القادر
كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...
العربية
المؤلف | صالح بن مبارك بن أحمد دعكيك |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
لقد خلق الله هذا الإنسان وأودع في نفسه كوامن للخير والشر، وأكثر في نفسه طبع الاستعجال، وهو يعني طلب الشيء وتحريه قبل أوانه، وأمْرُ هذا الإنسان كما قال تعالى: (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)، أي إن الإنسان يدعو أحيانًا على نفسه وولده أو ماله بالشر عند الغضب، ويبادر بالدعاء لذلك كما يبادر بالدعاء بالخير، ولكن الله...
الخطبة الأولى:
لقد خلق الله هذا الإنسان وأودع في نفسه كوامن للخير والشر، وأكثر في نفسه طبع الاستعجال، وهو يعني طلب الشيء وتحريه قبل أوانه، وأمْرُ هذا الإنسان كما قال تعالى: (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)، أي إن الإنسان يدعو أحيانًا على نفسه وولده أو ماله بالشر عند الغضب، ويبادر بالدعاء لذلك كما يبادر بالدعاء بالخير، ولكن الله من لطفه يستجيب له في الخير ولا يستجيب له في الشر، ثم جاء التقرير الإلهي عن طبعه هذا وقال: (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً)، فكان هذا طبيعة كما في آية الأنبياء: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُون)، فهي إذًا صفة مخلوقة في الإنسان.
والإسلام ينظر إلى الاستعجال نظرة عدل وإنصاف، فلا يذمه بالمرَّة ولا يمدحه بالمرَّة، وإنما يحمد بعضه ويذم بعضه.
فالمحمود من الاستعجال: ما كان فيه مبادرة إلى فعل الخيرات وانتهاز الفرص إذا حانت، وعدم تأجيل عمل اليوم إلى الغد، وكل ما كان تقديره وعواقبه حسنة بعد إعداد وترتيب: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى).
المذموم من الاستعجال: وهو الغالب ما كان مجرد فورة نفسية وتعجلاً للنتائج خالية من تقدير الأمور، مع ما يصاحبه من الطيش، وهذا الذي جاء فيه الحديث الشريف: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان"، وهو ما كان فيه قطع في الأمور قبل التفكر والمشاورة والاستخارة، قال أبو حاتم البيتي: "إن العَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعدما يحمد، العَجِل تصحبه الندامة وتعتزله السلامة، وكانت العرب تسميها أم الندامات". روضة العقلاء من (288).
قد يدرك المتأني بعض حاجته | وقد يكون مع المستعجل الزللَ |
ومن العجلة المذمومة: الدعاء عند الغضب على النفس والأهل والمال والولد، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أموالكم، ولا تدعوا على أولادكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاءٌ فيستجيب لكم". ولعل كثيرًا مما يصيبنا وأبناءنا سببه من هذا الدعاء حال الغضب.
ومن العجلة المذمومة: استعجال الإنسان بإجابة دعوته وتفريجه لكربته، وفي الحديث: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي". مسلم.
ومنها: استعجال بعض المصلين في صلاتهم فلا يتمون ركوعها ولا سجودها، ولا يطمئنون فيها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمسيء في صلاته: "ارجع فإنك لم تصلِ". ثم علَّمه النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يصلِّي.
واليوم نرى واقعنا ونعايش الكثير ممن يستعجلون في أمور لا يتأنون فيها ثم يندمون بعد ذلك ندمًا شديدًا.
ومن ذلك الاستعجال في الخطبة والزواج قبل التروي والتأني.
ومن ذلك: نرى من يطلق زوجته على أتفه الأسباب فيحرق قلبها ويشتت أولادها ويقع عليهم الهم والغم، كل ذلك بسبب العجلة والطيش.
وترى من يستعجل في ساعة غضب أو نحوها فيقول كلمة لأبيه أو أمه أو صديقه أو زميل عمله، فيقع بينهم الفرقة والنزاع والعداوة والبغضاء، ويصعب الإصلاح بينهم بعد وغر الصدور، وسببه الاستعجال وعدم التريث، وصدق الله: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
ومنها ما يكون من سائقي السيارات من الاستعجال والسرعة وما يترتب على ذلك من أحداث مروعة وإزهاق للنفوس، وعاهات مزمنة وتلف الأموال، ويمكن أن تغلق بيوت بأكملها بسبب العجلة والسرعة في القيادة.
ومن الإحصاءات المعلنة لشهر يوليو الماضي سنة 2008م حصل 1180 حادثًا مروريًا كان حصيلته وفاة 210 أشخاص!
إنها أرقام مذهلة لا تقل حصيلتها عن حصيلة الموت في بعض الحروب...
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
إن أعظم ما يحتاج إلى التأني والصبر وسعة الصدر وعدم الاستعجال هو دعوة الناس إلى الله، والعمل على هدايتهم وإصلاحهم وتعليمهم، ولن يتم ذلك في لحظات ولا أيام؛ لهذا دعا نوح قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا فلم يتضجر ولم يستعجل، ولهذا قال الله لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم-: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ)، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في ذلك، قالت عائشة -رضي الله عنها-: يا رسول الله: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟! فقال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقتُ وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرتُ فيها فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلَّم عليَّ ثم قال: يا محمد: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك وبما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين!! فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا". مسلم (1795).
إنها كلمات نبي، وقلب نبي، ومشاعر نبي، في يوم كان الهم قد حطَّ عليه حتى كان يمشي بغير شعور من الهمِّ، فلم يستفق إلا قرب قرن الثعالب.
إنَّ من يتصدى للدعوة إلى الله وإصلاح الأوضاع وهداية الناس يحتاج إلى زاد كبير من الصبر والتاني والتعقل، وحسبان الظروف عند الملابسات، وطرح الاستعجال والحماس غير المنضبط بعيدًا؛ لأن طبيعة الدعوة تحتاج إلى التروِّي والتأنِّي وحسبان العواقب، وذلك أمره موكول إلى العلماء والحكماء وأولي الأحلام.
إن طريق الدعوة والإصلاح والتغيير طريق طويل وشاق، ولا يحسنه إلا من تربى على منهاج القرآن واقتفاء آثار الرسل الكرام، وتأمّل سِيَر العلماء العظام وبهداهم اقتدى.
فهذا نوح -عليه السلام- مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وهذا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يصلي وسط الأوثان وهي تملأ جوف الكعبة، فلم يهدم يومًا صنمًا واحدًا؛ لأن ذلك قبل أوانه، ولكن ربَّى ودعا، وساق قلوبهم إلى التوحيد، فكانوا هم الذين قاموا بهدمها يوم الفتح بعد إحدى وعشرين سنة من الدعوة.
إن بعض الدعاة وطلاب العلم والشباب قد يستعجلون النتائج، ويحسبون بأعمال سريعة وخطوات حماسية أنه يمكن لهم تغيير واقع الأمة المرير، وربما فعلوا أعمال العنف والترويع -بقصد الإصلاح- ما يعود ضرره على الأمة كلها وعلى الدعوة بشكل خاص، ثم يحصدون الألم والحسرة بعد أن ضاعت الجهود وتأخرت النتيجة أعظم مما كانت عليه.
ونسي هؤلاء طريقة الأنبياء -عليهم السلام- في التغيير، وسنة الله في الكون والنفس، وغفلوا عن سنة الله مع العصاة والمكذبين، وأن الله يملي لهم، ولم يضعوا أيديهم بأيدي علماء الأمة وحكمائها، ولم يستلهموا العبر والعظات من التاريخ، فكانت العواقب وخيمة، والآثار مؤلمة.
وفي منتصف هذا القرن قال الإمام البنا أحد كبار الدعاة وهو يخاطب الشباب والمتحمسين منهم خصوصًا قال: "ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع... ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلاَّبة، ولكن غالبوها واستخدموها وحوِّلوا تيارها واستعينوا على بعضها ببعض، وترقبوا ساعة النصر، وما هي منكم ببعيد...".
ثم يقول: "إن ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ، يسهل على الكثير أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالاً باللسان...". آفات على الطريق (1/69).
رحم الله الإمام البنا على هذه الكلمات النيِّرة، ورفع درجته في عليين، ووقانا الله شرور أنفسنا وعجلة طبيعتنا، وساقنا إلى الطريق الأرشد والصراط الأقوم.
اللهم إنا نسألك تفقهًا في الدين، وقوة في اليقين، وبركة في الرزق...
وصلوا وسلموا...