الملك
كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...
العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
هذه المواقِعُ التي كادَ كثيرٌ منها أن يغدُوَ سببًا للتدابُرِ والتقاطُعِ بما يشيعُ فيها من إذاعةِ أسرارٍ، واقتِحامٍ للخُصوصيَّاتِ؛ بتتبُّع العورات، ونشرِ العيوبِ والزلاَّت، وبثِّ الأخبار المكذوبة، والشائعات المُغرِضة، والتعليقات والتعليلات والتغريدات التي لا إِمامَ لها ولا خِطام، ولا مرجعيَّةَ لها غيرُ الأهواءِ والظُّنون والأوهام، لاسيَّما حين تصدُرُ عمَّن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكريم المنَّان، أحمده -سبحانه- حمدًا نرجُو به الرِّضوانَ والغُفران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كريمُ العطايا قديمُ الإحسان، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله المبعوثُ رحمةً للخلق من إنسٍ وجان، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبِه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واذكُروا أنكم موقوفُون بين يديه، (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) [النبأ: 40].
أيها المسلمون: إن من فضائل هذا الدينِ ومحامِدِه التي شهِدَ بها القاصِي والدانِي: تلك التشريعاتُ الفَذَّةُ التي أرسَى بها قواعِدَ المُجتمع الراشِد، وحفِظَ بها بناءَه، وحاطَه بأسوارٍ مَنيعةٍ عصِيَّةٍ على معاوِلِ الهَدم، وجعلَها قائِمةً على عقيدةٍ تغرِسُ في النفوس أن أساسَ الرابِطَة بين المؤمنين هي الأُخُوَّة في الدين؛ حيث قال ربُّنا -سبحانه-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المُسلمُ أخُو المُسلِم...". الحديث. أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.
وهي رابِطةٌ تُورِثُ الإخوةَ في الإسلام شُعورًا يبعثُ على ألا يرَى أحدٌ منهم نفسَه أحقَّ بالخير من أخيه؛ فهو يُحبُّ الخيرَ له كما يُحبُّه لنفسِه، مُستيقِنًا بأن إيمانَه لا يكمُلُ إلا بذلك، كما أخبر الصادقُ المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-: "لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه". أخرجه البخاري ومسلم -رحمهما الله- من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
وإذا كان مُقرَّرًا في العقول، مركوزًا في الفِطَر: محبَّةُ المرء حفظَ ما يعنِيه ويختصُّ به من أمورِه وشُؤونِه وأسرارِه، بعيدًا عن تطفُّل المُتطفِّلين، واقتِحامِ المُقتحِمين، وكراهتُه كشفَ أستارٍ يضُرُّ به كشفُها أبلغَ ضررٍ، ويُوقِعُه في أشدِّ الحرَج، ويُعطِّلُ عليه مصالِحَه.
فقد جاءَت الشريعةُ المُكرَّمة بصَون هذا الحقِّ، وسدَّت كلَّ ذريعةٍ لاختراقِه بأيِّة وسيلةٍ، تجلَّى ذلك في نهيِ الله -عز وجل- المُؤمنين عن خُلُق التجسُّس، وحقيقتُه: ألا يترُك المُتخلِّقُ به عبادَ الله تحت سِتر الله؛ بل يسعَى إلى معرفة ما خفِيَ عليه من خاصِّ أحوالِهم -كما قال أهلُ العلم- حتى ينكشِفَ له ما لو كان مستورًا عنه كان أسلمَ لقلبِه ودينِه.
وجاء النهيُ عنه تاليًا للنهي عن سُوء الظنِّ بالمُسلِم؛ لأنه من ثمراتِه، فإن قلبَه -أي: قلب هذا المُتجسِّس- لا يكتفِي بالظنِّ؛ بل يحمِلُه ذلك إلى التحقُّق مما ظنَّ، فيشتغِلُ بالتجسُّس، فيحمِلُ وِزرَهما معًا.
ولذلك جاء النهيُ عنهما بقولِه -عزَّ اسمُه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 12].
قال ابنُ جريرٍ -رحمه الله-: "أي: لا يتَّبِع بعضُكم عورةَ بعضٍ، ولا يبحَث عن سرائِرِه يبتغِي بذلك الظهورَ على عُيوبِه، ولكن اقنَعوا بما ظهرَ لكم من أمره".
وجاء في الحديث الذي أخرجه البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تجسَّسُوا، ولا تحسَّسُوا، ولا تباغَضُوا، ولا تدابَرُوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا".
ومما يدخلُ في التجسُّس أيضًا -يا عباد الله-: أن يستمِعَ إلى حديثِ قومٍ بغير إذنٍ ولا رِضًا منهم بذلك؛ فقد توعَّدَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فاعِلَه بقولِه: "من تحلَّم بحلمٍ لم يرَه كُلِّفَ أن يعقِدَ بين شعيرتَيْن، ولن يفعَل، ومن استمعَ إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهون أو يفِرُّون منه صُبَّ في أُذنِه الآنُك -أي: الرَّصاص المُذاب- يوم القيامة". الحديث. أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، واللفظُ للبخاري.
وشرعَ اللهُ الاستِئذانَ عند دُخولِ البيوتِ حمايةً لهذا الحقِّ أيضًا، وصِيانةً وسترًا لعوراتِها، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النور: 27].
وبيَّن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حكمةَ هذا الاستِئذان والغايةَ من تشريعِه، فقال للذي اطَّلَع من جُحرٍ في حُجَر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعه -صلوات الله عليه وسلامه- مِدرَى يحُكُّ بها رأسَه، فقال: "لو أعلمُ أنك تنظُر لطعنتُ به في عينِك، إنما جُعِل الاستِئذانُ من أجل البصر". أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث سهل بن سعدٍ -رضي الله عنه-.
عباد الله: إنه إذا كان إيمانُ المرء لا يكمُلُ حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه، وحتى يكرَهَ له ما يكرَهُ لنفسِه؛ فإن أدنَى درجات ذلك: أن يُعامِلَ أخاه بما يُحبُّ أن يُعامِلَه به، ولا ريبَ أنه ينتظِرُ من أخيه أن يستُرَ عورتَه، ولا يكشِفَ عيبَه، وأن يتجاوزَ عن زلَّتِه.
فإذا كان على الضدِّ من ذلك -أي: لم يفعَل ذلك- لم يكُن مُنصِفًا لأخيه ولا مُحِبًّا للخير له، فيُوجِبُ ذلك ويُحدِثُ لرابِطة الأُخُوَّة فسادًا بيِّنًا لما صلَحَ من شُؤون الناس، وما استقامَ من ظاهر أحوالِهم، وتجرِئةً لهم على الإيغال في القبائِح بترك الحياء، ولذا حذَّر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقولِه لمُعاوية -رضي الله عنه-: "إنك إن اتَّبَعتَ عورات الناس أفسدتَّهم، أو كِدتَ أن تُفسِدَهم". أخرجه أبو داود في سُننه بإسنادٍ صحيحٍ.
كما أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن عقوبةَ من يتتبَّعُ العورات هي من جنسِ عملِه، بأن يُفتضَحَ في عُقر دارِه، فيخرُج إلى الناس ما هو خفِيٌّ عليهم ومستورٌ عنهم؛ ليذوقَ وبالَ أمره، ويُسقَى من نفسِ كأسِه. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشرَ من آمنَ بلسانِه ولم يخلُص الإيمانُ إلى قلبِه: لا تتَّبِعوا عورات المُسلمين؛ فإنه من تتبَّعَ عورةَ امرئٍ تتبَّعَ الله عورتَه، حتى يفضحَه ولو في جوفِ رحْلِه". أخرجه الترمذي في جامعه بإسنادٍ حسنٍ من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.
فاتقوا الله -عباد الله-، وحَذارِ من تتبُّع العورات حَذارِ؛ فإنه مثَلٌ صارِخٌ لانتِهاك الحُرُمات، وتنكُّرٌ لحقوق الأُخُوَّة في الله، وسبيلُ مذمَّةٍ وضعَةٍ وصَغارٍ يترفَّعُ عنه الأبرارُ المُتَّقون الأخيار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم الرحيم، أحمده -سبحانه- على فضلِه السابِغِ وخيرِه العَميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يدعُو إلى دار السلام ويهدِي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صاحبُ النَّهج الراشِدِ والخُلُق القَويم، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن ما جاء من وعيدِ من تتبَّع العورات لهُوَ وعيدٌ لا يصِحُّ أن يُسقِطَه من حسابِه كلُّ من اتَّخَذَ من هذا الخُلُق الذَّميم والخَصلَة المرذولة عادةً ودَيدَنًا له، وغايةً يسلُكُ إليها كلَّ سبيل، ويستعمِلُ فيها كلَّ وسيلةٍ، ويركَبُ لها كلَّ مركَب، ويجِدُ ضالَّتَه فيما وصَّلَه الإعلامُ الجديدُ من وسائلَ، وما أتاحَه للناس من مواقع للتواصُل.
هذه المواقِعُ التي كادَ كثيرٌ منها أن يغدُوَ سببًا للتدابُرِ والتقاطُعِ بما يشيعُ فيها من إذاعةِ أسرارٍ، واقتِحامٍ للخُصوصيَّاتِ؛ بتتبُّع العورات، ونشرِ العيوبِ والزلاَّت، وبثِّ الأخبار المكذوبة، والشائعات المُغرِضة، والتعليقات والتعليلات والتغريدات التي لا إِمامَ لها ولا خِطام، ولا مرجعيَّةَ لها غيرُ الأهواءِ والظُّنون والأوهام، لاسيَّما حين تصدُرُ عمَّن تُجهَلُ عينُه، ولا تُعرَفُ حالُه من الصِّدقِ والكذبِ وغير ذلك.
فإذا اجتمعَ إلى هذا: مقاطِعُ ومشاهِدُ وصُور تُؤذِي المُؤمنين، وتسُرُّ العابِثِين؛ كان الضررُ شديدًا، والبلاءُ عظيمًا، يُوجِبُ تنادِيَ العُقلاء إلى وضعِ الحُلول لدفعِ هذا الضَّرر، ورفعِ هذا البلاء بحُسنِ نظرٍ وحُسن تأمُّلٍ لنظَر ذلك، وشدَّة خطره في العاجِلِ والآجِلِ.
فاتقوا الله -عباد الله-، وتعاونوا على البرِّ والتقوى -كما أمرَكم ربُّكم-، ولا تعاونوا على الإثم والعُدوان.
ولتكُن هذه المواقِعُ سببًا للتواصُل، وسبيلاً للتواصِي بالحقِّ والتواصِي بالصبر، لا طريقًا للتدابُر والتقاطُع، وانتِهاك الحُرُمات، وتتبُّع العورات؛ فإنه يُغضِبُ ربَّ الأرض والسماوات.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتمِ رُسُل الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتابِ الله؛ حيث قال ربُّنا -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.