الشهيد
كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أهل السنة والجماعة |
ومع ما في الذنب من مكروه، وأثر سيء على العبد، إلا أن العبد حين يتأمل في هذا الأمر يجد أن من ورائه حِكَماً عظيمة، وأسراراً جليلة، تُطْلع العبد على شيء من معاني اسم الله الحكيم في ابتلاء العبد بالذنب والمعصية، وتخليته بينه وبينها، ومن تلك الحكم: أنه -سبحانه وتعالى- يحب التَّوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة. ومنها: تعريف العبد عزة الله -سبحانه- في قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه، وتعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد،...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلا | تباركت تعطي من تشاء وتمنع |
إلهي وخلاقي وحرزي وموئلي | إليك لدى الإعسار، واليسرِ أفزع |
إلهي لئن جلت وجمَّت خطيئتي | فعفوك عن ذنبي أجل وأوسع |
أيها المسلمون:
إن الله -تعالى- مُذْ قضى على أبينا آدم وزوجه إلى الأرض -بعد تلك المعصية -، وعدوّه اللعين قد شمَّر كل التشمير في إيقاع الذرية فيما أوقع فيه أباهم وزوجه من خطيئة، وكان من أعظم ما أغاظ هذا العدو ما فتحه الرحمن الرحيم من أبواب رحمته، وما شرعه من مصاريع التوبة مهما بلغت الذنوب كثرةً وعظمة، حتى نادى بكل رحمة وعطف أولئك الذين ثلّثوا في ربوبيته فقال لهم: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 74]، فالمذنبون بعدهم من باب أولى.
ومع ما في الذنب من مكروه، وأثر سيء على العبد، إلا أن العبد حين يتأمل في هذا الأمر يجد أن من ورائه حِكَماً عظيمة، وأسراراً جليلة، تُطْلع العبد على شيء من معاني اسم الله الحكيم في ابتلاء العبد بالذنب والمعصية، وتخليته بينه وبينها، ومن تلك الحكم:
- أنه -سبحانه وتعالى- يحب التَّوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة.
ومنها: تعريف العبد عزة الله -سبحانه- في قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه، وتعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد، والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق.
ومنها: استجلابه من العبد استعانته به، واستعاذته به من عدوه وشر نفسه ودعائه والتضرع إليه والابتهال بين يديه، وتكميل مقام الذل والانكسار، فإن العبد متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه وظن أنه وأنه..، فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسه وذلّ وتيقن وتمنى أنه وأنه..، وبهذا الابتلاء بالذنب يعرف العبدُ حقيقة نفسه وأنها الخطاءة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله، منَّ به عليه، لا من نفسه.
ومنها: أن الله قد يبتلي عبده بالذنب ليعرفه سعة حلمه وكرمه في ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب، ولهتكه بين عباده فلم يصفُ له معهم عيش.
ومنها: تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته، وتعريفه كرم مولاه في قبول توبته، ومعرفته له على ظلمه وإساءته.
ومنها: إقامة الحجة على عبده، فإن لله عليه الحجة البالغة، فإن عذَّبه فبعدله، وببعض حقه عليه، بل اليسير منه.
ومنها: أن يعامل هذا العبدُ المُذنب عباد الله في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يحب أن يعامله الله به، فإن الجزاء من جنس العمل، فيعمل في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه، وأن يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم، مع إقامة أمره الله فيهم، فيقيم أمر الله فيهم رحمة لهم، لا قسوة وفظاظة عليهم.
ومنها: أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبدل برقة ورأفة ورحمة، وأن يعريه من رداءِ العجب بعمله، ويُعرِّيه من لباس الإدلال والعُجْب الذي يصلح للملوك، ويُلْبِسَه مولاه -سبحانه- لباس الذل الذي لا يليق بالعبد سواه.
ومنها: أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم.
ومنها: أن يستخرج منه مولاه محبته وشكره لربه - إذا تاب إليه ورجع إليه -؛ فإن الله يحبه، ويوجب له بهذه التوبة مزيد محبةٍ وشكرٍ ورضا، لا يحصل بدون التوبة.
ومنها: أن العبد إذا شهد إساءته وظلمه، واستكثر القليل من نعمة الله - لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسيء مثله - استقلّ الكثير من عمله؛ لعلمه بأن الذي يصلح له أن يغسل به نجاسته وذنوبه أضعافَ أضعافِ ما يفعله، فهو دائماً مستقل لعمله كائناً ما كان، ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافياً.
ومنها: أنه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدو ومكايده، ويعرفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه! كالطبيب الذي ذاق المرض والدواء.
ومنها: أنه يرفع عنه حجاب الدعوى، ويفتح له طريق الفاقة فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق أقرب من العبودية، فإن دوام الفقر إلى الله مع التخليط خير من الصفاءِ مع العجب.
ومنها: أن العبد تكون في قلبه أَمراض مزمنة لا يشعر بها، فيطلب دواءَها فيَمُنُّ عليه اللطيف الخبير، ويُقضى عليه بذنبٍ ظاهر، فيجد أَلم مرضه، فيحتمي ويشرب الدواءَ النافع، فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها، كما قيل:
لعل عتبك محمود عواقبه | وربما صحت الأجسام بالعلل |
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ،ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ، وبعد:
ومن الحكم في ابتلاء العبد بالذنب: أن يذيقه ألم الحجاب والبِعاد بارتكاب الذنب؛ ليكمّل له نعمته أو فرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه وجمعيته عليه، وأَقَامه في طاعته؛ فيكون التذاذه في ذلك- بعد أن صدر منه ما صدر- بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال، والشديد الخوف بالأمن، والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه.
وإن لطف الرب وبره وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا، فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربه ومحبته!
ومنها: امتحان العبد واختباره: هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا؟ فإنه إذا وقعَ الذنبُ، سلبَ حلاوة الطاعة والقرب، ووقع في الوحشة، فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة، فحنت وأنَّت، وتضرعت واستعانت بربها ليردَّها إلى ما عودها من بره ولطفه، وإن ركنتْ عنها واستمر إعراضها، ولم تحن إلى تعهدها الأول ومأْلفها، ولم تحس بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها؛ عُلِمَ أنها لا تصلح لله.
ومنها: أن ينسيه رؤية طاعته، ويشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه، فإن الله إذا أراد بعبد خيراً سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه، والإخبارَ بها من لسانه، وشَغَلَه برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تُقُبِّلَ من الأعمال رفع من القلب رؤيته ومن اللسان ذكره.
ومنها: أن تذكُّره لذنبه وخطيئته، يوجب له أن لا يرى له على أحد فضلاً، ولا له على أحد حقاً، فإنه إذا شهد عيب نفسه بفاحشة، وخطأها وذنوبها لا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على الناس حقوقاً من الإِكرام يتقاضاهم إياها ويذمهم على ترك القيام بها، فإنها عنده أخس قدراً وأقل قيمة من أن يكون لها على عباد الله حقوق يجب مراعاتها، أو لها عليهم فضل يستحق أن يلزموه لأجله.
فيرى أن من سلم عليه أو لقيه بوجه منبسط قد أحسن إليه وبذل له ما لا يستحقه، فاستراح في نفسه واستراح الناس من عتبه وشكايته فما أطيب عيشه وما أنعم باله وما أقر عينه! وأين هذا ممن لا يزال عاتباً على الخلق شاكياً ترك قيامهم بحقه ساخطاً عليهم وهم عليه أسخط؟ فسبحان ذي الحكمة الباهرة التي بهرت عقول العالمين.
ومنها: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه في شغل بعيبه ونفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسى عيبه وتفرغ لعيوب الناس، فالأَول علامة السعادة، والثاني علامة الشقاوة.
- ومنها: أنه يوجب له الإِحسان إلى الناس والاستغفار لإخوانه الخاطئين من المؤمنين فيصير هجِّيراه ودعاؤه: ربِّ اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، فإنه يشهد أن إخوانه الخاطئين يصابون بمثل ما أُصيب به، ويحتاجون إِلى مثل ما هو محتاج إليه، فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يحب أن يستغفر هو لأخيه المسلم.
- ومنها: أنه يوجب له سعة إبطائه وحلمه ومغفرته لمن أساء إليه، فإنه إذا شهد نفسه مع ربه -سبحانه- مسيئاً خاطئاً مذنباً- مع فرط إحسانه إليه وبره وشدة حاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين وهذا حاله مع ربه- فكيف يطمع أَن يستقيم له الخلق ويعاملوه بمحض الإحسان، وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته في كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك! وهذا يوجب أن يغفر لهم ويسامحهم ويعفو عنهم، ويغضي عن الاستقصاءِ في طلب حقه قبلهم.
إلهي أجرني من عذابك إنني | أسيرٌ ذليلٌ خائفٌ لك أخضع |
إلهي أذقني طعم عفوك يوم لا | بنون ولا مال هنالك ينفع |
إلهي أَنِلْنِي مِنْكَ روحا وَرَحْمَة ً | فَلَسْتُ سوى أَبْوَابِ فَضْلِكَ أَقْرَعُ |
إلهي لئن أقصيتني أو طردتني | فما حيلتي يا رب أم كيف أصنع؟ |
إلهي فإن تعف فعفوك منقذي | وإلا فبالذنب المدمر أصرع |
إلهيَ فانشرني على دين أحمد | تقيًا نقيًا قانتًا لك أخشع |
_______
جُلُّ هذه الخطبة ملخَّصة من كلام ابن القيم في طريق الهجرتين: (169) وما بعدها.