الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | محمد جمعة الحلبوسي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
أين غَيْرة الرجل وهو يرى زوجته أو ابنته تخرج بكامل زينتها وحُلِيِّها، وتفوح منها أنواع الطِّيب، وقد وضعتْ على وجهها -إن كانتْ كاشفة الوجْه- أو على وجْنتيها وعيْنيها -إن كانتْ منتقبة- أنواع المساحيق والمبيِّضات؟! وأين الغَيْرة عند الرجل عندما يخرج بمحارمه وهنَّ متبرِّجات يلبَسْنَ الثياب الضيِّقة والقصيرة، ويضعْنَ العدسات، ويوزِّعْنَ الابتِسامات يَمْنة ويَسرة، بلا...
الخطبة الأولى:
نقف اليوم مع خُلُق من أخلاق الإسلام الحميدة، مع سِمة من سمات عباد الله الصالحين، هذا الخُلق أعلى الإسلام قدْره، وأشاد بذِكْره، هذا الخُلق هو السياج المنيع لحماية المجتمع الإسلامي من الوقوع في مهاوي الرَّذيلة والفاحشة، هذا الخُلق هو مظهر من مظاهر الرجولة الحقيقة؛ لذلك ضرَب سلفُنا الصالح أروعَ الأمثلة في ترجمة هذا الخلق في واقع حياتهم، إنه خُلق الغَيْرة؛ الغَيْرة على المحارِم، الغيرة على الأعرَاض.
والذي دَعاني إلى التحدُّث عن موضوع الغَيْرة في هذه الخطبة هو ما نراه مِن خُروج النساء من البيوت؛ حتى أصبحْنَ يملأْنَ الشوارع والأسواق، والكماليات والمجمعات الطبيَّة وهن متبرِّجات، سافرات الوجوه، قد وضعْنَ على وجوههنَّ جميع أنواع المساحيق والزِّينة، وهنا نتساءل: أليس لهذه المرأة التي خرجتْ بأبْهَى زينتها رجلٌ يردعها؟! أيًّا كان هذا الرجل زوجًا أم أبًا أم أخًا، أين غَيْرة الرجال؟!
بل الأعجب من ذلك: أنَّك ترى مع المرأة المتبرِّجة أخاها أو أباها أو زوجها وهو يمشي معها، ورُبما هناك مَن يُضاحكُها على مرأًى من الناس، وهو مع ذلك لا يستحيي من نفسه، ولا يخجل من مشاهدة الناس له، بل ولا يَغار على زوجته أو ابنته أو أخته وقد خرجتْ سافرة متبرِّجة في أبْهَى زينة، قد عصت الله ورسوله!
فيا أبناء الإسلام: هل ماتت الغَيْرةُ عند مَن يسمح لمحارمه أن يخرجْنَ وهنَّ سافرات، أين غَيْرتكم يا رجال؟!
الغيرة التي كان الجاهليون يتحلون بها، حتى إنَّ بعضهم كان يبالغ في غَيْرته على محارمه بأن يدفنَ ابنته في التراب وهي حيَّة؛ خوفًا من أن تقعَ في الفاحشة إذا كبرَتْ، نعم كانوا يرفعون شعارًا وهو: "قتْل البنات من المكرمات".
وعندما جاء الإسلامُ حثَّ على التخلُّق بخُلق الغَيْرة على المحارم، وحرَّم قتْلَ البنات، ورفَع شعارًا هو: "أكرموا البنات؛ فإنهنَّ الغاليات"، ومِن إكرام البنت أن نربِّيَها على الفضيلة والحجاب، والستر والعفاف؛ لأن البنت مثل اللؤلؤة، يوم أن تخرج من مَحَارتها، فإنها تموت وتُصبح سوداء، تُصبح لا قيمة لها، ولا توزَن بدرهم ولا دينار، ولكن يوم أن تبقى في مَحَارتها أيَّامًا وشهورًا وسنوات، فإنها تكون ثمينة، تكون غالية ولا تُقدَّر بثمن، وكذلك الفتاة يوم أن تكون في مَحَارتها وفي بيتها، لا ترى الرجال ولا الرجال يرونها، تكون غالية وتكون ثمينة، وعندما تخرج من بيتها إلى بيت الزوجيَّة، تخرج مكرَّمة ومعزَّزة؛ لأن أباها ربَّاها تربيةً إسلاميَّة.
ولقد كان أصحابُ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- من أشدِّ الناس غَيْرةً على أعراضهم، فهذا سيدنا سعد بن عبادة -رضي الله عنه- يقول: "لو رأيتُ رجلاً مع امرأتي، لضربتُه بالسيف غير مُصْفَح عنه"، غير مصفح: أن يضربَه بحدِّ السيف لا بعرضه، فالذي يضرب بالحدِّ لا يقصد إلاَّ القتْل، بخلاف الذي يضرب بعرض السيف، فإنه يقصد التأديب، فبلَغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أتعجبون من غَيْرة سعد، فوالله لأنا أغْيرُ منه، والله أغير مني، من أجْل غَيْرة الله حرَّم الفواحش؛ ما ظهَر منها وما بطَن، ولا شخص أغْيَرُ من الله...". البخاري ومسلم.
وفي الحديث الآخر، قال: "إن الله يَغار، وغَيْرة الله أن يأتي المؤمنُ ما حرَّم الله". رواه البخاري، وروي أيضًا عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله قال: "يا أُمَّة محمد: ما أحد أغْيَرَ من الله أن يرى عبده أو أَمَتَه تزني، يا أمة محمد: لو تعلمون ما أعلمُ، لضحكتم قليلاً ولبكيتُم كثيرًا".
وهذا سيدنا علي -رضي الله تعالى عنه- يقول لزوجته فاطمة: "ما خير للمرأة؟! قالتْ: أن لا ترى الرجال ولا يروها"؛ لذلك كان علي -رضي الله عنه- يقول للذين فقدوا غَيْرتهم على محارمهم: "ألا تستحيون؟! ألا تغارون؟! يترك أحدُكم امرأته تخرج بين الرجال، تنظر إليهم وينظرون إليها"، وقال أيضًا -رضي الله عنه-: "بلغَني أنَّ نساءَكم يُزَاحِمْنَ العلوج في الأسواق، أما تغارون؟! إنه لا خيرَ فيمَن لا يَغار".
هذه هي الغيرة، غيرة الإسلام على المحارم والأعراض؛ دخل سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على زوجته فاطمة سيدة نساء العالمين، فوجَدَها تَسْتاكُ؛ أي: تستعمل السواك، فقال ممازحًا وكأن السواك رجلٌ يخاطبه:
ظَفِرْتَ يَا عُودَ الأَرَاكِ بِثَغْرِهَا | مَا خِفْتَ يَا عُودَ الأَرَاكِ أَرَاكَ |
لَوْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ قَتَلْتُكَ | مَا فَازَ مِنِّي يَا سُوَاكُ سِوَاكَ |
بل اسمعْ إلى موقف هذا الأعرابي المفطور على الغيْرة والكرامة، يوم نظَر رجل إلى زوجته -زوجة الأعرابي- فقال الأعرابي لامرأته -لمجرد نظْرِ الرجل إليها- الْحَقي بأهلك، فأنت طالق! فلمَّا عوتِب في ذلك، ردَّ قائلاً:
وأتْرُكُ حُبَّهَا مِنْ غَيْرِ بُغْضٍ | وَذَاكَ لِـكَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ |
إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى طَعَامٍ | رَفَعْتُ يَدِي وَنَفْسِي تَشْتَهِيهِ |
وَتَجْتَنِبُ الأُسُودُ وُرُودَ مَاءٍ | إِذَا كَانَ الْكِلاَبُ وَلَغْـنَ فِيهِ |
أين غَيْرة الرجل وهو يرى زوجته أو ابنته تخرج بكامل زينتها وحُلِيِّها، وتفوح منها أنواع الطِّيب، وقد وضعتْ على وجهها -إن كانتْ كاشفة الوجْه- أو على وجْنتيها وعيْنيها -إن كانتْ منتقبة- أنواع المساحيق والمبيِّضات؟! وأين الغَيْرة عند الرجل عندما يخرج بمحارمه وهنَّ متبرِّجات يلبَسْنَ الثياب الضيِّقة والقصيرة، ويضعْنَ العدسات، ويوزِّعْنَ الابتِسامات يَمْنة ويَسرة، بلا حياء ولا حشمة؟!
وأين الغيرة حينما يتركُ مَحارمه يذهبْنَ إلى الأسواق وحْدَهنَّ أو مع صديقاتهنَّ، يَجُبْنَ الأسواق ذهابًا وإيابًا الساعات الطوال، وهو يعلم أنَّ الأسواق مليئة بالذئاب البشرية؟! وأين غيرة الرجل حينما يرى محارمه يتكلمْنَ مع البائع، ويرجونه -بعبارات لا تَليق- لتخفيض الأسعار؟! أين الغيْرة عند الرجل الذي يرمي زوجته أو إحدى محارمه في السوق بين الباعة من الرجال والمعاكسين، ويأتيها بعد ساعتين ليأخذَها؟! وأين الغيرة عنده وهو يرى محارمه يجلِسْنَ أمام الفضائيَّات لمتابعة المطربين والفنانين، والأفلام الهابطة، والدعايات الساقطة؟!
رحِمَ الله ذلك الزمن، زمن الحياء، زمن الغيرة على المحارم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
اسمعْ -أخي المسلم- إلى هذه الحادثة الرائعة، والتي تبيِّن لنا كيف كان الرجال يَغارون على نسائهم، وأنا أسوق هذه القصة لكلِّ مَن سمَحَ لامرأته أن تخرج متبرِّجة؛ لينظرَ إليها كلُّ مَن هبَّ ودَبَّ، لكل مَن أجْلَسَ زوجته بجنبه في سيارته وهي كاشفة عن معالِم الزينة؛ لينظرَ الناس إليها، لكل مَن سمَحَ لابنته أن تخرج وحدَها إلى الكماليات وهي متزينة بأبْهَى زينتها، دخَل رجل وامرأته على موسى بن إسحاق -قاضي الأهواز- فادَّعَت المرأة أنَّ لها على زوجها خمسمائة دينار مهْرًا، وأنه لَم يسلمْه إيَّاها، وأنكر الزوج ادِّعاء زوجته عليه، وأنه أدَّى لها مهرَها، فقال القاضي للزوج: هات شهودك؛ ليشيروا إليها في الشهادة، فأحضرَ الزوج الشهودَ، فاستدعى القاضي أحدَهم، وقال له: انظر إلى الزوجة وتأكَّد من معرفتك بها؛ لتشير إليها في شهادتك، فقام الشاهد لينظر، وقال القاضي للزوجة: قومي واكْشفي عن وجْهك؛ ليتعرَّف عليك الشاهد، فقال الزوج الغيور: وماذا تريدون منها؟! قال له القاضي: لا بدَّ وأن ينظر الشاهدُ إلى امرأتك وهي سافرة كاشفة لوجْهها؛ لتصحَّ معرفته بها؛ إذ كيف يشهد على مَن لا يعرف؟! فكَرِه الزوج أن تكشفَ زوجته عن وجهها لرجل أجنبي عنها، وقال للقاضي: إني أشهد أنَّ لزوجتي في ذِمَّتي المهر الذي تدَّعيه، ولا حاجة إلى أن تكشفَ وجْهها أمام الرجال الأجانب، فلمَّا سمعتِ الزوجة ذلك أكبرتْ وأعظمَتْ زوجَها؛ لأنه يغار عليها ويصونها من أعين الناس، فقالت للقاضي: إني أُشهدك أني قد وهبتُه هذا المهر وسامحتُه فيه، وأبرأْتُه منه في الدنيا والآخرة، فقال القاضي: اكتبوا هذا في مكارم الأخلاق.
الله أكبر، أين هذه الغيْرة في دنيا اليوم؟! والله نحن لا نلوم الشباب الذين يقفون في الطرقات والكماليات والمجمعات الطبية، لأنه لو كانت المرأة -التي تخرج إلى الأسواق والكماليات ومراجعة الأطباء- مستورة وغير متبرِّجة -مع احترامنا لكلِّ أخواتنا المستورات- لَمَا وقفَ الشباب في هذه الأماكن، لكن تخرج المرأة متزيِّنة وكأنها عروس تريد أن تُزَفَّ إلى بيت الزوجية، تخرج وهي ترتدي الملابس الضيقة، كيف تريد من الشاب أن لا ينظر؟! كيف تريد من الشاب أن لا يقِفَ الساعات من أجْل أن يراقب النساء؟! أنا أتعجَّب ممن يخرِجُ بناته وزوجته متبرِّجات وكاشفات زينتهنَّ، ثم إذا ما نظَر الشباب إليهنَّ يتشاجر معهم، لماذا هذا الشجار؟! دعِ الناس ينظرون، أنت عندما سمحتَ لمحارمك أن يخرجْنَ متبرِّجات وسافرات، كأنَّك تقول لكل الناس: انظروا إلى محارمي، انظروا إلى نسائي، انظروا إلى عِرْضي وشرفي.
إِنَّ الـرِّجَالَ النَّاظِرِينَ إِلَى النِّسَا | مِثْلُ الْكِلاَبِ تَطُوفُ بِاللُّحْمَانِ |
إِنْ لَمْ تَصُنْ تِلْكَ اللُّحُومَ أُسُودُهَا | أُكِلَتْ بـلاَ عِوَضٍ وَلاَ أَثْمَانِ |
لذلك أنا أقول لكم يا أولياء الأمور: إن للرجولة علامات وخصائص، أوَّلها: هي غيْرته على عِرْضه، ونَخْوته فيما يتعلَّق بنسائه وبناته وأخَوَاته، الرجل: هو الذي لا يفضِّل شهوته على نخْوته، أيها الرجل: كيف تطوِّع لك نفسُك أن تخرج ابنتك أو أُختك أو زوجتك كاسية عارية، مائلة مُميلة، ألا تعرف ما يدور في نفوس الفُسَّاق والفُجَّار، وما يجري على ألسنتهم؟! ما قيمة المال إذا خُدِش الشرف؟! ما غِنى الراتب والمنصب إذا لَم يُصَن العِرْض؟!
أَصُونُ عِرْضِي بِمَـالِي لاَ أُدَنِّسُهُ | لاَ بَارَكَ اللهُ بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمَالِ |
فما ينفع المال والراتب والوظيفة إذا ذهَب الشرف!
فيا أولياء الأمور، أيها العقلاء: إننا نخشى أن نستفيقَ بعد طول صمْتٍ على كارثة تحلُّ بنا أو عقوبة تذهلنا، إننا نخشى أن ننتبِهَ بعد فوات الأوان، وإذا بنا أمام جيل ربَّته القنوات التلفازيَّة الأجنبية على كلِّ رذيلة، جيل هَمُّه شهوة بطنه وفَرْجه، فيضل الشباب، وتنحرِف الفتيات، ويَفسد الآباء، ويتمرَّد الأبناء.
فهل ينتبه الآباء ويصحون من غفْلتهم، وينقذون أنفسَهم وأبناءهم وبناتهم، ويغارون على محارمهم، فلا يسمحون لهم بالخروج إلاَّ للضرورة، وبلباسٍ شرعي ومع مَحْرَم، أم إنهم يَبقون كما هم يحاربون الله -عزَّ وجلَّ- في عَلْيائه؟!
فيا أولياء الأمور من آباء وأمهات: إن مسؤوليتكم اليوم قد غدَتْ أكبر وأشقَّ؛ وذلك أنَّ وسائل الفساد قد كَثُرتْ وقَوِيتْ، ووسائل الإصلاح قد قلَّتْ وضَعُفَتْ، وانتشرت الفِتن، وكَثُرت الذئاب البشرية من العابثين بالأعراض، الهاتكين للحُرمات؛ لذلك كله أصبحتْ مسؤوليتكم أعظمَ، فاتقوا الله في هذه الرعية التي استرعاكم الله إيَّاها من بنين وبنات، فإنهم ضعاف أغرار.
وأختم كلامي بهذا الحوار الرائع: في أحد الأيام اجتمع المال والعلم والشرف، ودار بين الثلاثة الحوار التالي: قال المال: إن سحْري على الناس عظيم، وبريقي يجذبُ الصغير والكبير، بي تُفَرَّج الأزمات، وفي غيابي تحلُّ التعاسة والنكبات.
وقال العِلْم: إنني أتعامل مع العقول، وأعالِج الأمور بالحِكمة والمنطق، والقوانين المدروسة، لا بالدرهم والدينار، إنني في صراع مستمر من أجْل الإنسان، ضد أعداء الإنسانية: الجهل والفقر والمرض.
وقال الشرف: أما أنا، فثمني غالٍ ولا أُباع ولا أُشْتَرى، من حرَصَ عليَّ شرَّفتُه، ومَن فرَّطَ فيّ حَطمتُه وأذللْته، فعندما أراد الثلاثة الانصراف تساءلوا: كيف نتلاقى؟!
قال المال: إن أردتُم زيارتي، فابحثوا عني في ذلك القصر العظيم.
وقال العِلم: أما أنا، فابحثوا عني في تلك الجامعة وفي مجالس الحُكماء.
ظل الشرفُ صامتًا، فسألاه زميلاه: لِمَ لا تتكلَّم؟! قال: أمَّا أنا، فإنْ ذهبتُ، فلن أعودَ!
اللهم اجعل الغَيْرة في قلوب رجالنا، واجعل الحياء في قلوب نسائنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.