الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إنها قلوب رخيصة جداً، لا وزن لأصحابها عند الله وعند الناس، قد آثرت الحياة الدنيا على الآخرة، ورضيت بمتاعٍ زائل، وشهوةٍ عابرة، ولذَّةٍ منقضية؛ وتركت نعيماً لا ينفد، وخيراً لا ينقضي، ورضواناً من الله أكبر؛ إنها رخيصة فيما تحمل من قيم ومبادئ، رخيصة في غايتها وأهدافها، قال -تعالى-: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة:8].
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحا لذكره، وسببا للمزيد من فضله؛ جعل لكل شيء قدرا، ولكل قدر أجلا، ولكل أجل كتابا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تزيد في اليقين، وتثقل الموازين؛ وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته، بعثه بالنور المضيء، والبرهان الجلي، فأظهر به الشرائع المجهولة، وقمع به البدع المدخولة، وبين به الأحكام المفصولة. صلى الله عليه، وعلى آله مصابيح الدجى، وأصحابه ينابيع الهدى، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: عبــــــاد الله: القلب أمير البدن بلا منازع، كل عضو في البدن، وكل خلية فيه بحاجة إليه، حتى الدماغ، إذا قطع القلب الدم عنه مات بعد أربع دقائق، أما هو فمستقل بذاته، يضخ دمه إلى خلاياه عبر شرايينه التاجية، وإذا قطع الدماغ عنه سيالته العصبية، أمر العقد العصبية المنبثّة في عضلته فقامت بوظيفة الدماغ واستغنى عنه.
وينبض القلب في الدقيقة الواحدة وسطيا سبعين مرة، ويضخ خمسة لترات من الدم. وفي اليوم الواحد ينبض مائة ألف نبضة تقريبا، ويدفع مائتين وسبعة آلاف لترٍ من الدم، وإذا عاش الإنسان سبعين عاما، فإن القلب يكون قد نبض حوالي ثلاثة ألف مليون، وضخ حوالي مائتي مليون لتر من الدم طوال تلك المدة.
والقلب هو العضلة الوحيدة التي لا تتوقف عن العمل طوال حياة الإنسان، ونحن نرى في هذا العصر تطورا هائلا في جراحة القلب البشري، حتى كان من آخر ذلك ما نسمع عن زراعة القلب ونقله، مع زراعة الصمامات، مع الدقة المتناهية في تحديد الأمراض الحسية التي تنتـاب القلب، وبيان طرق معـالجتهـا وتشخيصها.
فإذا كان القلب بهذه الأهمية، وعليه تقوم حياة الإنسان؛ فإنه كذلك له الأهمية الكبرى والدور الأعظم في سعادة الإنسان وراحته في الدنيا والآخرة، فرسالات الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه- ما جاءت إلا لتعالج القلوب وتدعوها إلى أسباب صلاحها وحياتها، وتحذرها من طرق الفساد وسبل الغي والانحراف.
وكانت رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- للقلوب أولاً، فملأتها بالحياة الإيمانية، وبثت فيها التوحيد الخالص لله رب العالمين، وغرست فيها فضائل الأخلاق وقيم الخير، فقد أمر -سبحانه وتعالى- بتطهير القلب، وتنقيته، وتزكيته، بل جعل الله -سبحانه وتعالى- من أعظم غايات الرسالة المحمدية تزكية الناس، وقدمها على تعليمهم الكتاب والحكمة لأهميتها، يقول الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة:2]، والتزكية لا تكون إلا للقلب.
ويقول -سبحانه وتعالى- عن اليهود والمنافقين: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [ المائدة،:41].
وتقوى الله ومخافته وتعظيمه لا تكون إلا في القلوب، قال -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]، فالقلب التقي الورع يحرص صاحبه كل الحرص على الالتزام بأوامر الله في كل أحواله.
ولقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك فقال: "التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا"، ويشير إلى صدره وهو موضع القلب. رواه مسلم. وقال -تعالى-: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة:283].
وإن بناء المجتمع، وتآلف الأفراد، واجتماع الناس، ونبذ الفرقة والعصبية والجاهلية والظلم والتعدي، لا يكون حقيقة واقعة تعيشها المجتمعات إلا إذا صدقت القلوب، وصلحت أحوالها، وعلم الله إخلاصها، قال -تعالى-: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103].
ويقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولصحابته وللمؤمنين: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:62-63].
والقلب هو الذي يفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، والحلال والحرام؛ وعندما ينحرف الإنسان عن الطريق الصحيح فإن ذلك دليل على فساد قلبه، قال -تعالى-: ( وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46].
أيها المؤمنون: عباد الله: لقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم الكثير من الشواهد والقصص ليبين أهمية القلب وعمله وأثره في حياة الإنسان سلباً وإيجاباً، قال -تعالى-: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [القلم:17-33].
فسبحان الله! مجرد الإضمار في القلب والنية لعمل المنكر وفساد المقصد سبب للهلاك في الدنيا! فكيف بمن يفعل ذلك؛ بل ويمارس المنكر، ويرتكب المحرمات في واقع الحياة؟ لذا كان من الواجب على كل مسلم أن يتعاهد قلبه بالإيمان والعمل الصالح؛ فيحصل الأمن النفسي والاطمئنان بالله، فتجد هذه القلوب صابرة عند الشدائد، ثابتة مرابطة عند الابتلاءات، لا ترتاب ولا تنحرف ولا تضل ولا تضجر؛ وزادها في ذلك كثرة الذكر والدعاء، قال -تعالى-: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
وعلى المسلم تصفية قلبه من أمراض القلوب، كالنفاق والحقد والحسد والكبر والبغض والكراهية والقسوة؛ فالله -سبحانه وتعالى- لا ينظر إلى الصور والأجساد؛ بل ينظر إلى القلوب والأعمال، ويُجازي عليها، فلا تجعل محل نظر الله إليك هو أخبث الأماكن وأكثرها جرماً؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا, ولا تباغضوا ولا تدابروا, ولا يبع بعضكم على بيع بعض, وكونوا عباد الله إخوانًا، والمسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره-، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا".
وقال -تعالى- مبيناً أهمية القلب في حياة الإنسان وأنه محل سؤال الله يوم القيامة: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36].
وربط الله -سبحانه وتعالى- النجاة يوم القيامة بسلامة القلوب: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]. والقلب السليم هو القلب السالم من الشرك والغل والحقد والحسد وغيرها من الآفات والشبهات والشهوات المهلكة.
ويقول -جل وعلا-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) [ق:31-33].
وعندما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان"، قالوا: صدوق اللسان نعرفه؛ فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" رواه ابن ماجة.
يا لروعة هذه القلوب! كيف جعلت من أصحابها أفضل الخلق عند الله وعند رسوله؛ بل وعند الناس جميعاً!.
ولقد كان أعظم هذه القلوب صفاء وأوسعها رحمة وليناً ورفقاً وحلماً هو قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه ربه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].
يأتي إليه زيد بن سعنة وهو أحد أحبار اليهود ومن تجارهم وهو في مسجده -صلى الله عليه وسلم- جاء ليأخذ المال الذي كان قد أخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سَلَفَاً منه، ولم يكن قد حان موعد السداد، فقال: يا محمد -وقد أخذ بثوب النبي يشده-، أعطني مالي، إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطْلٌ! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أما أعطيتني المال إلى أجل؟"، قال: لا، أريد مالي. فنظر إليه عمر بن الخطاب وقال: يا رسول الله، دعني أقطع عنقه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لقد كنت أنا وهو في حاجة منك إلى غير ذلك، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الاقتضاء".
ثم أخذ اليهودي يرفع صوته، فأخذ -صلى الله عليه وسلم- يتبسم، وكلما رفع صوته تبسم، فأخذه -صلى الله عليه وسلم- من يده، وذهب به إلى بيته، فأعطاه ماله وزاده؛ فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله ما جئت من أجل دينار ولا درهم! لكني قرأت أوصافك في التوراة فرأيتها فيك، غير أنك إذا أُغضبت ازددت حلماً، وقد رأيتها اليوم.
عبـــــاد الله: ضرب الصحابة -رضي الله عنهم- أروع الأمثلة في سلامة القلوب وطهارة الصدور، فكان لهم من هذه الصفة أوفر الحظ والنصيب، فلقد كانوا -رضي الله عنهم- صفاً واحداً، يعطف بعضهم على بعض، ويرحم بعضهم بعضاً، ويحب بعضهم بعضاً كما وصفهم -جل وعلا- بذلك حيث قال: (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9]، وكما قال -جل ذكره- في وصفهم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً) [الفتح:29].
ولقد كان لسلامة قلوبهم منزلة كبرى، حتى إنهم جعلوها سبب التفاضل بينهم، قال إياس بن معاوية بن قرة عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدراً، وأقلهم غيبة"، وقال سفيان بن دينار لأبي بشر، أحد السلف الصالحين: أخبرني عن أعمال مَن كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً. قال سفيان: ولم ذاك؟ قال أبو بشر: لسلامة صدورهم.
وهذا ابن عباس -رضي الله عنهما-، يقول: "إني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلدًا من بلدان المسلمين فأفرح به، ومالي به سائمة".
إنَّ رقة القلب وسلامة الصدر نعمة من أجَلِّ النعم وأعظمها، وما من قلب يُحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعوداً بعذاب الله، فقد قال -سبحانه-: ( فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر:22]، وما رق قلب لله وانكسر إلا كان صاحبه سابقاً إلى الخيرات، مشمراً إلى الطاعات.
وإنه لينبغي علينا جميعاً حتى نعيش حياة طيبة آمنة يسود فيها الحب والتعاون والتآخي، وينتشر فيها المعروف، وتغلب فيها مصالح الأمة على المصالح الشخصية حتى وإن اختلف الناس في تطلعاتهم وأفكارهم وطرق حياتهم، إن أردنا ذلك، يجب أن تكون لدينا جميعاً قلوب حية تقية ورعة تخاف الله وترجو الآخرة، قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [لأنفال:2].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطـبة الثانية:
عباد الله: عندما تغيرت القلوب، وفقدت الزاد الإيماني والروحي، وطغت المادة على حياتنا، تجرأ كثير من الناس على حدود الله وحرماته فانتهكوها وجاهروا بالمعاصي، واستطال المسلم في عرض أخيه، وبغى عليه لأتفه الأسباب؛ بل وسفكت الدماء، وأزهقت الأرواح جماعات وأفرادا، وظهر الحقد والحسد والغدر والخيانة، وحدث الركون إلى الذين ظلموا، وضاقت الحياة على الأسرة الواحدة في البيت الواحد، وما بين الإخوان والجيران، ونشب الصراع والتنافس المقيت على الدنيا وأموالها ومناصبها وشهواتها، وحل التقاطع والهجران بين الناس أياما وشهورا وسنوات.
فإذا لم نتدارك أخطاءنا وتقصيرنا، ولم تستجب القلوب للأمر الرباني، ولم تتربَّ على الزاد الإيماني، ولم تتعظ بما يجري حولها، ولم تستفد من دروس التاريخ وأحداث الزمان؛ استمر شقاؤها، وزادت تعاستها، ثم يأتي بعد ذلك أمر الله بهلاكها، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:42-45].
بل ظهرت سلوكيات وأقوال وأفعال من بعض من ينتسبون إلى هذه الأمة في كثير من بلاد المسلمين تدعو إلى الاستغراب، والعجب العجاب؛ خيانة للأمة، وقدحاً في دينها وعقيدتها.
وثمة عمل دؤوبٌ في إثارة المشاكل والخلافات بين أبنائها، تارة باسم الدين، وتارة باسم الوطنية، وتارة باسم الحرية والتمدن والحضارة، يطمسون كل جميل، وينشرون كل رذيلة؛ قال -تعالى-: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران:118].
وقد حذر -سبحانه- من طاعتهم، والانقياد لأهوائهم، والاستماع لأقوالهم؛ لأن قلوبهم لاهية غافلة قد طبع الله عليها، قال -تعالى-: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
إنها قلوب رخيصة جداً، لا وزن لأصحابها عند الله وعند الناس، قد آثرت الحياة الدنيا على الآخرة، ورضيت بمتاعٍ زائل، وشهوةٍ عابرة، ولذَّةٍ منقضية؛ وتركت نعيماً لا ينفد، وخيراً لا ينقضي، ورضواناً من الله أكبر؛ إنها رخيصة فيما تحمل من قيم ومبادئ، رخيصة في غايتها وأهدافها، قال -تعالى-: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة:8].
أيها المؤمنون: عبــــــاد الله: إن الناس في أي مجتمع من المجتمعات قد يختلفون في كثير من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذه سنة الله، والله خلقهم كذلك، وإن أصحاب القلوب السليمة ليدركون أن هذا الاختلاف لا يكون على حساب ثوابت هذه الأمة ودينها وعقيدتها ومصالحها ووحدتها، وإنما يكون الاختلاف في وجهات النظر حول إدارة البلاد، وبرامج العمل، وأساليبه، وطرق التنافس من أجل أداء أفضل يثمر في واقع الأمة؛ فإذا ما حدث تقصير وانحراف كان للأمة والشعوب الحق في المطالبة والتغيير والبحث عن الأفضل وفق القوانين والأساليب المتفق عليها من الجميع، فتختلف الرؤى ولا تختلف القلوب، ولا تتغير النفوس، ولا يظهر الحقد والبغي والأنانية.
وانظر إلى الأمم من حولنا في الشرق والغرب، في أمريكا وأوربا واليابان وكوريا وغيرها من البلاد، تجد أنه ما من دولة أو أمة من الأمم إلا وبين أبنائها وفئاتها من الاختلافات الشيء الكثير، لكنها استطاعت أن توظفها في بناء مجتمعاتها وتطورها، والحفاظ على وحدتها وقوتها.
حتى في إسرائيل، ذلك العدو المتاخم القريب، فيه: اليمين المعتدل، واليمين المتطرف، واليسار، والصقور، والحمائم، والأحزاب المختلفة التي تجتمع كلها في "الكنيست"، وتوظف تلك الخلافات لمصلحة حاضر هذا الكيان الصهيوني ومستقبله؛ فالكل يختلف، لكن هذا الاختلاف يصب في مصلحة البلاد والوطن والأمة؛ فيربح الجميع.
فكيف يمكن أن نختلف في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أفراداً وجماعات وأحزاباً وفئات ونربح جميعاً دون أن نخسر علاقاتنا ومصالحنا وثوابتنا؟ ودون أن يتعطل الإنتاج، ويتوقف العمل وتتضرر البلاد، ويذهب الأمن، وتختفي المودة.
إن الإمام في المسجد يذكرنا في كل صلاة في اليوم خمس مرات ويحذرنا من اختلاف القلوب، وهذا ما كان يفعله رسول الله ويذكر به أمته لخطورة الأمر وأثره في حياة الأمة؛ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: "اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا؛ فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" رواه مسلم.
ولن يضيع الله أعمالكم، ولن يخيب ظنكم، ولن يرضى لعباده إن صدقوا معه وأنابوا إليه إلا كل خير، ولا بد أن تكون لدينا ثقة بالله وفضله وكرمه.
فاللهم سلِّم قلوبنا من كل غفلةٍ، وبعِّد قلوبنا عن كلِّ جفوة، واجعلنا من عبادك الذاكرين، واجعل قلوبنا ليِّنةً بطاعتك، هانئة مطمئنة بحسن عبادتك، واكتبنا من الصالحين.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين ...