الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
معاشر الصالحين: نعود لنواصل التجوال والتطواف في بلاد الأنس والأفراح، حيث الوجوه الضاحكة التي لا يخالط التقطيب بشرها، والأجواء الصافية التي لا يملك الحزن تعكيرها، والنعم المتواصلة التي لا يستطيع أحد قطعها، وبنود الإكرام التي لا يعرف...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمـــُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: نعود لنواصل التجوال والتطواف في بلاد الأنس والأفراح، حيث الوجوه الضاحكة التي لا يخالط التقطيب بشرها، والأجواء الصافية التي لا يملك الحزن تعكيرها، والنعم المتواصلة التي لا يستطيع أحد قطعها، وبنود الإكرام التي لا يعرف أحد كنهها وسرها.
حيث الأيدي بالعروة الوثقى متعلقة، والألسن بشكر نعم الله منطلقة، حيث ثياب السعادة سابغة، وأقمار السرور بازغة، نعود لنواصل مساكنة من تسكن القلوب بذكرهم، وتتعطر النفوس بأخبارهم؛ إنهم سكان الجنان، وأهل الرضوان، الذين حل الفرح بواديهم، ونزل الأنس بناديهم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فتخيل نفسك -رحمك الله- وأنت مع أهل الرضوان في النعيم المقيم، والأنهار الجارية، والحور الحسان، والرضا والرضوان.
فبينما أولياء -وأنت فيهم- تحت ظل طوبى يتحدثون إذ أمر الله منادياً من ملائكته فنادى أحبابه لينجزهم ما وعدهم من غاية كرامته وعظيم مسرته، فلم تشعر إلا ونداء الملك يهز أركانك فرحا ونشوة: يا أهل الجنة! يا أهل الجنة! إن لكم عند الله لموعداً؛ فيتعجبون ويستغربون! أي نعيم أعظم مما نحن فيه؟! فيناديهم الملك: إن الله يستزيركم فزوروه.
فبينما هم كذلك وقد كادت قلوبهم أن تطير فرحا وسرورا إذ أقبلت الملائكة يقودون نجائب بختاً خلقت من الياقوت، لا تروث ولا تبول، ذوات أجنحة، قد علاها الحرير الأحمر، فتخيل حسن تلك النجائب وحسن صورها، نجائب من ياقوت الجنة في حمرته وصفائه وإشراق نوره وتلأْلُئِهِ، حين يمشى فى تحركه.
فتخيل إقبال الملائكة بها إليهم، حتى إذا دنوا من أوليائه أناخوها، أقبلت الملائكة على أولياء الله فقالوا بحسن نغماتهم: يا أولياء الرحمن، إن الله ربكم يقرؤكم السلام، ويستزيركم، فزوروه؛ فلما سمعها أولياء الله وسمعتها معهم وثبوا مسرعين إلى ركوبها حبا وشوقا إلى ربهم.
فلما استووا عليها، واستويت على نجيبتك معهم، أثاروا نجائبهم فثارت، فثار عجاج المسك لوثوبها، علا ذلك ثيابهم، ثم استوت النجائب صفًّـا واحداً معتدلاً فصاروا موكباً معتدلاً لا عوج فيه، فأعظِمْ به من موكب! وأعظم بهم من ركبان! فلما اعتدل الصفُّ واصطفت التيجان تبادروا بينهم: سيروا بنا إلى ربنا.
فتخيل النجائب حين أخذت في السير بأخفاف من الياقوت سيراً واحداً بخط واحد تهتز أجسام أولياء الله عليها من نعيمها، وأكتافهم متحاذية في سيرها، فانطلقوا كذلك، تثير رواحلهم المسك بأخفافها، وتهتز رياض الزعفران بأرجلها.
فلما دنوا من أشجار الجنة، رمت الأشجار إليهم من ثمارها، وتزحزحت وتنـحت الأشجار عن طريقهم؛ لِـما ألهمها مولاها، حتى لا يفرق بين أولياء الله؛ لأنهم رفقاء في الجنة لتحابّهم في الدنيا.
فتخيل إذ منّ الله عليك وأنت لاصق برفيقك منكبك بمنكبه، وقد دنوتما من أشجار الجنة، فنفضت ثمرها، فوقعت الثمار في أيديكما وأيدي أولياء الرحمن، فهم يسيرون فرحين، ويلتفت بعضهم إلى بعض يتحدثون ويتداعبون في سيرهم، يحمدون ربهم على ما صدقهم، وعلى ما أباح لهم من جواره.
فتخيل نجاءبهم تطير في سيرها باعتدال موكبهم، ونور وجوههم، والملائكة تزفهم زفا إلى ربهم، حتى انتهوا إلى وادٍ عظيم لا يستطيع أحد أن يدرك عظمته وسعته وأنواره وأسراره، مقابل لعرش الرحمن.
فتخيل سعة تلك البقعة، وحسن نورها ببهجتها وزهرتها، وقد وضعت الزرابيّ والنمارق والكراسي على كثبان المسك، وعرف كل منهم ما أعد له، لأهل صفوته من عباده، وأحبائه من خلقه، فتخيل فرحتهم وهم يجلسون على تلك الكراسي والزرابيّ والنمارق؛ فأعظِمْ بِه من مقعـد! وأعظِم بولي الله متربِّعاً!.
فلما أخذ القوم مجالسهم، واطمأنوا في مقعدهم، والحُـجُب تسطع في نورها، فتخيلهم في مقعدهم الصدق الذي وعدهم مولاهم ومليكهم في القرب منه على قدر منازلهم ومراتبهم: فالأنبياء ثم الصديقون ثم الصالحون؛ فأعظِمْ بِه من مشهد! وجَلّ وتكبر من مَزُور!.
... تخيل هذا المشهد من إشراق كراسيهم ومنابرهم، وما ينتظرون من رؤية ربهم، ثم طارت روحك شوقاً إلى ربك...
فلما استوى بهم المجلس، واطمأن بهم المقعد، وضعت لهم الموائد، ليكرم الله-عز وجل-زواره بالإطعام والتفكيه لهم، ووضعت الموائد لأولياء الله-عز وجل-، وقامت الملائكة على رؤوسهم معظمين لزوار الرحمن، فوضعت الصحاف من الذهب، فيها الأطعمة وطرائف الفاكهة، مما لم يخطر على بال، لأنه حقاً على كل مزور أن يكرم زائره، فكيف بالمزور الكريم، والرب الأعظم الواحد الجواد الماجد العظيم!.
فتخيل وهم يأكلون فرحين مستبشرين بإكرام مولاهم لهم، حتى إذا فرغوا من أكلهم، قال الجليل لملائكته: اسقوهم، فأتتهم الملائكة بأكواب الدر وكؤوس الياقوت، فيها الخمر والعسل والماء والألبان وما شاء الله من أنواع المشارب.
فتخيل تلك الكاسات، وتلك الأكواب بأيدي ملائكة الرحمن، يناولونها أولياء الله بفرح وسرور واستبشار وأمن من كل خوف، فلما سقتهم الملائكة ما أمرهم الله به من الأشربة، قال الجليل: اكسوا أوليائي.
فتخيل الملائكة وقد جاءت بالحلل التي لم يلبسوا في الجنة مثلها، ثم قاموا على رؤوسهم فألبسوها أهل كرامة الله ورضوانه.
فتخيل وقد صيروها من فوق رؤوسهم حتى صارت على أقدامهم، فأشرقت بحسنها وجوههم.
ثم أمر الجليل -تبارك وتعالى- أن طيبوهم، فارتفعت السحاب بحسنها، وشدة ضيائها ونورها، لحمل ألوان الطيب من المسك، وجميع طيب الجنان، ما لم يجدوا مثل رائحته، فيا له من مجتمع ما أكرمه! ويا له من مشهد ما أعظمه! ويا لها من جلسة ما أجملها وألذها وأحسنها وأطيبها وأكملها!.
هناك، وما أدراك ما هناك؟! هناك في تلك الأجواء النورانية ترى أهل الله تراهم رأى العين وتقترب منهم، ترى هناك سيدنا محمدا -صلى الله عليه وسلم- الحبيب الأكرم الذي طالما اشتاقت نفسك إليه، وتاقت روحك إلى رؤيته، وطمحت جوارحك إلى التملي بطلعته، تراه -صلى الله عليه وسلم- وقد أخذ المكان المقرب من ربه بما لم يخطر على بال أحد، تراه بنوره وبهائه فتفرح برؤياه.
كيف لا؟ وهو الذي دلك على الله. كيف لا؟ وهو الذي علمك الدين، ودلك على رب العالمين. كيف لا؟ وهو الذي أنزل عليه القرآن. كيف لا؟ وهو الذي عاش وهمّه أمته يدعوها ويدعو لها، ويشفع لها، ويستغفر لها، ويبكي من أجلها.
في ذلك الوادي الأفيح تراه -صلى الله عليه وسلم- وإلى جواره إخوانه من الأنبياء والمرسلين، ترى هناك الأب الأكبر آدم -عليه السلام- فتشعر بالحب والشوق والحنان إليه، ترى نوحاً العبد الشكور فتتذكر جهاده وصبره ودعوته، ترى الخليل إبراهيم خليل الرحمن الذي اجتباه ربه واصطفاه وأثنى عليه وقال في حقه: (وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) [النساء:125]، تراه وهو النبي الحبيب الأقرب شبها بسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، النبي الذي كان رسولنا يكنّ له حبا وتقديرا عظيمين، حتى إنه لما سُئل: كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم". كان -صلى الله عليه وسلم- يلاحظ ارتقاء سيدنا إبراهيم ومكانته.
هناك في الوادي الأفيح، ترى نبي الله موسى كليم الله ومعالجته لبني إسرائيل، ترى عيسى -عليه السلام- فتذكر عبوديته ودعوته وتبرأه لمن جعلوه ابنا لله، تراه فتذكر قول الله: (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) [المائدة:116]. ترى داود وسليمان وأيوب وهوداً وصالحاً وكل أنبياء الله ورسله.
ترى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ترى الصديق أبا بكر -رضي الله عنه- صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجليسه وحبيبه وأنيسه، ترى الفاروق عمر -رضي الله عنه-، ترى عثمان وعليا، رضي الله عنهم أجمعين.
ترى الصالحين من العلماء، والصالحين والعبّاد والأخيار، وكل أهل الله من جميع الأعصار والأمصار، تراهم وقد اجتمع الكل في مقعد الصدق في مأدبة الله، وعلى مؤائد إكرامه وإنعامه، وقد تعلقت النفوس بالله، وصفت من الأكدار، ونقيت من الأدران، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر!.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
معاشر الصالحين: فلما أكلوا وشربوا وألبسوا الحلل، وتطيبوا بأنواع الطيب، شخصت أبصارهم وتعلقت قلوبهم، فبينما هم كذلك وفي ذلك إذ رفعت الحجب، فبدا لهم ربهم بكماله، فلما نظروا إليه، ناداهم حبيبهم وقال لهم: مرحباً بعبادي! فلما سمعوا كلام الله بجلاله وحسنه، غلب على قلوبهم من الفرح والسرور ما لم يجدوا مثله في الدنيا ولا في الجنة؛ لأنهم يسمعون كلام من ليس كمثله شيء.
فلو تخيلت نفسك وقد سمعت قول الله لأوليائه مرحّباً بهم، ثم طار روحك فرحاً به وحباً له، لكان ذلك قليلا، فحياهم بالسلام، قال -تعالى-: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) [الأحزاب:44]، فردوا عليه: أنت السلام ومنك السلام ، ولك حق الجلال والإكرام.
ثم قال لهم جل جلاله وعز جاهه: مرحبا بعبادي وزواري، وخيرتي من خلقي، الذين رعوا عهدي، وحفظوا وصيتي، وخافوني في الغيب، وقاموا مني على كل حال مشفقين، وقد رأيت الجهد منهم في أبدانهم أثرة لرضاي عنهم، قد رأيتُ ما صنع بكم أهل زمانكم، فلم يمنعكم جفاء الناس عن حقي؛ تمنوا علي ما شئتم.
فقالوا عند ذلك: وعزتك وجلالك، وعظمتك وارتفاع مكانك، ما قدرناك حق قدرك، ولا أدينا إليك كل حقك، فأْذَنْ لنا بالسجود.
فقال لهم ربهم: إني قد وضعت عنكم مؤنة العبادة، وأرحت لكم أبدانكم، فطالما أتعبتم الأبدان، وأكننتم لي الوجوه، فالآن أفضيتم إلى كرامتي ورحمتي، فتمنّوا عليّ ما شئتم.
أخرج البخاري في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، قال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استعطيتم ألا تغلبوا على صلاتكم قبل طلوع الشمس وقبل غروب الشمس فافعلوا".
يقول ربنا: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة:22-23]، ويقول (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس:26]، فجمهور المفسرين على أن الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله -تعالى- كما في قوله -تعالى-: (لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:35].
قال ابن القيم -رحمه الله- في النونية:
ويَرَوْنَهُ سبحانَهُ مِن فوقهم | نَظَرَ العِيان كما يُرى القَمَرانِ |
هذا تواتَرَ عن رسول اللهِ لم | يُنْكِرْهُ إلا فاسدُ الإيمانِ |
وأتى به القرآنُ تصريحاً وتعـ | ـريضاً هُمَا بسياقه نوعان |
وهِيَ الزيادة قد أتَتْ في يونُسٍ | تفسير مَن قد جاء بالقرآن |
ويَرَوْنَهُ سبحانَهُ مِن فَوْقِهِمْ | نَظَر العيَان كما يُرى القمران |
فتخيل بعقلك نور وجوههم وما يداخلهم من السرور والفرح حين عاينوا مليكهم وسمعوا كلام حبيبهم وأنيس قلوبهم وقرة أعينهم ورضا أفئدتهم وسكن أنفسهم، نظروا إلى من لا يشبه بشيء أبداً فبلغوا بذلك غاية الكرامة ومنتهى الرضا والرفعة.
ما ظنكم يا أحباب الله بالنظر إلى العزيز الجليل الذي لا يقع عليه الأوهام، ولا يحيط به الأذهان، ولا تُـكَـيِّـفُهُ الفِـكر، ولا تحده الفِـطن؛ الذي لا تأويه الأرحام، ولم تنقله الأصلاب، ولا يبدو فيكون مطبوعاً متنقلاً؛ الأزلي القديم، الذي حارت العقول عن إدراكه، فكـلّت الألسنة عن تمثيله بصفاته، فهو المنفرد بذاته عن شبه الذوات، والمتعالي بجلاله على مساواة المخلوقين، فسبحانه لا شئ يعدله، ولا شريك يشاركه! استسلم لعظمته الجبارون، وذُلَّ لقضائه الأولون والآخرون، أحاط بالأشياء علماً، وسمع أصواتها سمعاً.
فلما سُـرَّ أولياء الله برؤيته، وأكرمهم بقربه، ونعـَّم قلوبهم بمناجاته، واستماع كلامه، أذن لهم بالانصراف إلى ما أعد لهم من كرامته ونعيمهم ولذاتهم، فانصرفوا على خيل الدر والياقوت، فما ظنك بوجوه نظرت إلى الله -عز وجل-، وسمعت كلامه، كيف تضاعف حسنها وازداد جمالها؟.
فما زالت في مسيرتها حتى أشرفت على قصورها، فلما بدت لخدامها وقهارمتها وولدانها، بادر كل واحد منهم خدامه وقهارمته مستقبلة من أبواب قصوره، فلما دخل قصوره بادرت إليه أزواجه، فلما نظرت زوجاته الى جمال وجهه قد ضوعف في حسنه وإشراقه ونوره، ازددن له حبـاً وعشقاً، وأشرقت قصوره وقبابه وخيامه وأزواجه من نور وجهه وجماله، وازدادت أزواجه حسناً وجمالاً ووجاهة وحشمة.
واشتاقوا إلى منادمة أنهار الجنة، ففرشت لهم نمارق الجنان وزرابـيـها على كثبان المسك والكافور، وتقابل الإخوان على السرر والشراب، فقامت الولدان بالكاسات والأباريق والأكواب، يغترفون من انهار الجنة، أنهارهم الخمر والسلسبيل والتسنيم.
فبينما هم في نعيمهم وأنسهم إذ اطلع عليهم ربهم من فوقهم فقال: "يا أهل الجنة، هل أزيدكم؟"، ثم يقول: "أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا"، فذلك قوله -تعالى-: (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ) [التوبة:72]، فلو رأيت وجوههم وقد أشرقت بسرور كلام مولاهم ورضاه عنهم وما أكرمهم به من النعيم المقيم الدائم أبداً! فأعظِمْ بِهِ مِنْ إكرامٍ! وأعظِمْ به من نعيم! وأعظِمْ به من رضوان!.
أيها الأحباب الكرام: إنها غاية الغايات ومنتهى الأمل وميزان النعيم المطلق ورجاء المؤمنين والمؤمنات وحلم أهل الجنة وبالغ سرورهم ومحط أنظارهم أن يروا خالقهم صاحب النعيم كله، إنه الوعد الإلهي الحق.
أيها الكرام: إن روح الإنسان ونفسه لتستمتع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون، أو في النفس، أو جمال الخلق البشري؛ في نظرة إلى الفجر الوليد، أو الظل المديد، أو الصحراء المنسابة، أو الروض البهيج، أو الليلة المقمرة الصافية المنيرة، إلى آخر مطالع هذا الجمال في الوجود.
فكيف بالعين وهي تنظر لا إلى جمال صنع الله، ولكن إلى ذات الله العلي القدير ذي الجلال والإكرام؟!.
نعم أيها الأحباب! إنه مقام نناله إن شاء الله بإذن الله تعالى وبمدده وتثبيته وفضلة وكرمه، وإذا حدث النظر ووفقك الله لهذه الرؤية التي تتضاءل أمامها أنعُم الجنة لا تريد أن تحيد عن رؤية ربك ولم يشغلك أمر سوى النظر إلى خالق الوجود كله، ليس الوجود أمام ناظريك في الجنة وإنما خالق الوجود، وموجد الحسن والجمال، وخالق النور، ومبدع الأشياء.
فإذا كانت حورية من الحور العين وهي من خلق الله إذا اطلعت على السماء الدنيا أضاءت ما بينهما، فكيف وأنت في حضرة الجبار خالق الجنة رب الوجود؟ كيف تكون الجنة من حولك؟ وأي إشراق لها وقد تجلي الله سبحانه لها؟.
وماذا يكون حال أشجارها وزعفرانها وأنهارها حينما تصبح في نور الرحمن؟ إن الرؤيا قمة الأمل، وقمة السعادة، فيا هناء الروح والنفس والجسد! فلْنَسْعَ إلى فيض السعادة الغامر، وفيض الروح المقدس الطهور؛ ولا نكون من الذين قال الله عنهم: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) [المطففين:15].
هؤلاء هم الذين حجبت قلوبهم المعاصي والآثام، حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا، وطمستها حتى أظلمت وعميت عن الآخرة؛ والرؤيا لا تكون إلا لمن صفت نفسه، وشفّت روحه، وكان يعيش في مملكة الموحدين الذاكرين العابدين، وكان من زمرة الصادقين المحسنين.
أيها الأحباب: إن هذه المعاني الكريمة هي التي يجب أن تظل ماثلة في وجدان كل مسلم، حاضرة في ذهنه، هي أول أمره وأوسطه ومنتهاه.
إن قلباً أدرك هذه الأسرار ووقف على هذه الأنوار لا يمكن أبداً أن يكون له هدف أكبر ولا أرقى ولا أهم من هذا الهدف، وهو التواجد في زمرة الناظرين إلى رب العالمين، فمن عرف ذلك وقف هنالك وتأمل في أمره، وراجع نفسه، ونظر إلى الصوارف والموانع فأزالها وحاربها بالذكر والفكر والدعاء.
إن الحرمان كل الحرمان أن تشغل عن الله، وتنصرف عنه، فيا شباب الإسلام، ذكورا وإناثا، اجعلوا هدفكم التواجد مع زمرة الناظرين، فلا تشغلنكم المباريات عن الصلوات والذكر والتفكر، ولا تشغلنكم البرامج التافهة الضالة المضلة، من مثل برامج اكتشاف المواهب الغنائية والتي انتشرت وذاعت فلا تولي وجهك إلا وجدت الدعاية لها، إلا من سلم الله، وهي برامج ليست لاكتشاف المواهب وإنما لجلب المصائب، وليست لتنمية القدرات وإنما لاستنزاف المقدرات.
عباد الله: أليس كلنا نرجو أن نكون من الناظرين إلى الله؟! أليس كلنا نطمع ونطمح إلى ذلك؟ فكيف السبيل إذاً؟ يقول ربنا: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110].
اللهم ألهمنا سبل الرشاد، واجعلنا من خيرة العباد...
تأملات في بعض مشاهد يوم القيامة (1)
تأملات في بعض مشاهد يوم القيامة (2)