البحث

عبارات مقترحة:

الرب

كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...

الحليم

كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...

المتعالي

كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...

الشخصية العربية عوامل اضمحلالها وعناصر ازدهارها

العربية

المؤلف محمد الغزالي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. أسباب الاهتمام بدراسة الطبيعة العربية .
  2. استعراض نماذج من الأمم السابقة وأسباب هلاكها .
  3. ما الذي جعل الأعاجم يسودون؟! .
  4. خدمة المسلمين للإنسانية عبر تاريخها .
  5. برامج الردة الغربية في بلاد المسلمين .
  6. مصر هي العاصمة الثقافية للعالم الإسلامي .
  7. أدوار خبيثة للأقليات الدينية في مصر .

اقتباس

فقد اهتممت بدراسة الطبيعة العربية وتعرف خصائصها النفسية والفكرية، لم؟!...بينما يولد رجل في بخارى كأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح أو كصلاح الدين الكردي، ومع ذلك... يستحيل أن ينهض العرب إلا بنبوة، يستحيل أن تقوم للعرب دولة إلا بشريعة سماوية، يستحيل أن يدعم للعرب كيان إلا بالإسلام، فإذا فرط العرب في الإسلام فرطوا في مجدهم، وفرطوا في كيانهم، وفرطوا في حياتهم وشرفهم، وأصبحوا ألعوبة في أرض الله، بل...

الخطبة الأولى: 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد إن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فقد اهتممت بدراسة الطبيعة العربية وتعرف خصائصها النفسية والفكرية، لم؟! ألأنني عربي؟! ما أظن ذلك السبب الدافع، لأنني أعلم أن العروبة لغة لا دم، وأن عربًا قد يولدون في أعماق الجزيرة لا يمثلون خصائص العروبة ولا رسالتها، بينما يولد رجل في بخارى كأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح أو كصلاح الدين الكردي، ومع ذلك فإن كلا الرجلين -وإن لم يكن من دم عربي- فهو أقرب إلى العروبة وأخلص لوظيفتها ورسالتها من غيره.

ثم أنا أعلم أنني مصري، وهل المصريون عرب؟! هم بيقين استعربوا بالإسلام، أي عربهم الإسلام، لكن أهم قبل ذلك عرب؟! ما يعنيني هذا، ربما تحدث علماء الأجناس في أن المصريين عرب أو غير عرب. أنا لا يعنيني أن يكون رمسيس عربيًا أو بدويًّا أو أي كائن، إنما يعنيني أن المصريين تعربوا بالإسلام، وأصبحوا بالإسلام عربًا، لذلك اهتممت بالطبيعة العربية عن رغبة في دراسة الشخصية العربية وعوامل اضمحلالها وعناصر ازدهارها، ووجدت أن الجنس العربي يمكن -بتعبير لا فلسفة فيه ولا تعقيد- أن تذكر له ثلاثة أدوار:

دورًا قديمًا هلك فيه هذا الجنس.

ودورًا وسيطًا ازدهر فيه هذا الجنس وساد.

ودورًا معاصرًا اضطرب فيه هذا الجنس، وتنازعته أسباب النماء والفناء، فهو بينهما عصيّ طيّع، وهو بينهما مقبل مدبر، والمعركة بين الصحة والمرض أو بين العافية والسقام لا تزال دائرة في دمه وفي بيئته، ونحن نرى -ثقة في الله- أن العاقبة ستكون خيرًا إن شاء الله.

لكن لا بد من دراسة أدوار هذا التاريخ، لابد أن يعرف لم باد الجنس العربي قديمًا؛ لأن الخصائص تتوارث أحيانًا، وعندما يقرأ المسلمُ الفاقِهُ سورةَ الأعراف أو سورة هود أو سورة الشعراء، يجد أن الأنبياء العرب بذلوا جهودًا جبارة في فطام العرب عن رذائلهم واقتيادهم إلى ربهم وتحميلهم رسالة الإسلام، ولكن قومهم عجزوا عن الارتفاع إلى هذا المستوى، وغلبتهم خصائص من جنسهم أو من دمائهم فأهلكتهم، وقال الله يصف هذه الأجناس البائدة: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

إن الله لا يظلم جنسًا من الأجناس، وليس بينه وبين فئة من الفئات أو طائفة من الطوائف أو أمة من الأمم عداوة، ولكن يصلح الناس فتطيب لهم الحياة ويمهدون لأنفسهم عنده، فإذا أسفوا فإنما تدور الرحى على أكبادهم لتطحنها، وما يظلمون إلا أنفسهم.

إنني أذكر هذه الخصائص التي ظهرت في العرب البائدة لأنني -كما قلت- أرى التاريخ لا يستجد له جديد على ظهر الأرض، يكاد يكرر نفسه، حتى قيل في المثل الروماني: "لا جديد تحت الشمس". وحتى قيل في المثل العربي:

كل خليل كنت خاللته

لا ترك الله له واضحة
كلهم أروغ من ثعلب ما أشبه الليلة بالبارحة

نجيء إلى عاد، لِمَ هلكوا؟!

كانت لديهم كبرياء غريبة، كان لديهم جبروت غريب، يقول الله -جل شأنه-: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

سبحان الله! نبي من أنبياء الله يخاطب بهذه اللهجة؟! إنه الكبر والجبروت: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).

هذا الجبروت انتهى بهم إلى أن نزل عليهم من السماء عذاب أودى بهم، كانوا عمالقة -وكما تجيء عاصفة فتطوّح برأس النخلة- كان هؤلاء يأتيهم العذاب من عند الله فيجلد بهم الأرض، وتطير منهم الأعناق، ويبقون على الثرى كأنهم أعجاز نخل منقعر!!

قال تعالى: (كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ).

نجيء إلى ثمود، لمَ هلكوا وبادوا؟! كان لديهم جحود غريب، اقترحوا أن تجيئهم ناقة من الصخر، فانشق الصخر عن ناقة، كانت معجزة واضحة، (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا)، جحدوا بعدما أتتهم البينات، (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

ثم إن الكلام يطول في شمال الجزيرة حيث كانت الأيكة وقرى مدين وشعيب الذي يسمى خطيب الأنبياء، وكيف نصح قومه أن لا يبخسوا الناس حقوقهم، وأن لا يفتئتوا عليهم، وأن بقية الله خير لهم، هذا إلى جانب القرى الشاذة التي استمرأت الفساد، وارتكبت في ناديها المنكر، واقترفت الآثام.

فالجنس العربي في بداية تاريخه فسق عن أمر الله فضرب ضربة أطاحت به وانتهى أمره، يقول القرآن الكريم في سورة هود -وهي سورة تحدثت عن الأنبياء العرب-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).

هذه مرحلة للجنس العربي، ثم جاءت مرحلة أخرى، انتهت العرب البائدة، واصطفى رب العالمين إنسانًا مطهرًا مبرءًا مصونًا نبيلاً مجيدًا، اختار محمدًا، ورباه ليربي العرب به، وربى العرب به ليربي الناس جميعًا بهم، وكانت المعجزة أن القبائل التي هلكت في الأولين وباد تاريخها أصبحت بأثر هذا النبي المبارك وبالتربية الراشدة التي وضع أسسها واتضحت معالمها في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- تدوس أكفانها القديمة، وترتدي حلة قشيبة، وتخرج على الناس بمبادئ جديدة تقول: "إنه لا قُدِّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".

خرجت بمبادئ جديدة يقول فيها رئيس الدولة أبو بكر -رضي الله عنه-: "أما بعد: أيها الناس: فإني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع إليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله".

ولذلك وقف بدوي في بلاط كسرى -هو ربعي بن عامر- يقول للفرس ويقول لغير الفرس ممن ورثوا جبروت الملك، وفساد الحكم، واستبداد الفرد، وسيطرة العصبيات العمياء، يقول لهم:

"إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

إن كلمة التوحيد وضعت أسسًا مكينة لما يسمى في عصرنا: حقوق الإنسان. هذه الحقوق جعلت رجلاً قهر الجبابرة وهزم الروم والفرس كعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رأى قاتل أخيه فقال له -بطبيعة الإنسان الذي يرى قاتل أخيه، وقد أسلم-: "والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم!!". فيقول له الأعرابي: يا أمير المؤمنين: أيمنعني هذا حقي؟! قال: لا. هبني أكرهك لكن حقك يصل إليك كاملاً، لا دخل للكره ولا للحب في محاباة أو ظلم أو إيثار: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

ولذلك كانت الخلفية وراء ربعي بن عامر مشرفة عندما يقول للناس: جئنا نخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام!! كانت الخلفية فعلاً مشرفة؛ لأن الناس تسامعوا أن عمر وأبا بكر من قبله، وأن الحكام المسلمين كانوا فعلاً نماذج لتقوى الله، والسبب في هذا الإسلام.

هذا الإسلام جعل سادة الأمصار العربية من الأعاجم، سأل الخليفة الأموي الوليد أو سليمان: مَن سيد البصرة؟! فلان. من سيد الكوفة؟! فلان. من سيد مصر؟! فلان. من سيد دمشق؟! فلان، كلهم كانوا أعاجم، عدا واحدًا فقط كان عربيًا!!

ما الذي جعل الأعاجم يسودون؟! الإسلام الذي ألغى التفرقة العنصرية، وجعل الخلفاء يصلون وراء الحسن البصري، وما كان عربيًا، وجعلنا نتعلم كلنا من البخاري، وما كان عربيًا، وجعلنا نحب صلاح الدين الكردي، وما كان عربيًا.

الحضارة العربية حضارة إنسانية، شارك في صنعها فقهاء القرآن والسنة من كل جنس، حتى الأدب العربي شارك في رفع رايته وتصفية ديباجته وإبراز جماله الفني شعراء فيهم الرومي والفارسي والعربي.

ومضت هذه الحضارة، لكن اشتبكت في مسيرتها بالعداوات التقليدية، هل نحن اشترينا عداوة اليهود أو النصارى؟! لا، يقول التاريخ: لولا ظهور الإسلام لباد اليهود!! فإن اليهود آووا إلى بلاد الإسلام في وجه الاضطهاد الذي نزل بهم في كل مكان حلوا فيه.

نحن -بطبيعة ديننا الفكرية- أصحاب سماحة، وأصحاب نظر عقلي، وأصحاب احترام للدليل، لكن عندما يعرض بعض الناس سلعًا كاسدة أو مغشوشة فينصرف الناس عنها إلى صاحب سلع جيدة وبضائع نقية فإن صاحب البضائع المغشوشة يرجع بالحقد، وقد قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى).

لقد مضى المسلمون -في تاريخهم الطويل- يخدمون الإنسانية، ثم بدأ التاريخ الإسلامي يترنح، وبدأت الأمة الإسلامية تضطرب، إنني قرأت رأي ابن خلدون في العرب، وهو رأي شديد، لكن يبدو أنه صحيح، فإن ابن خلدون يقول: "إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة".

يستحيل أن ينهض العرب إلا بنبوة، يستحيل أن تقوم للعرب دولة إلا بشريعة سماوية، يستحيل أن يدعم للعرب كيان إلا بالإسلام، فإذا فرط العرب في الإسلام فرطوا في مجدهم، وفرطوا في كيانهم، وفرطوا في حياتهم وشرفهم، وأصبحوا ألعوبة في أرض الله، بل أصبحوا أعداءً لأنفسهم قبل أن يكون غيرهم عدوًا لهم.

ولقد نظرت إلى الأمة العربية في عمرها الحاضر فوجدت أن برنامجًا للارتداد العام وضع في أوروبا بشقيها: الشرقي الشيوعي، والغربي الصليبي، وضع هذا البرنامج لجعل المسلمين يرتدون عن دينهم، وأخذ هذا البرنامج يطبق بطريقة فيها دهاء ومكر.

وأحب أن أقول: إن تطبيق هذا البرنامج يستدعي أولاً: محاربة الأخلاق الإسلامية، محاربة التقاليد الإسلامية، نزع الولاء لله ورسوله وجعل الولاء لشيء آخر، وبدأ هذا التطبيق فعلاً.

عندما أنظر للعرب الآن أجد أعراض المرض ظهرت كلها عليهم.

كان في ليبيا شعب إسلامي احتلت أرضه إيطاليا، ولكنه بقيادة عمر المختار يقاوم، ثم جاء استقلال، في ظل هذا الاستقلال يقاد إمام مسجد إلى السجن إذا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا!! أهذا استقلال؟! أم أن أيام عمر المختار وأيام المقاومة الإسلامية للاحتلال الإيطالي كانت أشرف؟!

كان في سوريا شعب إسلامي احتلت أرضه فرنسا، ومع ذاك فإن المقاومة الإسلامية استماتت في استبقاء الإسلام، وجاء بعد ذلك استقلال، في ظل هذا الاستقلال رفض البعث العربي أن يكون الإسلام دين الدولة!! إذًا ما يكون دين الدولة؟! شيء آخر غير الإسلام؟! أهذا استقلال؟! أم أن المقاومة الإسلامية للاحتلال الفرنسي كانت أفضل؟!

واستمعنا إلى من يقول: تكون فلسطين علمانية فيها اليهود والنصارى والمسلمون!!

أنا أرى أن فلسطين يوم أن ترتد عن الإسلام يكون وجودها تحت الحكم اليهودي أو وجودها كافرة شيئًا يساوي بعضه البعض الآخر! لا قيمة لاستقلال دون إسلام، لا قيمة لنا إن لم ندخل في الإسلام ونؤدي حق الله علينا.

الذي حدث أن الاستعمار العالمي استمات في أن يسلخ المسلمين عن دينهم، وأن يتوسل بحكام لا دين لهم كي يبلغ أهدافه، وظهرت الرذائل المخبوءة في الجنس العربي ليسفك العرب دم بعضهم بالبعض الآخر على نحو غريب.

كنت أقرأ من يومين معرة الاحتلال الإنجليزي في بلدنا: "حادثة دنشواي"، وقلت في نفسي وأنا بين الضحك والبكاء: دنشواي! دنشواي تمثل واحدًا من الألف مما وقع في سجن القلعة في ظل جمال عبد الناصر، دنشواي تمثل واحدًا من الألف مما وقع في سجن القلعة وفي سجن أبي زعبل وفي سجن طرة، دنشواي تمثل واحدًا من الألف مما وقع في حلب وحماة وحمص!

إن الله أهلك عادًا قديمًا لأنهم كانوا كما وصفهم الله (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ). فهذا البطش بطريق الجبروت ألم يظهر مرة أخرى في دمشق والقاهرة في ظل حكام لم يتقوا الله، وكانوا عملاء للاستعمار العالمي؟! هذا خط مشى فيه الاستعمار العالمي وأعانه عليه قوم آخرون من جلدتنا.

أيها الإخوة: إن مصر -وأنا أعلم بحقيقة مصر وخطورة وضعها السياسي والاقتصادي والعالمي- كانت الدعامة في نجاة العالم الإسلامي من الصليبية وحروبها في العصور الوسطى، وكانت دعامة العالم الإسلامي عندما اجتاحت ألوية التتر بغداد ومضت جحافلهم تريد أن يظلم العالم كله أمام زحفها، حتى اصطدمت بالجيش المصري في فلسطين وانهزم التتار.

إن مصر هي العاصمة الثقافية للعالم الإسلامي، هي العاصمة الروحية للعالم الإسلامي، ولذلك فإن المؤامرات تخفى وتظهر حينا بعد حين كي ترتد مصر والعرب كلهم عن الإسلام.

وشغل المسلمون بمحاقر الأمور، وتركوا دهاقين السياسة العالمية يرسمون خططهم وينفذونها في صمت، فماذا كانت النتيجة؟! وجدنا الجامعة العربية تتفق مع إمبراطور الحبشة على أن يأخذ إريتريا وهي قطعة من أرض الإسلام، وأخذها وبدأ تنصيرها، كما بدأت سياسة تنصير عامة من آخر وادي النيل إلى القاهرة والإسكندرية.

وكان مما جعله عبد الناصر لضرب الإسلام أن أوهن قوى الأزهر، وقوى الجماعات الإسلامية، ودعم الآخرين وهيأ لهم فرصًا ضخمة للظهور والنجاح والتفوق.

لعله قدر سابق، لعلها إرادة الله الرحمن الرحيم، لعلها مشيئة مالك القوى والإرادات أن مصر اعتصمت بحبل الله، وقررت أن تبقى على الإسلام.

وهنا أقول بشيء من الصراحة والوضوح: إن مصر إسلامية شكلاً وموضوعًا، وإن مصر ستبقى أرض الإسلام وموئل تعاليمه ومثابة جنده، وستبقى راية الإسلام فيها، ولن يُسمَح البتة بتغيير التربة الإسلامية في مصر، وكل من سولت له نفسه -في أمريكا أو أوروبا أو من الشيوعيين في موسكو أو بكين- أن يصطنع من المؤامرات، أو يفتعل من الحركات ما يغير به الطبيعة الإسلامية لمصر فإنه لن يلقى إلا الفشل، وما دمنا أحياءً، وما دام أبناؤنا من بعدنا، وما دام تلامذتنا من ورائنا، فإن مصر ستبقى بلد الإسلام، وستنكسر أمواج الغزو على الشاطئ الصلب، وسيبقى هذا البلد للإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل، لن نسمح أبدًا بأن تتحول مصر عن الإسلام، ولن تنجح المؤامرات التي تريد تحويل مصر عن الإسلام.

ولذلك فإننا نؤكد هذه الحقيقة لدور مصر الإسلامي، ثم نقول: إن مصر -كأي بلد إسلامي آخر- احتضنت أقليات دينية، وستبقى أسعد الأقليات في العالم الإسلامي ما دام الإسلام في مصر، ولا ضمان للأقليات الدينية في العالم الإسلامي إلا إيماننا بالله واعتصامنا بكتابه واتباعنا لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

وكون الأقليات الدينية تحاول -بالاتصال بأمريكا وأوروبا- أن يكون لها عز أو شأن، فإن ذلك لن ينجح قصدها ولن يرفع لها خسيسة، ويستحيل أن يبقي لها مكانها إلا في وسط مصر المسلمة وكل بلد إسلامي يريد أن يوفي لربه ولتراثه ولدينه.

ولنقلها صريحة : ليس في مصر مكان لـ"سعد حدّاد"، وليس في مصر مكان لـ"يعقوب حنا" جديد، إن مصر الإسلامية ستبقى مصر الإسلامية.

ولمناسبة الأحداث الأخيرة ذهبت وجملة المسؤولين عن الدعوة الإسلامية من رجال الجماعات الإسلامية والهيئات الإسلامية إلى وزير الداخلية وتكلمنا معه وقدمنا له مطالبنا، ولأقل: إن المطالب أجيبت.

حقيقة الأحداث: هناك ألفان وخمسمائة متر حاول بعض الناس اغتصابها ليبنوا عليها -دون إذن الدولة والشعب- معبدًا لغير المسلمين مع عدم حاجتهم تمامًا إلى هذا المعبد. تقرر نهائيًا أن يبنى المسجد ومعهد ديني في هذا المقر، وبقي على الأزهر أن يؤدي رسالته أو واجبه، وسيؤدي هذا، وستعين الجماعات الإسلامية على بقاء المكان للإسلام.

أما الذين قتلوا واعتدوا وأجرموا فسوف يأخذ القضاء العادل مجراه بينهم وعلى عجل.

وشيء أخير وهو أن تجريد المعتدين من السلاح لابد منه، ولابد أن يأخذ دوره وامتداده، وقد انتهت الأمور إلى هذا. لكني أنظر إلى الوضع بعد ذلك فأرى أن الأمة الإسلامية تحتاج إلى أن تعيد النظر في الطريقة التي تفكر بها، والطريقة التي تحيا بها، فإننا مذهولون عن المؤامرات الاستعمارية الكبرى التي تريد الإجهاز على ديننا والنيل منه، تفكيرنا سطحي، شغلنا بالتوافه، والأمر يحتاج إلى أن تعرف أمتنا -كما قلت- المؤامرات العالمية الكبرى لضرب الإسلام في العالم الإسلامي وفي مصر بالذات.

وهذا لا يقتضي حماسة يوم ولا فصاحة خطيب، لا، هذا يقتضي سياسة مدروسة بعيدة المدى، فإن اليهود لما أرادوا اغتصاب فلسطين وضعوا خطة بعيدة المدى تنفذ على عشرات السنين، ولا أدري ما الذي يجعل المسلمين يضعون خططًا لأيام أو لأسابيع؟! السياسات البعيدة المدى لابد منها، لابد أن يكون لنا من نتعلم منه، ومن يشرف على نواحينا المادية والأدبية، ويحنو على الإسلام، ويتألم لألمه ويفكر بمشاعره وقضاياه، لابد من هذا كله.

إن أمتنا الإسلامية تعيش في العالم الآن وفيها غفلة غريبة، جاءت امرأة من الولايات المتحدة الأمريكية في أوائل الأربعينيات، وراحت إلى أسيوط، وبدأت عملية تبشير، وحصيلة تبشيرها الآن مستعمرة من نحو عشرين فدانًا فيها نحو ألفي رجل وامرأة دخلوا المسيحية على المذهب البروتستانتي!

المرأة -في صمت- اشتغلت بأخذ اللقطاء وتربيتهم وتدريبهم وتعليمهم، وهم الآن يمثلون مستعمرة داخل أسيوط، لماذا يكون الفكر التبشيري طويل الأمد، طويل البال، واسع الحيلة، بينما الفكر الديني عند المسلمين طائش سريع ملتهب ويخمد على عجل؟! إن المسلمين يجب أن يكون لهم فعلاً من يرسم لهم هذه السياسات الطويلة المدى ويبصرهم بيومهم وحاضرهم ومستقبلهم، يبصرهم بتاريخهم الغابر وما يستفاد منه من عبر.

إن كل حكم -على أي شبر من أرض الإسلام- يخاصم الإسلام هو عميل مرتد يشتغل لحساب الشرق الشيوعي أو الغرب الصليبي، كلاهما الآن مسلح وذكي.

مخاصمة الإسلام لا تجوز، الولاء كله للإسلام، والحب كله لله ولرسوله، وما عدا ذلك فهو تبع، نحن نريد أن يعلم القاصي والداني أن مصر لن تكفر بالله، لن تهجر الإسلام، إننا لن نقبل عمالة لشرق أو لغرب.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله.

وأرى -أيها الإخوة- أن تنتهي المأساة التي يمر بها البلد، فلا داعي لإشعال الحرائق، ولا داعي للمضي في فتن لا يعرف لها أول من آخر، وليس معنى هذا أن نسلم أعناقنا للجزارين، بل نكون أذكياء في الدفاع عن أنفسنا، حاذرين في أن لا تقع أقدامنا في حبائل الغادرين الخونة.

أيها الإخوة: إننا -إن شاء الله- بعد صلاة الجمعة سنصلي صلاة الغائب على من مات من المسلمين في هذه المحنة، وسنجمع أيضًا بعض التبرعات للمنكوبين الذين نالهم ما نالهم بعدما أخذوا غدرًا.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

أقم الصلاة.