم إن جهنم لا تدعني أنام، فيقوم إلى مصلاه".
وكان طاوس يثب عن فراشه، ثم يتطهر ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: "طيَّر ذكرُ جهنم نومَ العابدين".
وكان زمعة العابد يقوم فيصلي ليلاً طويلاً، فإذا كان السحر نادَى بأعلى صوته: "يا أيها الركب المعرِّسون، أكُلَّ هذا الليل ترقدون؟! ألا تقومون فترحلون؟! فيسمع من ها هنا باكٍ، ومن ها هنا داع، ومن ها هنا متوضّئ، فإذا طلع الفجر نادى: عند الصباح يحمد القوم السرى".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
وإن مما يعين على قيام الليل أسبابًا، نذكر منها:
استشعارك أن الله الجليل يدعوك للقيام، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "يتنزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فاستجيب له؟! من يسألني فأعطيه؟! من يستغفرني فأغفر له؟!". رواه مسلم.
واستشعار أن الحبيب –صلى الله عليه وسلم- يدعوك إلى القيام، عن عبد الله بن سلام –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". رواه أحمد والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم.
واستشعار أن الله -عز وجل- يرى ويسمع صلاتك له بالليل، عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "عجب ربنا من رجلين: رجل ثار -أي: قام- عن وطائه -أي: فراشه- ولحافه، من بين أهله وحِبّه إلى صلاته -أي: القيام-، فيقول الله -جل وعلا-: أيا ملائكتي: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من حِبّه وأهله إلى صلاته؛ رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي". رواه أحمد وحسنه الألباني في صحيح الترغيب.
ومما يعين على القيام النوم على الطهارة، عن عبد الله بن عباس -رضوان الله عليهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "طهروا هذه الأجساد طهركم الله، فإنه ليس عبد يبيت طاهرًا إلا بات معه في شعاره -وهو الثوب الذي يلي الجسد مباشرة- ملك، لا يتقلّب ساعة من الليل إلا قال -أي الملك-: اللهم اغفر لعبدك؛ فإنه بات طاهرًا". رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3831).
معرفة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان لا يترك القيام حتى في المرض، عن عبد الله بن أبي قبيس –رضي الله عنه- قال: قالت لي عائشة -رضي الله عنها-: "لا تدع قيام الليل؛ فإن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان لا يدعه -أي: لا يتركه-، وكان إذا مرض أو كسِل صلى قاعدًا". رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة، وقال الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
عدم السهر بعد العشاء؛ عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يجدب لنا -أي: يكره ويعيب- السمر بعد العشاء". رواه أحمد وابن ماجه، وحسن إسناده الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
إدراك أن القيام سبب للفوز بالحور الحسان، قال أزهر بن ثابت التغلبي -رحمه الله تعالى-: "كان أبي من القوامين لله في سواد الليل، فقال أبي ذات مرة: رأيت في منامي امرأة لا تشبه نساء الدنيا، فقلت لها: من أنت؟! فقالت: حوراء أمة الله، فقلت لها: زوجيني نفسك، فقالت: اخطبني إلى سيدي وأمهرني، فقلت لها: وما مهرك؟! فقالت: طول التهجد".
النوم على نية القيام للصلاة، عن أبي ذر أو أبي الدرداء -رضي الله عنهم- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عبد يحدث نفسه بقيام ساعة من الليل فينام عنها إلا كان نومه صدقة تصدق الله بها عليه، وكتب له أجر ما نوى". رواه مالك وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5567).
معرفة أن الله تعالى يباهي بقائم الليل الملائكة، قال الإمام الحسن البصري -رحمه الله-: "إذا نام العبد ساجدًا -أي: في القيام- باهى الله به الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي، يعبدني وروحه عندي وهو ساجد".
ومعرفة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان لا يترك القيام في أرض الجهاد؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنهم- "أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى صلى وانصرف إليهم". رواه أحمد وصححه المنذري في الترغيب والترهيب.
معرفة مدى اجتهاد السلف -رضي الله عنهم- في قيام الليل، عن أم سعيد بن علقمة -رحمها الله تعالى- قالت: "كان داود الطائي -رحمه الله- جارًا لنا، فكنت أسمع بكاءه عامة الليل لا يهدأ، ولربما ترنَّم في السَّحَر بشيء من القرآن، فأرى أن جميع نعيم الدنيا في ترنيمه تلك الساعة".
يـا رجالَ الليـل جِدّوا
ألا وصلّوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم...