البحث

عبارات مقترحة:

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

الوتر

كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...

الوارث

كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...

الوفاء مع الوالدين

العربية

المؤلف رشيد بن إبراهيم بو عافية
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. أولوية واستحقاق الوالدين للشكر والوفاء .
  2. من مظاهر ترك الوفاء مع الوالدين .
  3. من أحوال الأوفياء من المؤمنين .

اقتباس

حديثنا اليومَ عن خُلُقٍ كريمٍ من أخلاقِ الأبناء، وجودُهُ في الولدِ والبنت دليلٌ على شرفِ النفس وحسن التربية؛ وانعدامُهُ دليلٌ قاطعٌ على خِسّةِ الطبعِ، ودناءةِ النفسِ، وسوءِ التربية، والأنانيّة؛ إنَّهُ... وهل يُعقلُ -معشر المؤمنين- نسيانُ من دفعَ شبابهُ ثمنًا لشبابك، ووقتهُ ثمنًا لوقتك، ودموعهُ ثمنًا لابتسامَتك، وعَرَقهُ ثمنًا لرجولتك؟ بل ودفعَ كرامتهُ في كثير من الأحيان ثمنًا...

ثم أما بعد: أيها الإخوةُ في الله: حديثنا اليومَ عن خُلُقٍ كريمٍ من أخلاقِ الأبناء،  وجودُهُ في الولدِ والبنت دليلٌ على شرفِ النفس وحسن التربية؛ وانعدامُهُ دليلٌ قاطعٌ على خِسّةِ الطبعِ،  ودناءةِ النفسِ،  وسوءِ التربية، والأنانيّة؛ إنَّهُ خُلُقُ الوفاءِ مع الوالدين.

شعورٌ من أرقّ المشاعر وأجودِها في الأبناء، يقتضي ردَّ الجميل، والاعترافَ بالفضل لأعظم صاحب فضلٍ عليك بعد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-،  فاللهُ هو الخالقُ،  والوالدانِ هما سببُ خُروجنا من العدم إلى الوجود.

والكريم يشكر من تسبب لهُ في المعروف ولو من غير قصد،  فكيفَ بمن يسعدُ لنجاحِك،  ويبكي لمصابِك، ويَجهدُ لإعطائك،  ويدأبُ لفلاحِك،  ويطرَبُ لأولادك،  ويدعو الله بُكْرَةً وعشيًّا بحفظِكَ وسلامَتِك،  ويتلذذ بنعيم السعادة إن أسعد اللهُ بيتَك،  وتقرُّ عينه بمعافاتك؟. 

فهل يجزي مثلُ هذا أن تحمِلَه على رأسك،  أو تنفق عليه من حُرّ مَالك،  أو أن تدعوَ له في صلاتك؟  كلاَّ!  فإنَّ رأسَكَ ومالَكَ ونجاحكَ وقوّتَكَ كلُّ ذلكَ بفضلهما لو تذكُر!.

 قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمَا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرَا) [الإسراء:23-24].

وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان:14].

الوالدان -أيْ أخي- أنفقا عليك في وقتٍ لا تملك لنفسك فيه كسباً،  وهَشَّا لك وفَرِحا بمقدَمِكَ وأنت لا تملك فلساً،  وَقَسَما لك من طعامهما وهما لا يريدان منك رداً،  فقل لي بربِّك: هل تُقارن إحسانَهما بإحسانِ مُحسنٍ من البشر؟!.

 بل إنَّ الولدَ يعقُّ أمَّهُ وأباه،  وربَّما يسبُّهما أو يضربُهما أو يطرُدُهما أو يأكلُ ويُجيعهُما، فإذا ما تعرَّى هذا الأحمَقُ الشقي نزعت الأمُّ ما عليها وغطَّته،  وإذا ما جاعَ آثرته بطعامها، وإذا ما مرضَ فزعت وحزنَتْ،  وإذا انقطعت حِبَالُهُ نزعت الأمُّ ضفائرَها وصنعت له حِبَالاً،  وإذا ما ضاقت به الدنيا لم يجدْ إلاَّ القدَمَ التي أضاعها تُسرعُ إليه وتحنُّ عليه؛  فكيف لا يفي وَلَدٌ بعد هذا مع والديه؟!.

عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: أوصاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعشر كلمات، قال: "لا تشرك بالله شيئا وإن قُتّلْتَ وحُرّقت، ولا تَعُقَّنَّ والديكَ وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك" صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.

ناده قلــبُ الأمِّ:

أغرى امرؤٌ يوماً غلاماً جاهــلاً 

بِنُقُودِهِ كيْ ما ينـال به الوطـَــرْ

قـال ائتني بفؤادِ أمِّك يـا فتى

ولك الدراهمُ والجواهــرُ والدُّرَر

فمضى وأغْرَزَ خنْجَراً في صدرها

والقلبَ أخرجه وعـاد على الأثَر

لكنَّهُ مِن فرْطِ سُــرعته هــوى

فتدحرج القــلبُ المقطَّع إذ عثر

نـاداه قلب الأم وهو معفــرٌ

ولدي حبيبي، هل أصابك من ضرر؟!

فكأن هذا الصوت رغم حُنُـوِّهِ

غضَبُ السماء على الغلام قد انهمر

فـارتدَّ نحو القلــبِ يغســلُهُ بما

فاضَتْ به عيناهُ مِن دمع العــبَر

حـزناً وأدركَ سـوء فعْلَتِهِ الَّتي

لم يأتها أحدٌ سواه من البــشر

واستل خنجره ليطعن نفسَهُ

طعناً فيبقى عــبرةً لِمَــن اعتـبر

ويقول يـا قــلبُ انتقِمْ مِنِّي ولا

تغْفِرْ فإنَّ جــريمتي لا تُغْتَفَر
كُفَّ يــداً ولا تـذْبَحْ فؤادي مَرَّتَيْنِ على الأثر

نسأل الله السلامة والعافية،  ونسأله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة في الله: مظاهر ترك الوفاء مع الوالدين كثيرة،  فإلى أهمها، نسألُ الله العافية:

من أشدّ تلك المظاهر طعنًا في إحسان الوالدين: نسيانُ الوالدين بعد وفاتهما، وعدم تذكُّرهما بالزيارة والدعاء والصدقة.

وهل يُعقلُ -معشر المؤمنين- نسيانُ من دفعَ شبابهُ ثمنًا لشبابك، ووقتهُ ثمنًا لوقتك، ودموعهُ ثمنًا لابتسامَتك، وعَرَقهُ ثمنًا لرجولتك؟ بل ودفعَ كرامتهُ في كثير من الأحيان ثمنًا لكرامتكَ وتعليمك وتثقيفك؟.

هل يُعقلُ في ميزان الأوفياء أن يُنسى بعد موته في ليلة أو بعض ليلة؟  فلا أحدَ يزورُ قبرَهُ،  ولا أحد يدعُو لهُ بالرحمة والغفران،  ولا أحد من أولاده يتصدَّقُ عليه! هذا -والله!- عينُ الخيانة والهجر!.

وأين هذا من حال الأوفياء من المؤمنين؟ هذا سعد بن عبادة -رضي الله عنه- تموتُ أمُّهُ وهو غائبٌ عنها، فتتوقُ نفسُهُ إلى الصَّدقة عليها، عساهُ يُرجعُ ولو جُزْءا يسيرًا من حقِّها عليه، فيسألُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: يا رسول الله، إن أم سعد ماتت -وأنا غائبٌ عنها-، فأي الصدقة أفضل؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الماء"،  فحفر بئراً،  وقال: هذه لأم سعد. رواه أبو داود وهو حديث حسن.

بل وفي البخاري يتصدَّقُ هذا الصحابيُّ الجليلُ على أمَّه ببستان كامل وفاءً لحقها: قال-رضي الله عنه-: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها. رواه البخاري. وحائطُ المخراف بستانٌ مشهورٌ في المدينة يبلغُ ثمنهُ مئات الملايين.

ومن أشنع صور الخيانة مع الوالدين في حياتهما: الانشغالُ عنهما في الكِبَر: والكِبَرُ مظنَّةُ الضَّعف والحاجة.

وعجيبٌ واللهِ حالُكَ أيها الإنسان! ألم تكُن -وأنتَ صغيرٌ ضعيفٌ محتاجٌ- ألم تكُن تبكي وتصرُخُ إذا قامت عنكَ أمُّكَ ولو للحظة؟  ألم تكُن أمُّكَ تضحِّي في تلك اللحظة بنومها وراحتها وسعادتها وزينتها وشبابها من أجل أن تحقِّقَ أنتَ حاجتَكَ إلى الرضا والحنان؟.

ألم يكنْ والدُكَ يقاسي عذاباتِ تحصيلِ القوتِ من أجلك،  وتنتظرُهُ بشوقٍ في المساءِ ليعطيكَ ما يحملُ في يديه؟!.

ها أنتَ اليومَ قويٌّ كبير؛ فما الذي أصابكَ عند قوَّتكَ وضعفهما؟! تترُكُ زيارةَ أبيكَ وأمّكَ الأسابيعَ والشهور وكأنَّكَ تَظُنُّ أنَّهما لا يشتاقان إليكَ وأنت بعيدٌ عنهما بين زوجتك وأولادك؟!.

أمُّكَ الآنَ ضعيفةٌ مريضة؛  لماذا لا تعالجُها بروح طيبةٍ راضية؟! وكأنّكَ نسيتَ اليومَ الذي كانت تسعى بك حافيةً إلى المستشفى، باعت من أجلكَ الراحةَ والشباب، والذَّهبَ والثياب، واليومَ لا تسأل عنها، ولو سألتكَ ثمنَ الدَّواء رميتَها بالبصر ورميتَ لها -على كُرهٍ- ربعَ الثمن أو أقل!.

 ما الذي أصابكَ عند قوَّتكَ وضعفهما؟! ما الذي أنساكَ حوائجَ الوالدين عند الكِبَر؟ آلزّوجةُ الجميلة؟ أمِ الأولاد؟ أم أنستكَ سيَّارتُكَ الفارهة ومنصِبُكَ في المجتمع، وحاجاتُ المستقبل التي ينفخُ فيها الشيطانُ صباحَ مساء؟!.

واللهّ! لا باركَ اللهُ في مستقبل يقومُ على جرح كرامةِ الوالدين الكريمين، وخيانتهما في الحياة!.

في صحيح مسلم أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "فهل من والديك أحد حي؟"، قال: نعم، بل كلاهما، قال:"فتبتغي الأجر من الله؟"، قال: نعم، قال: "فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما". وفي رواية: "ففيهما فجاهد" متفق عليه.

نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى،  اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.