الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | رشيد بن إبراهيم بو عافية |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
إذا رُمتَ رسوخَ الحقائق والقيمِ في أولادك وتلاميذكَ وأحبابِكَ فلن تجدَ كالعقيدةِ والإيمان هدفًا تربطُ به التربيةَ والتعليمَ والوَلَد، فهي الدَّافعُ الذي لا ينام في الليل والنهار، في... ما الذي يربطُ بين هذهِ السبع خِصال حتى اجتمعت في سياق واحد في الحديث وفازَ أصحابُها بظلّ العرش يوم القيامة؟ ما الذي يربطُ بين حاكم عادل وشاب عابد؟ بين...
أما بعد: في المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سبعةٌ يُظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلّه: إمامٌ عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبهُ معلَّقٌ بالمساجد، ورجلانِ تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقَا عليه، ورجلٌ دعتهُ امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمال فقال إنِّي أخاف اللهَ ربِّ العالمين، ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلمُ شمالُهُ ما تنفِقُ يمينُه، ورجُلٌ ذكر اللهَ خالِيًا ففاضَت عينَاه".
أيها الإخوة في الله: نقفُ مع هذا الحديث الطيب المبارك، العامِرِ بالفوائد والفضائل، نربّي به نفوسَنا، ونُزَكّي به قلوبَنا، ونستهدي به في ظُلُمات الحياة والشهوات.
ومع ذلك ينبغي أن تتأمَّل -أخي المسلم- كيف كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُربّي نفوسَ المؤمنين ويحدوهَا نحو الفضائل والخيرات، بكلمات مؤتلفةٍ جامعة، وعبارات قوية صادقة، فيها كلُّ البلاغة والحكمة والقصد، أخرجت للأمَّة أطهرَ القلوب، وأكملَ الرّجال، وأفضلَ الأجيال.
معشرَ المؤمنين: أوَّلُ فوائده البارزة الواضحة: الحرصُ على ربط التربية الصالحة بالعقيدة والإيمان؛ فإنَّ النفسَ تتحرَّكُ عند الطمع والرغبة، وإذا ما كان الشيءُ الذي تطمعُ فيه غاليًا رفيعًا اشتدَّ لذلك عزمُها، وتواصلت في سبيل إدراكه الأنفاسُ والخطوات.
لقد علمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذه الحقيقةَ في النفس الإنسانية، فأخذ يربطُ تربيتَهُ لها بالحقائقِ الغيبيةِ اليقينية لترتفعَ عن الطِّين، يشدُّها نحو الرغائب التي أعدَّها اللهُ للمتقين في الجنَّة حتى تصبرَ على السير والمجاهدة، فكانت النفوسُ ترغبُ وتتحرَّك في الخير لقوَّة إيمانها وتصديقها بموعود الله -عز وجل-.
وفازوا -رضي الله عنهم- لأنَّ نسبةَ الجنَّة إلى قلوبهم كنسبة الشمس إلى عيوننا سواءً بسواء! ونسبةَ ظلِّ يومِ التعب والحسرة إلى عيونهم كنسبةِ الدرهم والدينار والمتاع والعقار إلى عيوننا سواءً بسواء!.
وفي هذا الحديث توجيهٌ للنفس وربطٌ لها بنعمة الظِّلِّ الباردِ أحوجَ ما تكونُ إليه، في يوم طويلٍ عسير، تدنو فيه الشمسُ من الرؤوس، ويُلجمُ العرقُ النَّاسَ إلجامًا. مَن مِن النَّاسِ يُحبُّ ذلكَ أو يقدرُ عليه يومَ الموقف العظيم؟!.
النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بتربيته الفريدة المتميِّزة يجعلُ الصحابةَ يستحضرون الحقيقةَ اليقينية الآن، يجعلُهم يستعدُّون لذلك قبل حلوله ونزوله، ففهموا بذلك الكلمات، وسَهُلَت عليهم الطاعات، وهجرت جوارحهم المعاصي والمنكرات.
في صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تدنُو الشَّمسُ يومَ القيامة من الخَلْق، حتى تَكُونَ منهم كَمِقْدَار ميل، فيكُونُ النَّاسُ على قَدْرِ أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقْوَيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما".
ترى؛ لو حافظَ المسلمُ على استحضار هذا الهمِّ والألم والرهبة، أكانَ يقدرُ على الظلم والبغي؟ لو استحضرَ الشابُّ هولَ هذا الألم؛ أكانَ ينشأُ في غير عبادة الله -عز وجل-؟ لو عاشَ العبدُ هولَ تلكَ اللحظات؛ أكانَ يستجيبُ لشهوة امرأةٍ ذاتِ منصبٍ وجمال؟ حاشا وأبعَد!.
لو فكَّرَ الجميعُ في حلاوة الظِّلِّ البارد الممدود، وفي قدر ما يُعطيه من الراحة والأمان، أكانُوا يقدرُون على التفريط في ذلك بشهوة تنقضي وتزول؟ أكانُوا يقدرُون على التفريط في ذلك بالاغترار بحياةٍ العُمرُ فيها سراب، والحلالُ فيها حساب، والحرامُ فيها وبالٌ وعقاب؟! حاشا و أبعَد!.
إنَّهُ المنهجُ التربوي الفريد الذي أخرج للأمَّة أطهرَ القلوب، وأكملَ الرّجال، وأفضلَ الأجيال.
على مثل هذا ربَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فكانوا خيرَ الناسِ في تمثُّلِ حقيقةِ الدِّين كما يحبُّهُ اللهُ ويرضاه.
أيها الأخ في الله: إذا رُمتَ رسوخَ الحقائق والقيمِ في أولادك وتلاميذكَ وأحبابِكَ فلن تجدَ كالعقيدةِ والإيمان هدفًا تربطُ به التربيةَ والتعليمَ والوَلَد، فهي الدَّافعُ الذي لا ينام في الليل والنهار، في العسر واليسر، في السرِّ والعلانية، وفي المنشط والمكره.
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوةُ في الله: ومن فوائد هذا الحديث العظيم إدراكُ منهجِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الكلام، وهو الذي آتاهُ اللهُ جوامعَ الكَلِم، والبلاغةَ في المنطق، والقصدَ في المعاني.
تأمَّل ذلك- أخي المسلم-، ما هو السرّ في اجتماع هذه الأصناف المختلفة في الفوز بنعمة الظّلِّ البارد الممدود؟!.
ما الذي يربطُ بين هذهِ السبع خِصال حتى اجتمعت في سياق واحد في الحديث وفازَ أصحابُها بظلّ العرش يوم القيامة؟ ما الذي يربطُ بين حاكم عادل وشاب عابد؟ بين رجلٍ في المسجد وآخرَ نجا من فتنة امرأة ذات منصب وجمال؟ بين رجلين تحابا في الله ورجلٍ خلا بنفسه فبكت عيناهُ من خشية الله؟! ولماذا خصَّهم اللهُ جميعًا بنعمة الظل البارد يوم الحشر؟!.
إنَّها أصنافٌ مختلفةٌ فيما يبدو من أوَّل وهلة، ولكنَّها تتَّفقُ وتأتلفُ عندَ تدقيق الفِكر وتوجيه النَّظر.
تأمَّلوا حالَهم في واقع الحياة: الإمام الحاكمُ والمسؤولُ النافذُ يستطيعُ بسلطانه ونفوذه أن يظلمَ من هم تحتهُ، يستطيعُ أن يمنع النَّاس حقوقهم ويحتجبَ دونهم، ولا يهتمّ إلاَّ بمصالحه الذَّاتية، ومع ذلك صبر على حرارة القيام بالعدل والقسط والرحمة، فكافأه اللهُ بالظلِّ البارد يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه!.
الشابُّ في فترةٍ من العمر قويَّة، تدعو إلى التسيُّبِ وطلبِ الزَّهوِ من أبوابه جميعًا، ومع ذلك صبرَ ونشأ في العبادة التي كفَّ بها نفسه عن شهواتها وملذَّاتها لوجه الله -تعالى-، فكافأه اللهُ على حرارة تلك المجاهدة بالظلِّ البارد يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه.
الرجلُ الذي صبر على الارتباط بالمسجد والمحافظة على الصلوات في أوقاتها مع قوة داعي الزمان للنزهة والنوم والتفرُّج على الحلال والحرام، رجلٌ صبورٌ مراقبٌ لله، فكافأه اللهُ على حرارة تلك المجاهدة بالظلِّ البارد يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه.
الرجلان اللذان تحابَّا في الله، صبَرَا صبرًا عظيمًا على حقوق الأخوَّةِ الصَّادقة، في زمن يدعو كلُّ شيءٍ فيه إلى قطعها وجعلها مظهريَّةً جوفاء، صبرَا على حقوق تلك الأخوة التي قال فيها الشاعر يومًا:
سمعنا بالصديق ولا نراهُ | على الأيامِ يوجَدُ في الأنامِ |
وأحسبه مُحَالاً أوردوه | على وجه المجاز من الكلام |
صبرا على المحافظة على سُمُوّ تلكَ الأخوة، فكافأهما اللهُ على حرارة تلك المجاهدة بالظلِّ يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه.
والرجلُ الذي دعتهُ امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال، دعتهُ إلى الخيانة والمعصية، فقال كلمةً يَعِزُّ ويندُرُ وجودُها، قال: إنِّي أخاف الله ربَّ العالمين! هذا الرجلُ صبرَ صبرًا عظيمًا لله، فكافأه اللهُ على حرارةِ تلك المجاهدة ببرودَةِ الظِّلِّ في يومٍ لا ظلَّ فيه إلاَّ ظلُّ اللهِ تعالى.
والرجلُ الذي أخفى صدقتَهُ عن نفسه، صبرَ على حرارة مجاهدة الرياء في النفس وطلب السُّمعة عند الخلق مُراقبةً لله تعالى، فكافأه اللهُ ببُرودة الظِّلِّ يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه.
والذي ذكر اللهَ خاليًا ففاضت عيناه صبرَ على حرارة طلبِ نظرِ النَّاسِ ومدحهم لهُ بخوف الله تعالى والزهد، فكافأه اللهُ تعالى ببُرودة الظلِّ في يومٍ تدنو فيه الشمسُ من الرؤوس.
جميعُ هؤلاء جاهدوا أنفسهم، وراقبوا ربَّهم -عز وجل-، وصبروا على الحق وحرارة المجاهدة، فكان جزاؤهم ظِلّ الله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه.
تأمَّل - أخي المسلم- في سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، اقرأها بعين الفقه والحكمة، فإنَّ فيها الخيرَ الكثير، والهدايةَ الوفيرة.
نسألُ اللهَ التوفيقَ إلى ما يحب ويرضى.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.